لك يا منازل في القلوب منازل

عملية تدمير المنازل التي حدثت في سوريا طوال السنوات السابقة، ليست عملية فيزيائية تستهدف مواد البناء فقط، بل هي تستهدف التدمير النفسي والإفقار، والحط من كرامة صاحب المنزل وعائلته، التي تخرج إلى العراء وربما إلى السكن في خيمة، وهي تدمير لقيم المواطنة والقبول المتبادل بين أفراد المجتمع والجهة التي أمرت بهذا التدمير.
يتذكر الإنسان منزل عائلته، ومدرج طفولته في المنزل الذي نشأ فيه ونسج ذكرياته مع أهله ومع أقرانه ومع جيرانه، ما يجعله محطة رئيسية في مسار حياته، حتى لو ترك هذا المنزل مستقبلا أو هاجر إلى مدينة أخرى، أو إلى قارة أخرى، وتعج الأغاني والأشعار والكتب في ظلال المنزل الأول الذي نشأ فيه مبدعوه، متذكرين الخطوات الأولى، والحب الأول، الأفراح والأحزان، النجاحات والإخفاقات، الحفلات السعيدة ومجالس العزاء، وإطلالات النوافذ، ومناظر الشروق والغروب، وأيام الحر والبرد، واللحظات السعيدة التي قضوها فيه مع أول كتاب أحبوه!
في مطلع الثورة السورية قال أحد محققي المخابرات في مدينة الرقة، سنضع دبابة أمام كل بيت، وسنحاسب كل من فرح أو ابتسم لصور وفيديوهات المظاهرات المنشورة على التلفزيون، ولو كان وحيدا في منزله، وكان يكرر دائما نحن أقوياء وتدعمنا الدول، و(مين انتو ولاه؟). لم يكتف النظام بنشر الدبابات والشبيحة، بل أرسل صواريخ السكود إلى المناطق السكنية والأسواق، وكنا نركض في الشوارع لنتفادى سقوط برميل متفجر رمته مروحية وتتداوله الرياح لتغير احتمالية سقوطه مع كل هبة هواء حتى تصل إلى منزل أو منازل يتم تدميرها وقتل من بقي فيها، ناسفا كل الذكريات الجميلة والحزينة لناس المكان الذين نجوا، بينما ذهب آخرون هم وذكرياتهم وصاروا رمادا، كانت إذاعات النظام وتلفزيوناته تصف الضحايا بأنهم مجرد إرهابيين! اليوم مع المشاهد الممتدة للبيوت المدمرة تبدو سوريا متصحرة، وشوارع الكثير من أحياء مدنها خالية من البيوت، التي تؤوي أهلها وتحمي كرامتهم، ما جعل سكانها يتحولون إلى نازحين ولاجئين في داخل البلاد وغرباء في بلدهم وفي البلدان المجاورة والبعيدة!

تركز الدول والسياسيون على ضرورة إعادة البناء، ويتحدث المختصون عن أشكال التخطيط والبناء والتمويل، ولكنهم يتناسون ما فقده السوريون من ذكرياتهم ومن شعورهم بمساحة المواطنة التي انتزعوها من أشداق الأنظمة العسكرية، بعدها تم انتهاك مساكنهم وتفتيشها وتعفيشها وتدميرها من قبل شبيحة الأسد، كيف تحولت واحة المنزل العائلية إلى صحراء خربة تفتقد معاني الحياة الاجتماعية والقانونية التي كانت تجمع السوريين في ما بينهم.
كل الأنظمة والقوانين الدينية والمدنية تحرّم انتهاك البيت وتمنع الدخول إليه بلا إذن قانوني وضمن ضوابط صارمة لوعي تلك الأنظمة، بان المنزل هو وحدة بناء الحياة الاجتماعية والحضرية، التي يمتد تاريخها إلى عمق الحياة الإنسانية منذ أن سكن الإنسان في المغارات والأكواخ، وصولا إلى سكن القرى والمدن التي نمت فيها كل أشكال التطور التقني والقانوني والاقتصادي، فالمدينة المتشابكة المنازل هي المخلوق الذي لا يشبه غيره من موجودات الحياة الطبيعية، فهي ابتكار إنساني فريد لا يُستنسخ من نموذج طبيعي، فالقرى الأولى، والمدن الأولى، ولّدت اجتماع البشر وصارت مساحة لتبادل الأفكار، اعتبارا من وحدة صغيرة هي المنزل بكل تغيراته من الخيمة إلى الأبنية العالية المكتظة بالسكان!
التحول الحديث في مفاهيم الحرب وفي الأجيال الجديدة من الحروب جعل استهداف المنزل وسكانه حربا حديثة، وحوّل الصراعات من جبهات الحرب النظامية، التي عرفتها القرون السابقة، إلى الجبهات القتالية الهجينة التي يكون المدنيون فيها مستهدفون وهم في بيوتهم التي تعني ما تعني لهم. بالإضافة إلى حرب نظام الأسد على السوريين، فإن الحرب في غزة، الحرب في السودان، حرب داعش على المدن، وحرب الحلفاء الغربيين على المدن، التي كانت تحتلها داعش، كل أشكال الحروب المستحدثة في منطقتنا تستهدف المدنيين وتستهدف هدم منازلهم بوحشية، تستسهل قتل المدنيين وتدمير الأسقف التي يستظلون تحتها!
كيف نعيد بناء سوريا بلا ذكريات بيوتها المهدمة، كيف نعيد بناء سوريا بلا شبابها المعتقلين الذين لم يرجعوا، كيف نعيد بناء سوريا بلا مفهوم واضح وصلب للمواطنة التي نمت في مدارج بيوت السوريين، وفي ذكرياتهم، كيف يمكن للجيران أن يلتقوا بلا منازل وبلا شعور بالأمان حتى من السماء التي سقطت منها الصواريخ والقذائف، وحرمت النساء من مطابخهن ومن أسرهن، وحرمت السوري من مساحات واسعة من ذكرياته ومن آماله.
المنزل السوري الجديد يجب ألا تكون أمامه دبابة ولا يراقبه مخبر ولا يتدخل بحياة أفراده أي متبجح، ولا يدخله أي حامل سلاح إلا بأمر القانون، المنزل الجديد الذي سيتم بناؤه يجب تحصينه وتحصين خصوصية ساكنيه الذين يحملون صفة مواطن سوري حر!

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية