انتهى اليوم الثاني من المونديال العربي على فوزين وتعادل كان جميعها ضمن المنطق وبعيدًا عن المفاجآت، لكن تفاصيله كانت تعلن عن انطلاق حقيقي لكأس العالم.
اعتدنا في بطولاتٍ سابقة على شح تهديفي في الجولة الأولى لكن الإنكليز ضربوا هذا الأمر بعرض الحائظ ليُسقطوا الإيرانيين بسداسية كاملة ويؤكدوا الترشيحات التي تضعهم في منزلة بعيدة عن باقي المنافسين على تلك المجموعة المثيرة كرويا وسياسيا. ورغم محاولة إيران لفرض حصار دفاعي على منتخب الأسود الثلاثة إلّا أن الأخير فكك حصار كارلوس كيروش بسهولة. السر في هذا الأمر بشكل رئيسي كان يكمن في السرعة.. والسرعة هنا ليست في الركض فحسب، بل بالسرعة في التمرير والتي تمنح أي فريق ينفذها بشكل متكرر الكثير من المساحات في دفاعات منافسه. لا أحد قادر على سد كل الثغرات إن لعبت أمامه بسرعة أكبر من قدرته على إغلاق تلك الثغرات باستمرار إن أضعت وقتك وأنت تمرر بلا طائل.
لذلك لم يقع الإنكليز في هذا الفخ، بل حرص غاريث ساوثغيت على منح لاعبيه خيارات تمرير كثيرة. قد يبدو لك من الوهلة الأولى وأن إنكلترا كانت تلعب من الأطراف، فأهدافها أتت بشكل رئيسي من الأطراف، لكن الحقيقة أن هناك عملا كبيرا يسبق هذا الأمر ويأتي من العمق. سهل نسبيا أن تمرر على الأطراف وترسل العرضيات من مكان بعيد نسبيا، لكن البراعة الحقيقية في كيفية إيصال لاعبي الأطراف إلى أماكن مهمة حول منطقة الجزاء لإرسال عرضيات أكثر تأثيرا وهنا جاء دور جود بيلينغهام ومايسون ماونت.
ساوثغيت خاطر باللعب بارتكاز وحيد هو ديكلان رايس بينما تفنن ماونت وبيلينغهام في التواجد في المساحات الخالية بين الظهير وقلب الدفاع ولاعبي الارتكاز الإيرانيين. وبمجرد تسلمهم للتمريرات السريعة (لا تنسى دائما السرعة والمباشرة في التمرير) يلتفون لإسناد الكرة إلى لاعب قادم من الخلف أو هاري كاين ومن ثم تُرسل الكرة إلى كيران تريبيير أو لوك شو أو حتى بوكايو ساكا.
لم أذكر رحيم ستيرلنغ لأنه لم يكن موكلا بالأطراف بل كان اللاعب الرئيسي الذي استفاد من الرقابة التي فُرضت على هاري كاين فكان مهاجم تشلسي الحالي ينسل في كل المساحات والفراغات داخل منطقة الجزاء في محاولة لاستغلال العرضيات وفرض زيادة عددية مع هاري كاين وينضم إليهما جود بيلينغهام ومايسون ماونت بمجرد انتهاء مهمتهما الأولية المذكورة آنفا. أفكار الإنكليز كانت واضحة جلية.. هدوءهم كان لا يمكن تجاهله.. الخبرة التي اكتسبوها من مونديال 2018 ويورو 2020 بدت ظاهرة أمام إيران وسنرى إلى متى يمكنهم الاستفادة منها والبناء عليها.
وفي مباراة أخرى كانت السنغال أفضل من هولندا وقدمت مستوى يكفل لها الانتصار في مباراة كان يُنتظر إظهار الهولنديين لمستوى أفضل مما رأيناه، لكن الهولنديين لديهم من رصيد الإمتاع والإقناع لربع قرن قادم لذلك لم يهتموا بهذا الأمر طالما لديهم ذلك الحارس المنيع نوبيرت الذي تصدى لمحاولات السنغاليين.
هل افتقدت السنغال ساديو ماني؟ الحقيقة أن من افتقدته السنغال لم يكن نجم بايرن ميونيخ الحالي وليفربول السابق بل الفقد الحقيقي لأسود التيرانغا كان في إدوارد ميندي! ما يزال شبح الحارس العملاق الذي شاهدناه في 2021 يلوح في كل مباراة للسنغال ومن قبله تشلسي. كان صعبا أن تتحول احدى نقاط قوة السنغال إلى نقطة ضعف لذلك كان الثمن غاليا.. هدف متأخر من رأس غاكبو الذهبية منح الهولنديين عمليا الفوز قبل أن يجعله كلاسن رسميا بهدفه الثاني الذي أنهى كل شيء.
ولعبت ويلز مباراتها الأولى في كأس العالم منذ 64 عاما.. ماض لم يكن مبهرا لكنه مميزا في الحاضر فويلز وصلت إلى نصف نهائي يورو 2016 وتواصل النجاحات بعد ذلك.
المشكلة أن ويلز اصطدمت بمنتخب يتطلع بوضوح للمستقبل. يمكن أن تستشف ذلك في كل ما يخص المنتخب الأمريكي.. أعمار صغيرة.. كرة قدم حديثة.. حماس كبير يصل إلى درجة التهور البدني وهذا هو بيت القصيد.
الولايات المتحدة سيطرة تماما على الشوط الأول ولو كانت وزعت مجهودها البدني بشكل أكثر ذكاءً، أو حتى استغلت تفوقها الكبير في هذا الشوط بهدفٍ ثانٍ كانت ويلز على الأرجح لن تتعادل. لكن أصدقاء غاريث بيل استفاقوا في الشوط الثاني وكانوا الطرف الأفضل وأضاعوا عدة فرصة للتسجيل قبل وبعد هدف التعادل، ولو أن الأمريكيين كادوا أن يعودوا للتقدم بعد استعادتهم للاتزان في آخر ربع ساعة من المباراة ما جعلني أشعر من جديد وأن الولايات المتحدة أفضل كفريق ولو بفارق نسبي لكن هذا الفارق لم يتم استغلاله وقد تدفع أمريكا ثمنه غاليا في حالة إذا خسرت أمام إنكلترا فالإنكليز قد لا يلعبون بالجدية الكاملة في المباراة الأخيرة أمام ويلز ما قد يسمح للأخيرة باقتناص نقطة كافية للتأهل. كل هذا طبعا رهين باستمرار إيران كضيف شرف وألا تُبعث من جديد بعد الكارثة النووية السداسية التي ضربتها.
أختتم بحكاية لطيفة في مقابلة شاهدتها اليوم حيث يستضيف مذيع أجنبي بعض المشجعين الإنكليز المتواجدين في قطر، فيخبره أحدهم أن عدم وجود كحول بوفرة ليس بهذا السوء الذي كان يتصوره، فهو يجعل المشاعر والأحاسيس والحماس أصليا خلال المباريات بدل أن تكون تلك الحماسة ناتجة عن الكحول فقط. فيجيب المذيع برد أكثر طرافة عندما قال مازحا: “الحقيقة أنني قلق من عدم وجود الكحوليات، لأنه سيجعل كثير من المشجعين يرون فرقهم على حقيقتها!”.