في أول يوم لي في المدرسة، عصف بي خليطٌ من الانفعالات التي ينسخ بعضها بعضاً.. تم قبولي في الصف الثالث مباشرة أول الأمر، إذ كان أبي قد علمني القراءة والكتابة، في القرية، أنا وأخوتي الثلاثة. داومت في درس اللغة العربية، وكنت في أقصي حالات الفرح. غير أن تلك المشاعرلم تدم طويلاً، بل انقلبت رأساً على عقب، في الحصة اللاحقة. ولأنني لم أكن أعرف من مفردات الحساب شيئاً، فقد أُعِادني معلم الرياضيات، بعد ساعة تقريباً، إلى الصفّ الثاني كحَلٍّ وسط باتفاقٍ مع مدير المدرسة.
بعد أسبوع أو أسبوعين، مرّ بي يوم له غرابته الخاصة، كان صباحاً خريفياً لا ينسى، شيءٌ ما كان يثير في نفسي التهيب والانفعال. لم تكن في السماء الباردة إلا غيوم الخريف الأولى، ولم يكن يملأ القلب غير ارتباك غامض. في ذلك اليوم وقفت، ولأول مرة، أمام سؤال محير يتصل بالشعر، لا أعيه قدْرَ ما أحسّه، كان حيرةً وغموضاً أكثر منه وعياً أو فكرة. بدا كل شيء جديداً عليّ في ذلك اليوم، وكنت أحاول، قدر استطاعتي، أن أنتزع نفسي من أجواء قريتي البعيدة التي ما تزال حية تتشبث بالذاكرة. كان عليَّ أن أنسى نهراً من أغاني الأمهات يربطني بذلك التراب الحميم، ويضعف قدرتي على التكيف مع أزقة المدينة، وضجة أطفالها ومقاهيها. وما إن رنّ جرس المدرسة يدعونا إلى الاصطفاف الصباحي حتى تملكني إحساس مربك بأنني أتوغل، لحظة بعد لحظة، في عالم جديد عليّ تماماً. الفضول والتهيب وثمة قشعريرة من نوع ما تغمرنا جميعاً، التلاميذ والجدران. الخريف يتنامى في ساحة المدرسة، لذعة البرد الأولى على مقربة منا، والسحب تتجمع تدريجياً في الأعالي، وكل شيء كان يضعني، ذلك اليوم، أمام ذاتٍ تحاول أن تتسلق فضاءات بيضاء، لتطل على ما وراءها من تهيؤاتٍ أو أسئلة مبكرة .
٭ ٭ ٭
يبدو لي أن الكثير منا مسكون، بوعي أو دون وعي، بهذا التصور عن الشعر ونشأته الأولى. وقد كنت، شخصياً، وما أزال أحمل أصداء من ذلك الجرس الغائم الذي رنّ في أرجاء روحي ذات يوم فأيقظني على حقيقة أقرب إلى الوهم، أو هو الوهم ذاته بكل ما فيه من كثافة واستحالة. كنت أتصور دائماً أن الشعر لا يقوله بشرٌ من طينٍ وماء، غير أن شيئاً ما حدث في تلك اللحظة الخريفية البعيدة، فاهتز ما كان يربط بين الشعر والحلم والخرافة، أو بينه وبين الجنون أو الآلهة. لم نكن نحن العرب وحدنا من باعد بين الشعر وعالم البشر العاديين؛ فالشعوب الأخرى فعلت الشيء ذاته: فصلت بين الشعر والناس، ونظرت إليه على أنه كلام خاصٌّ، وأثيريّ. إن كلاماً كهذا لا يكون من إنتاج البسطاء من الناس، ولن يكون مظهراً من مظاهر حياتهم اليومية، فالشعر، كما يقول أرسطو: ناتج عن الموهبة، أو ضرب من الجنون.
لا يكون الشاعر إنساناً عادياً، هكذا تصورته ثقافات الشعوب وخيالها منذ القدم، بل هو كائن خاص أهلته خصوصيته تلك إلى أن يكون مصدراً لكلام شديد التميز. يتلقاه أولاً عن طريق ما كنا نسميه «الإلهام الشعري» ثم يقوم، بعد ذلك، بإنشاده على مسمع من البشر وعلى مرأى من قلوبهم الهلعة، أو الضاجة بالبهجة. الشعر والشاعر، إذن، كلاهما خاصان لأنهما يرتبطان بنعمة الخيال وهدايا الآلهة.
