لطيفة التونسية… ليست زلة لسان

حجم الخط
9

أسوأ من الكلمات العنصرية التي تفوّهت بها لطيفة العرفاوي، المغنية التونسية المعروفة، ضد المهاجرين الأفارقة الذين وصلوا تونس من جنوب الصحراء، على أمل العبور إلى الجنة الأوروبية، هناك الأداء، هذا الذي جاء أشد بغضاً من الكلام.
ما قالته لطيفة لم يكن مجرد زلة لسان في نقاش، أو انفعال إزاء موقف مباغت، أبداً؛ كانت المغنية وحدها على الخشبة، تقدمت صوب الجمهور، وصاحت، بكلمات ممسرحة ممطوطة، كل حرف بحرفه: «اللي جايين يحبوا تونس تولّي (تصبح) بلادهم ويوطّنوهم، شو تقولوا لهم؟»، وهذا سؤال إيحائي بالطبع يوجِّه الجمهور نحو جواب واحد، لتكمل هي من بعد بدورها: «ردّ الباب وغرّب»، وحتى لو لم نفهم فعليْ الأمر الواردين في العبارة الأخيرة، فقد جاءت ذراع لطيفة لتتكفّل بالشرح. ثم تتابع: «تونس ملك للتوانسة، فقط لا غير. من الآخر».

خطاب لطيفة التونسية هو أساساً صدى لخطاب ساد البلاد منذ قرر رئيسها أن مؤامرة كونية تجري على تونس لتوطين الأفارقة

وهنا ينطلق الرقص، والدربكة، كما لو أنهما استكمالٌ لوصلة ردح مرسومة سلفاً ضد المهاجرين البائسين، الهاربين من فقر وجوع ونزاعات مسلحة، وإلا لماذا يغامر الناس بعبور الحدود تحت رصاص خفر الحدود، وبالتيه عبر الصحراء، وخطر التحول إلى جثث تموت مراراً تحت وهج الشمس، أو في سجون الميليشيات أو الأنظمة المستبدة، قبل الوصول إلى فم المتوسط الذي سبق له أن ابتلع موجات هجرة قذفها مصيرُها من كافة أرجاء الأرض، من سوريا وفلسطين وأفغانستان وأرجاء القارة السمراء الحزينة.
يصعب أن تجد فناناً أو مبدعاً في العالم يصرّح بمعاداته للاجئين والمهاجرين على هذا النحو، ليس فقط لأن فناني العالم ومبدعيه غالباً ما يكونون من خلفيات عرقية متنوعة، ولربما مرّوا بتجارب شخصية أو عائلية قريبة من عالم الهجرة واللجوء تجعلهم أكثر تفهماً لأحوالهم، بل وكذلك لأنهم يعملون في حقول تنتمي لقيم إنسانية تجد تجسيدها في دعم حقوق المهاجرين واللاجئين، والدفاع عنهم في وجه سياسات التمييز.
لذلك نجد اليوم أن ألمع نجوم العالم، في وقت من الأوقات، ممثلين لمنظمات تعنى بحقوق اللاجئين، أو سفراء أمميين جوّالين على الفقراء والمهمّشين واللاجئين في المخيمات. من بينهم أنجيلينا جولي، وإيما واطسون، وكيت بلانشيت، وجيجي حديد.. إلى سواهم من سلسلة يكاد يصعب حصرها.
نتذكر خصوصاً المغني الفرنسي جوليان كليرك مع رصيد كبير في العمل من أجل اللاجئين، وكانت تكفيه أغنيته التحفة: «نحن كلنا لاجئون».
كلنا لاجئون ومهاجرون، من يستطيع أن يثبت أن جدّه الأبعد وُلد هنا وبقي في هذه الـ «هنا» إلى اليوم؟ ثم «أليست أرض البشر لجميع البشر؟».
وبقدر ما هو عسير إحصاء المبدعين الذي لهم مساهمة ما للدفاع عن المهاجرين، يكاد يكون شبه مستحيل العثور على فنان يصرّح بمعاداته للاجئ أو مهاجر (ها قد فعلتْها لطيفة أخيراً)، فما من سبب يدفع مبدعاً، فناناً، اختصاصه تعزيز النبل والعدالة والكرامة الإنسانية أن يعادي مهاجراً، وخصوصاً المهاجر غير الشرعي، هذا لا يمكن إلا أن يكون قد هجّ من مأساة، أو خوفاً من وقوع مأساة، وإلا فمن يغامر بإلقاء نفسه في أفواه هذا العدد الهائل من الوحوش، قد تبدو لطيفة العرفاوي أقلهم وحشية. ما من اشتراط أن يكون المهاجر مهدداً سياسياً، أو اجتماعياً، فالفقر وضيق الحال أيضاً من أسباب اللجوء، وقبل كل ذلك الكرامة الإنسانية، المهددة حتماً في ظل الاستبداد والفقر وغياب العدالة.
الجميع (من بينهم التوانسة الرائعون) يذكّرون لطيفة العرفاوي الآن بأنها مستوطِنة منذ عقود في مصر، وفي لغة مصر، وألحانها وأغنياتها، كيف تشعر إن قال أحد في أم الدنيا إن «مصر للمصريين فقط لا غير»، وإن على الآخرين أن «يردوا الباب ويغربوا»؟ وبالطبع لن تكون أم الدنيا في هذه الحالة، ولن تبقى مصر التي في خواطرنا جميعاً، نحن أبناء الثقافة المصرية، حتى لو لم نزرها مرة. نحن المستوطنين في لهجتها وأفلامها وأدبها وأغنياتها.
خطاب العرفاوي هو أساساً صدى لخطاب ساد البلاد منذ قرر رئيسها أن مؤامرة كونية تجري على تونس لتوطين الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء فيها. منذ ذلك الحين بات التحريض ضدهم على أشده، لوحقوا من رجال الأمن، ومن توانسة على حدّ سواء، وبات من شبه المستحيل أن يعبر مهاجر المتوسط انطلاقاً من تونس، ومع اتفاقية وُقّعت مع الاتحاد الأوروبي، منتصف يوليو/ تموز 2023، للتعاون على الحدّ من تدفق الهجرة غير النظامية إلى شواطئ أوروبا، ومع تخصيص المفوضية الأوروبية مبلغ 127 مليون يورو كمساعدات لتونس، لممارسة الحد من توافد المهاجرين، بات مفهوماً أن الرئيس وجد مهمة ووظيفة له تعينه على الاستمرار في الحكم، أو تثبت حكمه المهدد بسبب تفاقم سوء الأوضاع في بلد الربيع العربي.

