لا تحدثني عن الدين والأخلاق بل حدثني عن القانون!

ليس هناك شعوب ومجتمعات تتحدث عن الأخلاق وتتشدق بها أكثر من الشعوب العربية والإسلامية. فهي تنظر إلى كل شيء بمنظار أخلاقي ديني، على اعتبار أن الدين ليس منفصلاً عن الحياة في العالمين العربي والإسلامي، بل هو الحياة بحد ذاتها. لا عجب إذاً أن يكثر في بلادنا الدعاة والخطباء والمفتون والواعظون والمرشدون الأخلاقيون. على العكس من ذلك لا وجود للدين في الحياة العامة في البلاد الغربية. وربما انقرض الواعظون منذ زمن بعيد. وقد لا تجدهم إذا بحثت عنهم إلا في الروايات الأدبية المكتوبة في القرون الماضية. لا دور للكنائس إلا ما ندر في الحياة الغربية، ولا يرتادها الناس إلا بأعداد قليلة جداً. هل سمعتم يوماً عن فتاوى دينية تحلل هذا وتحرم ذاك في البلاد المتقدمة؟ بالطبع لا.
أما لو نظرت في جنبات البلاد العربية والإسلامية، فلأخذت الانطباع أن الناس فيها تمارس أعلى درجات الأخلاق والسلوك الراقي. كيف لا وهي تحكّم الأخلاق والدين في كل تصرفاتها. ولو استمعت إلى بعض البرامج الدينية في بعض الإذاعات والتلفزيونات العربية لاعتقدت أن الشعوب لا يمكن أن تقترف أي خطيئة حتى لو كانت تذوق نقطة من الخمر. ولطالما سمعنا البعض يسأل هذا المفتي أو ذاك عن تناول دواء فيه بعض الكحول. هل هذا حلال أو حرام؟ ولا بد أن تتعجب عندما تسمع شخصاً يسأل إذا كان من الحلال أو الحرام أن تعمل نادلاً في مطعم وتقوم أحياناً بمجرد تقديم لحم الخنزير للزبائن، أو تقوم بغسل صحون فيها بقايا من لحم الخنزير. من يستمع لمثل هذه الأسئلة يأخذ انطباعاً أن الأخلاق والالتزام بالقيم والمثل والخصال الحميدة في أعلى درجاته في البلاد العربية والإسلامية. لكن الحقيقة على الأرض أنه كلما كثر الحديث عن الأخلاق والمواعظ والقيم في بلادنا وجدنا أنه مجرد اجترار لفظي على عينك يا تاجر، وقد ينعدم في كثير من الأحيان في واقع الأمر.
على الرغم من وجود كم هائل من الوعظ والإرشاد والخطباء والقرآن والفقه ومئات المساجد وألوف الوعاظ في بلادنا، ألا أننا في واقع الأمر نعاني من أزمة أخلاق وحسن سلوك. لماذا؟ لأن الإنسان مهما ارتقى أخلاقياً يبقى عرضة للانحراف طالما أن ليس هناك قوانين صارمة تردعه وتلجم تصرفاته. ففي الغرب يكاد يختفى الحديث عن الأخلاق في الكنائس والمدارس والأوساط الاجتماعية، لكن مع ذلك تجد أن الناس هناك رغم عدم تدينهم يسيرون على السراط المستقيم في تعاملاتهم التجارية والاجتماعية، فلا وجود للغش أو التلاعب أو الاحتيال إلا ما ندر. فلا يمكن للبائع ان يبيعك حليباً منتهي الصلاحية أو طعاماً فاسداً رغم أنه لم يسمع في حياته أبداً بالمقولة الشريفة: «من غشنا فليس منا»، ورغم أن الخوري في الكنيسة لم يأت أبداً في خطبة الآحاد على أخلاق البيع والشراء. أما عندنا فيمكن أن تجد شخصاً تصل لحيته إلى حضنه، مع ذلك فهو مستعد أن يغش أفراد عائلته، فما بالك بالآخرين. لماذا؟ لأن الأخلاق لا تردع، بل هي مجرد كلام أو وصايا غير ملزمة. وعندما قال الإمام محمد عبده إنه وجد في الغرب إسلاماً بلا مسلمين، فقد قصد بذلك أن القوانين الإسلامية تطبق في الغرب بحذافيرها، بينما تبقى في بلادنا مجرد مواعظ للاستهلاك الديني.
الفرق بين المجتمعات العربية الإسلامية والمجتمعات الغربية (الكافرة) بأن الأولى لا تعمل بالقانون، بينما تحتكم الثانية في كل تعاملاتها إلى القوانين الملزمة، لهذا كل شيء هناك يسير بدقة ساعة رولكس، ليس لأن الناس هناك فضلاء، بل لأنهم محكومون بالنظام والقانون.
وكل من يخالف القانون يتعرض للعقوبة المادية أو الجنائية. لا أحد يقطع إشارة المرور لأنه يعرف أنه سيدفع الثمن غالياً. ولا أحد يتلاعب بالمواد الغذائية، لأن محله التجاري سيغلق وسيدفع غرامات باهظة، ولا يمكن الصفح عنه لأن قريبه يشتغل في البلدية. لا أحد يمكن أن يستهلك الكهرباء أو الماء بشكل غير قانوني، بل عليه أن يدفع عن كل قطرة ماء يستهلكها، وأن يدفع الضرائب المستحقة على كل ما يجني من مال. والمسألة إذاً ليست أخلاقية، بل قانونية بالدرجة الأولى.
ولطالما وجدنا العرب والمسلمين يصبحون مسلمين حقيقيين عندما يعيشون في مجتمعات غربية يحكمها القانون، ثم يعودون إلى طبائعهم العربية عندما يعودون إلى بلدانهم «الأخلاقية» المزعومة بين قوسين طبعاً.
الأخلاق والدين لا يمكن أن يصنع مجتمعات فاضلة، القانون هو الذي يصنع المجتمعات المستقيمة، بدليل ان العرب يتعرضون يومياً لوابل من المواعظ والإرشادات الدينية والاخلاقية في وسائل الإعلام والمساجد، مع ذلك فمجتمعاتهم فاسدة ومنحرفة حتى النخاع، بينما الغربيون لا يسمعون أي مواعظ أخلاقية أو دينية، مع ذلك لديهم مجتمعات صالحة وعادلة، لأنهم محكومون بالقانون لا بالأخلاق والمواعظ والفتاوى. وما ينطبق على الشعوب ينسحب على الحكام، فالحاكم الغربي ليس أكثر أخلاقاً من الحاكم العربي، فهو لا يسرق، ولا يستغل منصبه السياسي، ليس لأنه صاحب أخلاق وضمير، بل لأن القانون يمسح به الأرض فيما لو حاد عن التعليمات الملزمة. ولطالما فقد بعض المسؤولين الغربيين مناصبهم بسبب اختلاس بسيط لا يصل إلى بضعة دولارات، بينما مازال الكثير من حكامنا لا يميزون بين المال العام والخاص.
مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسية ليست بحاجة لمواعظ اخلاقية ودينية وفتاوى شرعية، بل بحاجة فقط لحكم وسوط النظام والقانون، وعندها ستستقيم كحرف الألف. ويقول الماركسيون في هذا السياق: «القانون أقوى من الأفيون»، على اعتبار أن الدين، برأيهم، يخدر الشعوب، بينما القانون يردعها، ويضعها على الطريق الصحيح. أما الإسلاميون فيستشهدون بالحديث الشريف:» إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علماني:

    كلام صحيح مئة بالمئة ولكن من الصعب أن يفهمه داعش وأتباعه.

  2. يقول على إبراهيم:

    أولا أضم صوتى إلى صوت القائل للأستاذ فيصل بأنه قد تفوق على نفسه بموجب هذه المقالة. ثانيا فى ظنى أن كل الذين أخذوا يؤكدون على دور الدين والشريعة فى خلق المجتمع الرشيد أنهم لم يفهموا مضمون المقال أو أنهم فهموه ولكنهم وكعادة البعض منا إمتطوا صهوة المقال للتعبير عن قضايا وأمور أخرى لاصلة لها بالمقال البتة. فالأستاذ فيصل مسلم إبن مسلم ومطلع على قدر لاباس به بما خاض فيه .لقد قصد الأستاذ فيصل أن يقول: أنه رغم القواعد الأخلاقية والمبادىء السامية المحكمة التى جاءت بها الشرائع السماوية إلا أنها لاتكفى ولا تضمن لنا إقامة المجتمع الرشيد الذى نرضاه ويرضاه لنا الله مالم يكن هناك قانونا يسرى على كافة أفراد المجتمع من حاكمهم إلى محكومهم وقوة حارسة لها وقادرة على تنفيذها وآلية محاسبة… بلادى تحكم الآن من قبل من جاءوا إلى السلطة بإسم الدين ورفعوا لواء الشريعة واليوم لا تجد سارقا ذا قدر أو ناهبا للمال العام أو قاتلا بالجملة أو مفسدا للأخلاق والذمم إلا منهم أو من سدنتهم! وهناك من أراه حاجج بإيراد بعض التجاوزات فى المجتمعات الغربية ممثلة فى أرقى ديموقراطياتها (بريطانيا/أمريكا) إليه نقول إن الأستاذ لم يقل أبدا بأن دولة القانون تنتج لنا ملائكة ولكنها وفى كل حال وبحكم التجربة والممارسة الحية أفضل مما سواها.