٭ ٭ ٭
حين تدافعنا، هائجين، كان كل واحد منا يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في ذلك الطابور الصباحي، ولم يكن يخطر ببال أحد منا كيف سيكون شكل ذلك اليوم: كنا نصنع من أجسادنا المتراصة جدراناً من القلوب المرتبكة، وكان كل منا يصغي إلى قلب صاحبه ويكاد يشم رائحة مخاوفه الصغيرة. هدأت الضجةُ فجأة حين نوديَ على أحد التلاميذ من الصفوف المتقدمة ليقرأ قصيدة أمام زملائه: همهمة غامضة سرت بين القلوب وأشجار الساحة. كانت القصيدة لواحدٍ من معلمي المدرسة آنذاك، وكان مراقباً لذلك الطابور الصباحيّ الصاخب، ولا أدري لحظتها أكان متباهياً بعصاه أم بقصيدته. قرأ علينا التلميذ قصيدة، كان عنوانها «الربيع» وما زلت أذكر اسم شاعرها، خطاب سلمان العبيدي، كانت مفاجأة صادمة لي حين علمت، من همس التلاميذ، أنها من شعر أحد معلمي المدرسة، وكان مراقباً للساحة في ذلك التجمع الصباحيّ الذي كنت جزءاً منه. انتابني شعور غريب، كيف تسنّى لهذا الرجل المعلم، وهو من لحم ودم مثلنا، أن يقول كلاماً كهذا؟ أيكون الشعر كلام إنسان عادي يشبه الآخرين؟ هل يشترط في الشاعر أن يكون معلماً؟ هل الشاعر يشبه سواه من الناس؟ كنت أعتقد أن الشاعر كائن أثيري، لا يمكن لمسه، أو محادثته.
قبل ذلك الصباح، كانت المحفوظات الشعرية القليلة، التي أحفظها أو أسمعها، عن والدي، لا تُنسب إلى قائلٍ بعينه، لذلك فإن الشعر، بالنسبة لصبيّ مثلي، كهواء القرية وحقولها الممرعة، متاحاً مثلما المطر، أو القـشّ المبلول، أو رائحة النهر التي تهب علينا من وراء السدة الترابية.
كان لوالدي صديق نجفيّ معمم، يأتي إلى قريتنا، مرة كل عام، فيحلّ علينا ضيفاً، ليبكي الناس في عاشوراء، ويساعد أبي في تعليمنا القراءة والكتابة، أو يملي علينا أبياتاً من الشعر أحياناً. ومن شعر ذلك الزمان الذي كنت أحفظه، ما كانت تتداوله المصادر القديمة، مثل كتب الطرف والنوادر وألف ليلة وليلة :
ألا موتٌ يبـاعُ فأشـتريهِ // فهذا العيشُ ما لا نفعَ فيهِ
إذا رحمَ المهيمنُ قلبَ حرٍّ // تصدّقَ بالوفــاءِ على أخيهِ
كنت أحفظ هذين البيتين، دون أن أعرف لهما، أو لأمثالهما، قائلاً. وفي ذلك الاصطفاف، عرفت ما لم أكن أعرفه، وما لم أسأل أبي أوالشيخ النجفي، عنه: أن الشعر من عمل البشر، يقدر الناس على قوله، كما قدر عليه الأستاذ خطاب العبيدي. بقيت أنظر إلى ذلك المعلم مشدوهاً أتجاوز ملامحه المادية المحسوسة. آنذاك فقط أحسست بحلم صغير يراودني: أن أكون شاعراً، وربما حلمت أيضاً أن يقرأ التلاميذ، ذات يوم بارد، إحدى قصائدي في اصطفاف صباحي كهذا. لم أفهم الكثير من قصيدة الأستاذ خطاب العبيدي، ملك الاصطفاف في تلك اللحظة؛ فقد هيمنت عليّ فجأة دهشةٌ غامرةٌ، اقتلعتني من بين الأجساد الصغيرة المتراصة، وكأنّ هواءً كونياً أذابني في ثناياه، ونثرني بين طيوره وأحجار طرقاته. شيءٌ ما، عصيٌّ على التحديد: غيمة، أو أغنية، أو طائر خرافيّ كان يمسك بي من قلبي المنتفض ويحلّق عالياً لأطل على ذلك العالم، من شرفة نائية كالأساطير لا يطالها البشر ولا تحيط بها عيونهم .