مع تخصيص 127 مليون يورو كمساعدات لتونس، لممارسة الحد من توافد المهاجرين، بات مفهوماً أن الرئيس وجد مهمة ووظيفة له تعينه على الاستمرار في الحكم

127 مليون يورو فقط (مبلغ زهيد مقابل المليارات التي يحصلها الجار المصري للمهمة نفسها) كانت كفيلة بأن يبتكر رجل القانون والدستور نظرية مؤامرة كونية خاصة ببلده، مع العلم أن بلده نفسه جاهز للهجيج لو أتيح له، وعلى أي حال فإن أرقام المهاجرين التوانسة، أو محاولات الهجرة، ليست قليلة، وهم في تزايد في عهد رئيس منتخب زمن الربيع العربي.
التوانسة في أوروبا، وفرنسا خصوصاً، متوفرون أنّى التَفَتَّ. ماذا لو قيل لهم: «اللي جايين يحبوا فرنسا تولّي (تصبح) بلادهم ويوطّنوهم، شو تقولوا لهم؟»، ولعلها تقال بالفعل لهم ولغيرهم، بطريقة أو بأخرى، بمَ ستجيب العرفاوي؟!
على أي حال يبدو أنه قد مضى وقت العتب، فمن يُجَوِّد، من دون أيّ اضطرار أو استفزاز، بخطاب الكراهية إلى هذا الحدّ، يكون قد وصل إلى مكان لا تفيد فيه المراجعة، أو الاعتذار.  تابعي انفجارك، لكِ طريقتك، فللمهاجرين طرق وطرقات.

٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عطية الصالح:

    ابدعت …. !!!

  2. يقول د. ماجد الخالدي:

    كفانا تهريجا ….من يريد التعايش مع أمواج المهاجرين ما عليه إلا أن يفتح لهم باب داره و بلده ..كقانا من التشدق بالإيديولوجيا الغربية الخبيثة تحت مسمى الإنسانية …الغرب شمالا استعمر الجنوب مثل إفريقيا. و نهبها واستعمر شعوبها وشردهم و أرسى في بلدانهم ديكتاتوريات تمنعهم من العيش الكريم و افتعل فيهم النزاعات والحروب والفقر والجهل لذلك تجد الأفارقة بهاجرون إلى أوروبا و هذا تاريخيا و منطقيا مفهومبالنظر إلى المسببات لكن الإسقاط على تونس أو دول شمال إفريقيا غير منطقي و غير صائب لا تاريخيا و لا حتى جيوستراتيجيا
    👇 يتبع.