  3. يقول Fariza هولندا:

    إذااردنا الاستفاده من التجارب الغربيه ولاسيما أننا نعيش من عشرات السنين هنا نجد أن القانون لوحده لايردع ومثال ذلك الازمه الماليه التي حصلت رغم القوانين الصارمه وبدأ الغرب يبحث من جديد عن الرادع الذاتي ليعود فيكتشفه في نقص الوازع الديني أو الأخلاقي وسميه ماشئت يادكتور فيصل فاجتماع الاثنين هو ما نصبو إليه للنهوض من الازمه والورطات اللي نحن فيها في بلادنا الاسلاميه والله أعلم

  4. يقول سوزان:

    باختصار العلمانية هي الحل ؟ لماذا
    الانسان يوعي مع القوانين- الدين يساعده علي المراوغة انه يقول ان شاء الله ويكمل المراوغة باسم الله والدين- الاله يحاسب بعد عمر طويل- القانون غرامة والا للمحكمة – ليس حبا في النظام الديمقراطي فقط- الاهم النظام ولس فوضي الان شاء الله
    اول مقالة تنقرأ سلام

  5. يقول سوزان:

    اتصور الدين في اوربا اقوي بكثير عن التدين الاسلامي- الشخصية ليست دينية ولكنها متالقمة مع الدين بشكل عظيم – اتعجب متي يتوصل المسلم الي هذه الدرجة دون استعمال اليات الدين علشان اقدر واستطيع ان اصدقه من لسان لا تستطيع تامنه الي نهاية الشارع-

  6. يقول Louay Aagha Deutschland:

    العرب والمسلمين يصبحون مسلمين حقيقيين عندما يعيشون في مجتمعات غربية يحكمها القانون

  7. يقول hani:

    القانون الذي تتحدث عنه موجود عند المسلمين منذ نزول الرساله وتم تطبيقه حتى سقوط دولة الخلافه والقريب والبعيد يتحدث عن عدله وشموله انه من عند الصانع ان جاز التعبير وليس من صنع البشر الذين يظلمون أنفسهم أنظر الى أحوال من عندهم قانون كيف أنهم ساقطون في اخلاقهم واسقطونا معهم بعد ان استعمرونا ووضعوا علينا نواطير لتحرس نظامهم وقوانينهم الساقطه المطبقه علينا نحن عندما حكمنا العالم ملاناه عدلا وهم عندما استعمرونا سفكوا دماءنا وانتهكوا اعراضنا ألم تسمع بمجازرهم وجرائمهم حتى يومنا هذا وانجازاتهم العلميه بنيت على ماوصلنا له من انجازات الم تسمع بعلماءنا واني أبشرك بعودة حكمنا نحن المسلمين قريبا باذن الله وسيملىء الدنيا عدلا وحضارة فنحن المسلمون اصحاب حضارة كما تعرف وان غدا لناظره لقريب والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

  8. يقول هارون . بوحديد، كندا.:

    من الواضح جداً أن كاتب المقال قد أعتمد بالدرجة الأولى على المقارنة بين العالمين العربي و الغربي. متوجا العرب (أو بالأحرى المسلمين) بتاج التدين و الإعتماد على الوازع الأخلاقي و متهما أياهم بالتخلف و الإنحطاط. في حين أنه قد توج الغربيون بالقانون الصارم و العدل وأنهم متفوقون و غير غشاشين. و مما هو واضح أيضاً أن صاحب المقال قد نسى أو تناسى العديد من النقاط نذكر منها أن هناك من الأجناس الغير مسلمة ولا غربية و التي تقدمت و فازت في تقدمها حتى على الغرب ولم يكن دلك إلى بسبب حفاضها على عادتها و تقاليدها المشبعة بالأخلاقيات و التشريعات العرفية. حد كمثال على دلك اليابان و الصين و كوريا…إلخ.
    و على القارئ كذلك أن يعرف أنه و إن كان الغربيون قد نجحوا في تطبيق القانون و محاربة الرشوى و الغش. إدلى أنهم يعانون من مشاكل أخى أخطر و أصعب من دلك أدمر لك منها الإباحية، تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرجار، الإنتحار بسبب الفراغ الروحي الفاحش و ما شابه دلك.
    خلاصة القول أن القانون وحده غير كاف و الأخلاق وحدها كذلك غير كافية.
    فما بقي للشعوب العربية و المسلمة إلى النضال ؛ أولا من أجل اختيار حكامهم إختيارا شعبيا خالصا و إجبارهم بعد ذلك على تطبيق القوانين بصرامة على كل الناس بداية بالحاكم نفسه.
    السلام عليكم. هارون . بوحديد

  9. يقول طه صبری ایران:

    والله انا متحیر من الذین یمثلون بمثل اوباما و اولاند وغیرهم من حکماء الغرب وبالامم الغربیة ویریدون منا کمسلمین ان نقتدی بامثال هؤلاء الذین یرونهم احسن اسوة لکی یقتدی العالم الاسلامی بهم حتی یخرج من هذه الازمات التی یأتی واحدا تلو الآخر فی حال نحن نری موقفهم الهزیل تجاه الصهاینة

  10. يقول جمال ابو ايوب الرباط:

    السلام عليكم .تحية للقدس العربي ومن خلالها الا الدكتور فيصل القاسم تحية تقدير واحترام على ما يقوم به الدكتور فيصل .الاخ وليد القطان الاية الكريمة تقول {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }المائدة38 وليس (والسارق تقطع يده)اما فيما يخص تطبيق شرع الله على المسؤلين العرب لو طبق شرع الله لوجدت اغلب المسؤلين العرب بدون ايادي وقد لا تجد لهم حتى الارجل ولكن هناك في يوم الحساب سيحاسبون على الصغيرة والكبيرة .والسلام

1 3 4 5

اشترك في قائمتنا البريدية