نفذ موظفو الإدارات العامة في جميع أنحاء لبنان إضرابا، الجمعة، اعتراضاً على ما يتم تداوله في المجلس الوزاري حول خفض رواتب موظفي القطاع العام في إطار ميزانية 2019 التي من المقرر أن تكون أكثر الميزانيات تقشفاً حتى الآن، تلبية لمطالب الجهات المانحة من مؤتمر “باريس 4” التي وعدت بإعطاء لبنان 11 مليار دولار مقابل أن يثبت لبنان أنه جدي حيال تنفيذ “إصلاحات” اقتصادية.
وألقى مندوب رابطة الإدارة العامة في النبطية محمد دويك كلمة، خلال اعتصام أمام سراي النبطية، في جنوب لبنان، قائلاً: “نقف اليوم جميعاً لنوصل رسالة كنا قد أوصلناها سابقا لكل المعنيين بإقرار الموازنة عبر جولات مكثفة للهيئة الإدارية للرابطة، علها تصل اليوم بشكل أوضح بلغة الشارع وغضب الموظفين أجمعين. محذرين هذه السلطة من أي خطوة باتجاه إقرار أي من الاقتراحات التدميرية المتداولة حاليا في مجلس الوزراء، معاهدين أنفسنا بمتابعة كل التفاصيل والتعديلات التي من الممكن أن تطرأ في اللجان النيابية المشتركة والهيئة العامة”.
ويشير دويك إلى الكلام المتداول حول إمكانية أن يتم خفض رواتب الموظفين في القطاع العام.
ومن خلف قصر الأونيسكو، في رابطة التعليم الثانوي الرسمي، في بيروت، حيث عقدت هيئة التنسيق النقابية مؤتمراً صحافياً، الجمعة، تلا أمين سر رابطة أساتذة التعليم الأساسي الرسمي، حسين جواد بياناً قائلاً: “جلسات عديدة عقدت لمناقشة الموازنة، وكلما ضاقت السبل بالحكومة هرباً من مد اليد على المقدسات المالية بنظرهم من المصارف والأملاك البحرية والتهرب الضريبي والجمعيات الوهمية واسترداد المال المنهوب” معتبراً أنهم “عادوا إلى جيوب الفقراء وأصحاب الدخل المحدود الذين يعتبرونهم الحلقة الأسهل”. وأضاف “رغم كل التطمينات التي صدرت عن المسؤولين بعدم المس بالحقوق والمكتسبات لم نر في التسريبات الإعلامية إلا عكس هذه التطمينات، فإن حيدوا جانباً، انقضوا على الآخر، فلا خطة إصلاحية لديهم لسد العجز سوى الانقضاض على أموال الناس وحقوقهم المكتسبة”.
محاربة الفساد المؤسساتي
هي الإصلاحات ذاتها التي نسمع عنها منذ أزمة 2008 العالمية، وغالباً ما تتمثل بتقليص ميزانية الدولة عبر خفض تكاليف رواتب الموظفين، والمتقاعدين، والضمانات الاجتماعية، إلى جانب محاربة الفساد المؤسساتي، والتهرب الضريبي، وأخيراً الخصخصة لكل ما يمكن خصخصته من المصالح العامة. وفي حين بدأت الدول الأوروبية تعي عدم جدوى التقشف في إعادة تفعيل عجلة النمو والحركة الاقتصادية، خاصة بعد تجربة اليونان (رغم تسويقهم لها على أنها مثال على نجاح النموذج) ما زال الدائنون الكبار، والمؤسسات الدولية، يطالبون أي دولة تحتاج إلى مساعدة مالية بسحق جميع مؤسساتها العامة وتصديرها للقطاع الخاص، وخفض ميزانياتها كي تخفض العجز. وذلك بدلاً من تمويل تلك الدول لتنفيذ سياسات تنموية، تدعم المؤسسات العامة وتحفز القطاع الخاص. إذ ليس من الواضح كيف سيساعد التقشف وخفض الرواتب في لبنان من الحد من ارتفاع معدلات البطالة وهجرة الأدمغة، وتدهور البنى التحتية، وغياب الأسس التنظيمية التي تحفز مناخ الاستثمار الأجنبي، وغيرها من المشاكل التي حددتها منظمة العمل الدولية. ويشير تقرير الأمم المتحدة بعنوان “سياسة الاستثمار في لبنان” إلى افتقار لبنان لأي قطاعات إنتاجية قادرة على تحريك الاقتصاد ودفعه نحو النمو، وتحميه من مخاطر التحديات المالية، لرفع ثقة المستثمرين وجذب الاستثمارات للقطاعات الإنتاجية، وليس فقط نتيجة ارتفاع الفوائد على الودائع في المصارف حيث تتكدس الأموال دون أن تستثمر بشيء.