٭ ٭ ٭
قبل تلك اللحظة، ما كنت أصدق أن في الإمكان أن أرى بعيني هاتين شاعراً، يتمشى خارج مخيلتي، أعني على الأرض وبين الناس؛ لم أكن أعتقد أن الشعر يمكن أن يقوله بشر عاديون. بل هو نعمةٌ من نعم الخيال: آهةُ نبيّ مطارد، أو تمتمةُ إلهٍ قديم، أو كلامٌ مصفّى لم يمسسه بشر. يهطل علينا فجأة وكأنه رذاذٌ يتطاير من تصادم غيمتين طريتين. أجمل وأرقى من أن يدعيه إنسان بذاته، إنسان مثلنا، يأكل ويشرب، ويتثاءب ويغتاب الآخرين؛ فالقصيدة لا تشرق إلا من قلب عامر بالبهجة النقية أو الأسى الكريم، أما الشتيمة فلا تخرج إلا من كمينٍ أو كهف.
وطوال ذلك الطابور الصباحي وأنا شبه غائب عن نفسي. فضاء المدرسة كله كان مفعماً برائحة خاصة: حقول يمشط أدغالها وابلٌ من مطر مفاجئ، وغدران تحف بها الطيور الفرحة من كل صوب. وكنت، وسط ذلك كله، أتمنى أن أرى نفسي ذات يوم محوراً لمشهد صباحي كهذا، حيث رائحة الصباح تملأ روحي وأنا أخطو بين التلاميذ مزهواً بعصاي وقصيدتي. بعد الاصطفاف مباشرة، فوجئت به ثانية. جاءنا الأستاذ خطاب العبيدي في درس اللغة العربية، كنت منصرفاً إلى مراقبة هيئته الشخصية، لباسه الأنيق، تمشيطة شعره المميزة، وتنقلاته داخل الصف. تفاصيل أخرى كنت شديد الانتباه إليها أيضاً، طريقته في الإمساك بقطعة الطباشير، نبرات صوته وهو يسأل التلاميذ، أو يبتسم مشجعاً في وجه أحدهم حين يجيب على سؤال من أسئلته. وبلغ هذا الاهتمام ذروته حين وقف بجانبي مستنداً إلى الكرسيّ الذي أجلس عليه.
بعد ذلك الصباح صرت مفتوناً بكل خريف يأتي. وكأنه مجلبة لما يخرجني من ألفة أيامي.. لي مع الشتاء واعتدالات أيامه ما يبعث فيّ الأمل في أن أكون شيئاً ما ذات يوم. لا أعني الوظيفة أو المال أو السكن في بيت لا يتسرب منه المطر، بل أن أكون قادراً على الإتيان، كوالدي ربما، بما يلفت الانتباه من الكلام. أذكر بشكل خاص، وقت الضحى، من أيام الخريف، ونهارات الشتاء المعتدلة. في هذين الوقتين تحديداً تكون فرصة التغذية المدرسية. كان لكل واحد منا حصته من الفاكهة، التي تتراوح بين الموز أو التفاح أو البرتقال، وكوب من الحليب الساخن. إضافة إلى «صمونة» محشوة بالبيض، أو الجبن، أو الحمص المسلوق. كان هذا الوقت أكثر أجزاء النهار بهجة وسطوعاً. تهبط فيه الشمس من مكانها القريب، لتتنقل بين أقدامنا كالكرة الدافئة، تملأ أكوابنا بالضوء، وأجسادنا بالدفء، فيزداد صخبنا وعبثنا بياضاً. وكان يتخلل ذلك وقفات وانقطاعات، يتيح لنا فيها المعلم، أحياناً، فرصة الحديث عن فكرة، أو مشهد، أو ذكرى، أو موضوع ما. وربما كنت أكثر التلاميذ مشاركة، في الحديث عما أحفظ أو أتذكر، أو أختلق ربما، وقبل أن تعود الشمس ثانية إلى مكانها العالي، تنتهي فرصة التغذية ونعود جميعاً إلى صفوفنا مرة أخرى..
شاعر عراقي