«يعتقد سقراط أن الفضيلة هي نوع من المعرفة، وأن الإنسان الحكيم هو الذي يمكنه تحقيق الفضيلة».
مناسبة هذا التصدير حلول موعد تنظيم فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب في دورته التاسعة والعشرين، إذ شكل المعرض على امتداد عقود من الزمن محطة للحوار الثقافي والفكري النقديين في المغرب، يلتقي فيها جل ألوان الطيف الأدبي والفني والفلسفي؛ بحيث ترقى الأسئلة التي تقاربها النخب المثقفة إلى مستوى اللحظة التاريخية بكل التحديات والإشكالات التي يواجهها المجتمع المغربي بمختلف فئاته وطبقاته، وفي سياقات سياسية وتاريخية واجتماعية دقيقة، انسجاما مع تلك الروح المعنوية والمكانة الاعتبارية، اللتين يذود عنهما كل مثقف حر ومستقل ونزيه نسبيا في اختياراته وممارسة قناعاته، حتى لو تطلب الأمر التضحية بحريته تارة وبحياته تارة أخرى، طالما أن المثقف كائن رمزي لا يتهيب التضييق عن حريته أو مطاردة بنات أفكاره، أو مصادرة خياله في القصيدة، كما في اللوحة أو المسرحية أو الرواية. حفريات عميقة يجريها المثقف وهو متسلح بإزميله الذي لا يرحم كلما تعلق الأمر بمحاولة تحديد أوجه الحقيقة، حتى لو كانت مرة كالحنظل. في المجتمع المغربي المحكوم باشتراطات من قبيل الرغبة في الذهاب إلى أقصى نقطة في الكون، بحثا عن الحقيقة الضائعة والزمن الضائع، لم يعد مثقفونا يملكون القدرة على التجديف ضد التيار؛ فقد صار همهم الأوحد محاولة الانخراط في عمليات تخصيب الأسئلة المتورمة، وكأني بهم يزرعون الشوك في الأرض القاحلة! همهم الأول والأخير العمل بما ورد على لسان بديع الزمان الهمذاني: «در مع الزمان كما يدور». ترى ما السبيل إلى الخروج من عنق الزجاجة التي وجد فيها الكثير من الأسماء المنتسبة لحقول الثقافة والمعرفة؟
الدورة التاسعة والعشرون للمعرض الدولي للكتاب والنشر المنعقدة في الرباط اعتبارا من 9 مايو/أيار وتمتد إلى 19 من الشهر نفسه بالنسبة للسنة الجارية، تكرس العاصمة المغربية قبلة للكتاب وجمهرة الكتاب والمبدعين، بعد أن شكلت مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية منذ الدورة الأولى الحضن الرؤوم الذي احتضن الكتاب في شتى العلوم والآداب والمعرفة وبكل اللغات. نعم شكلت الدار البيضاء الذاكرة الخصبة للكتاب والأدباء والمفكرين والمبدعين والمترجمين من كل أنحاء العالم يمثلون مشارب فكرية وفلسفية متباينة. من هنا صعوبة التخلص من جاذبية البيضاء، المدينة المطلة على شرفات المحيط الأطلسي التي خرجت من تحت معطفها أسئلة التنوع والانفتاح والقبول بالرأي الآخر، حتى لو كان يتعارض مع رؤية وقناعة الآخرين.
برنامج الدورة التاسعة والعشرين الذي تشهد مدينة الرباط فصولها في موقع السويسي الجميل، بأشجاره الباسقة وحدائقه الغناء، وتحت الأنوار والبهرجة، جاء حافلا بحفلات التقديم والتوقيع للمؤلفات والإصدارات الجديدة والتشديد منا، مرقشا بقراءات شعرية وأمسيات فنية وغنائية باذخة تليق بالحدث الثقافي العالمي، تحييها فرق موسيقية محلية وأخرى عالمية… المعرض في حاجة إلى كل هذا الزخم، بل كل التوابل اللازمة حتى يرتاح بال الوزير الشاب الذي صدق نفسه بأنه وصي على قطاع ينتج الرمزيات! فيخاتل ليقرأ كتابه المفضل في مكتبه الوثير، أو في الطائرة التي يستقلها إلى باريس كلما ضاقت به الدنيا في الرباط! السيناريو نفسه والجوقة نفسها والأسماء نفسها، حتى لا أقول الوجوه والنظائر تملأ مطويات الوزارة الوصية على القطاع، وكأن المغرب من جنوبه إلى شماله ومن شرقه إلى غربه يعاني ـ حقا – من العقم في إنجاب أسماء وطاقات شابة خلاقة يزخر بها وطننا العزيز.
نهمس في أذن السيد الوزير المحترم، بأن السعي إلى بناء المشاريع الثقافية الوطنية الكبرى يبدأ من تمرين عملي بسيط، لكنه دال ومؤثر، ونعني به القطع مع الزبونية والضرب بيد من حديد على أيدي العابثين بالشأن الثقافي ببلادنا، حتى لو كانوا من البطانة والمقربين.. أولئك المحسوبون على قطاع الثقافة، وهم كثيرون في العدد تجدهم مندسين في كل شيء، يشاركون في أكثر من ثلاثة أو أربعة أنشطة وفعاليات، بحكم قربهم من دواليب الإدارة وباعهم الطويل في «تدوير» العلاقات العامة والحرص على الإقامة في «هيلتون» فضلا عن ضمان اللوجيستيك ومغانم أخرى لا يسمح المقام بذكرها هنا (اللهم لا شماتة). تبعا لهذا وذاك من حقنا مساءلة السيد الوزير عن طرائق وأوجه صرف المال العام في مثل هذه المحطات «الثقافية» وبالتالي معرفة الكيفية والمعايير التي تستند إليها وزارته المحترمة ومعها مديرية الكتاب في اختيار، بل في انتقاء الضيوف من داخل المغرب وخارجه؟
كاتب مغربي