خفض العجز
ويبدو أن الحكومة قررت أن الهدف لهذا العام هو خفض العجز المالي في الميزانية من 11.4 في المئة من الناتج المحلي، العام الماضي، إلى 7.5 في المئة في عام 2019 وهو ما وصفه الصحافي والباحث الاقتصادي، محمد زبيب، برقم “اعتباطي”، موضحاً أنه حسب الأرقام التي استندت إليها الحكومة في مشروع الموازنة المطروح، من المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي، هذا العام، بنسبة 1.2 في المئة من 56.8 مليار دولار إلى 59.6 مليار دولار، ما يعني أن الهدف الذي وضعته الحكومة، والذي من المقرر أن يحقق في الأشهر الستة المتبقية من العام الجاري، يتطلب أن يتم خفض العجز من 6.5 مليارات دولار العام الماضي (11.4 في المئة من الناتج المحلي)، إلى 4.5 مليارات دولار، أي حوالي 3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ثلاثة أضعاف ما تعهدوا به خلال مؤتمر “باريس 4” وذلك بحجة أن ارتفاع العجز من 7 في المئة عام 2017 إلى 11.4 في المئة عام 2018 يفرض ضرورة خفضه أكثر من 1 في المئة المتفق عليها بهدف طمأنة المستثمرين.
وأشار زبيب إلى أن مجلس الوزراء أقر في إطار المحادثات حول الميزانية زيادة الحسومات التقاعدية من 6 في المئة إلى 9 في المئة وتخفيض بدل النقل اليومي من 8 آلاف ليرة إلى 6 آلاف ليرة. كما أقرت الحكومة خفض الإجازة السنوية من 20 إلى 15 يوما “وتحديد سقف أعلى للملحقات والمكافآت والساعات الإضافية لا يزيد عن 75 في المئة من الراتب الأساسي”. ويشير زبيب إلى أنه ما زالت الحكومة تتداول احتمال خفض الراتب الأساس لمن يقبض أكثر من 3 ملايين ليرة إلا انه لم تحدد النسب بعد.
لا تزال هناك دفعة من التدابير التي تقضم الأجور قيد النقاش، بما فيها تخفيض الراتب الأساسي فوق 3 ملايين ليرة بنسبة معينة. وهذا يحصل بالتزامن مع اعفاءات بالجملة وتسويات ضريبية مطروحة لمكافأة المتهربين من الضريبة وتشجيعهم على مراكمة المزيد من الأرباح والثروات على حساب المال العام.
ولم يطرح حتى الآن أي سياسات لخفض الفوائد على الدين العام، والتي تستنزف حوالي 50 في المئة من الإيرادات. ولكن وافقت الحكومة على رفع الضريبة على ربح الفوائد على الودائع في المصارف من 7 في المئة إلى 10 في المئة لمدة ثلاث السنوات. ومع أنها ضريبة ضئيلة ولن تؤثر على الإطلاق على الأرباح، إلا أن رئيس بنك بيروت اعتبرها “خطوة خطيرة” ولم تتوقف طبقة المصارف منذ ذلك الحين عن محاولات لإلغاء القرار.