  3. يقول د. ماجد الخالدي:

    👇 يتبع
    …يعني لو تترك تونس و بقية الدول المغاربية الحبل على الغارب لتدفق المهاجرين من دول الساحل و غبرها فستندثر هذه الدول في غضون أسابيع و لا يصبح لها وجود على الخريطة. من هذا المنطلق السؤال يطرح: ما هو مفهوم الدول. ماهو مفهوم السيادة، ماهو مفهوم المواطنة أو الانتماء إلى وطن ؟؟؟ تريدون استباحة تونس و تدميرها عبر تدفق المهاجرين. هذا إرث تاريخي ايديولوجي وواجب أخلاقي على أوروبا والغرب عامة تحمله و إيجاد حلول له. الدول المغاربية ليست زريبة مفروض عليها فتح حدودها و استقبال كل إفريقيا نيابة عن الغرب فتتغير الديموغرافيا والدين !!! يجب أن تكون القراءات و تحليل هكذا مواضيع مبنية أولا على أسس علمية وعلى احترام سيادة الدول أولا و نسيجها المجتمعي ثانيا و إلا فستزول هذه الدول من الوجود بسبب الاستعمار الحديد و هو الهجرة غير الشرعية التي تدفع بها شبكات إجرامية

  4. يقول عماد غانم:

    لي صديقة مصرية على فيسبوك تعشق لطيفة لأنها ذات شباب متجدد ولأنها غنت للرئيس مبارك رحمه الله، موقف لطيفة ينسجم مع موقف الشعب والحكومة في تونس
    أوروبا حولت ليبيا لمعسكر اعتقال للاجئين الافارقة ، واكبر مؤسسة أمنية حكومية في ليبيا تقدم هذه الخدمة لاوروبا على حساب موارد وسمعة ليبيا، وحقيقة جزء كبير من مغامره حكومة أردوغان في ليبيا للاستثمار في هذه التجارة الوسخة، فتركيا تقبض مليارات من أوروبا لكبح هجرة السوريين اليها
    عقب حل الرئيس سعيد للبرلمان والحكومة الفاسدين ، ناشد كبير مستشاري الغنوشي امريكا وأوروبا بحرمان تونس من لقاح كورونا ، ولكن السعودية والإمارات والجزائر وتركيا قاموا بالواجب
    تحيا تونس

  5. يقول حنظلة الفلسطيني:

    نعم هناك مؤامرة غربية لتدمير العنصر العربي والإسلامي في بلادنا العربية .

  6. يقول تاريخ حروب الغرب وأتباعهم:

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع :» ايها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ ، اللهم فاشهد». وحتى في الانجيل ashes to ashes dust to dust فالأرض لصاحبها الله، وهو الرازق والرزاق لم يمت أحد جوعا بسبب لاجئين. ومن تسؤه هجرات الشعوب اليه، فليدافع عن حقها في حياة كريمة في وطنها.

  7. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي راشد عيسى. في تلبداية لابد من القول أنني تألمت مرتين، مرة لأن كلام لطيفة كفنانة عربية لاينسجم بأي شكل مع القيم الإنسانية التي هي عادة واحد من أعمدة الفنون. ومرة أخرى لأن كلامها يذكرني بفنانيين سوريين قالوا عن اللاجئين السوريين أو عن ضحايا الإجرام والتدمير في سوريا ماهو أسوأ من ذلك بل حتى ملام فيس يعيد عن المؤمراة المونية يبدو فيه ومأنه ببغاء يعيد ماقاله بشارون أسدوف منذ بداية الثورك السورية. المهم برأيي أن الفنانيين والمثقفين العرب عموماً أظهروا عدم نضجهم الفكري أمام الشعوب والإتسانية. وهم عادة (وياللعجب العجاب على عبقريتهم هذه التي سبقهم إليها معظم أعوان الأنظمة) يلهثون خلف الأنظمة القمعية الإستبدادية أو يخضعون لها طوعاً (إلا الذين هربوا للنجاة بأرواحهم بالطبع) أو مجبرين وفي أحسن الأحوال هم يسكتون عن هذا الظلم والقمع والإجرام لأسباب ربما لانعرفها، ولكن في هذا هم يظهرون حقيقتهم أكثر من أي شيء أخر.

    1. يقول منصف:

      أحسنت، المال يذهب والنفط قد لن يساوي شيئا مع اختراع بطاريات ومصادر طاقة بديلة! المحرضون اليمين المتطرف ضد الآخرين بأموالهم في الغرب وكارهي التغيير والتقدمية في الشرق ممولي أنظمة عميلة سوف يعودون لوطنهم الحقيقي.

  8. يقول US:

    معظم المقلقين يكتبون و كأن بلاد العرب جنه للعرب. اكثر بلاد الدنيا يهان بها الإنسان العربي هي بلاد العرب.

اشترك في قائمتنا البريدية