الغائب الأكبر أثناء الحملة الانتخابية كان الشباب الحراق، الذي فضل على العكس، استغلال أجواء الحملة والانتخابات لركوب البحر، للتوجه نحو السواحل الإيطالية والإسبانية بشكل كبير، لاحظه الكثير من الجزائريين على الوسائط الاجتماعية. في فترة الصيف هذه التي كانت فيها المؤسسة الأمنية مهتمة أكثر بترتيب أمور الانتخابات. قي وقت تميز فيه البحر بهدوء كبير، سهّل مهمة منظمي هذه الرحلات التي تنوعت وسائلها ومسمياتها ونقاط انطلاقها وأسعارها – في حدود 150 مليون سنتيم (8000 دولار أمريكي) بالنسبة لما يسمى بالسريع. كمتوسط سعر من نقاط الانطلاق المنتشرة على السواحل الجزائرية في الشرق، والغرب والوسط.
الحرقة التي كانت غائبة تماما كموضوع، في خطاب المرشحين، الذين اكتفوا بالحديث عنها بشكل غير مباشر، عبر لغة بيروقراطية ساكتة، فضلت الحديث عن بعض المسائل المرتبطة بالبطالة وتشجيع الاستثمار، عبر إنشاء المؤسسات الصغيرة التي يفترض فيها، حسب هذا الخطاب، أن تمتص بطالة الشباب من الذكور تحديدا، وليس الإناث اللائي يقل الحديث عنهن عندما يحضر الكلام عن البطالة، رغم بروزهن كطالبات عمل، بعد التحسن الكبير في مستوياتهن التعليمية. ليغيب تماما الحديث عن الحرقة التي تحولت إلى مشروع حياة لدى الكثير من الشباب الجزائري، وهو يفكر فيه وينظمه لسنوات، ليس من قبل الشاب المعني لوحده، بل من قبل أصدقاء الحي وبعض أفراد العائلة، الذين يمكن أن يساهموا ماليا ونفسيا في دعم هذا المشروع، الذي لا يقتصر على أبناء الفئات الاجتماعية الفقيرة، يتم التعامل معه كمخرج من الوضع داخل البلد، الذي لم يعد يطيقه الكثير من الجزائريين الشباب، بل يشمل فئات أكثر يسرا لتتوسع الحرقة وتأخذ أشكالا متنوعة، لم تعد تكتفي بركوب البحر عبر «البوطي» البسيط، كما تسمي اللغة الشعبية الدارجة القارب الصغير، المستعمل في رحلة الانتقال إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية بشكلها غير النظامي.
القادر من السياسيين على إقناع الجزائريين بالبقاء في بلدهم وربط مصيرهم الشخصي بمصير البلد، هو السياسي الناجح الذي يمكن ان يجند الجزائريين، ويبني البلد
الحرقة التي أخذت أشكالا أكثر جماعية في السنوات الأخيرة، لم تعد تقتصر على الشاب العازب، كما كانت في البداية لتتوسع وتشمل أفراد العائلة الآخرين، بمن فيهم الأطفال، كما وثقت لذلك الكثير من الصور والفيديوهات المنتشرة على الوسائط الاجتماعية هذا الصيف، يظهر فيها النساء وكبار السن، الذين لا يعانون بالضرورة من البطالة، تجعلنا نقول، إن سوسيولوجية البوطي، عرفت تحولات عميقة مع الوقت. على مستوى الجنس والعمر والمواقع المهنية – الاجتماعية للمغادرين، بعد أن توسعت جغرافية الحرقة، لتشمل أبناء المناطق الداخلية وليس سكان الشريط الساحلي فقط، كما كانت الأمور قبل استفحال ظاهرة الحرقة في الجزائر منذ أكثر من عقدين. لنكون أمام صعوبات كثيرة يعانيها الخطاب السياسي الرسمي في الكلام عن أسباب الحرقة، التي يحيلها بشكل أوتوماتيكي إلى البعد الاقتصادي، الذي يتصور أنه قادر على التحكم فيه عن طريق الريع المالي الذي ما زال يتحكم في تسييره. بُعد اقتصادي يكون حسب هذه النخبة السياسية المعزولة عن مجتمعها هو الوحيد الذي يحفز الشباب في الجزائر للهجرة بهذا الشكل الخطير، عبر ركوب أمواج البحر بكم المآسي المرتبط بها. وهو ما يفسر عدم قدرة خطاب الحملة الانتخابية على التعاطي مع هذه الظاهرة المركبة التي تحيل الى مستويات عدة، من بينها الأبعاد النفسية – الاجتماعية وتلك المتعلقة بالنظرة إلى الحياة في حد ذاتها، التي لم يعد يقبل الفرد الجزائري استهلاكها، في الجزائر، بعد ان توسعت آفاق نظرته إلى الحياة وهو يعيش على بعد ساعات فقط من نموذج الحياة التي يصبو إليه، في دول الجارة الأوروبية على الضفة الشمالية للمتوسط التي يملك فيها كوسط اجتماعي وعائلي، الكثير من الروابط الاجتماعية القديمة، تسهل له هذه الحرقة عند انطلاقها في البداية على الأقل. هجرة لاحظنا كيف توسعت لاحقا نحو بلدان أوروبية أرحب وليس فرنسا فقط بالضرورة. بعد ظهور اتجاهات جديدة في مسار الهجرة الجزائرية، نتيجة هذه الأنماط الجديدة من الهجرة غير النظامية بحاملها الاجتماعي الجديد المختلف عما سبقه من حوامل تاريخية معروفة في تاريخ الهجرة الجزائرية القديمة، التي انطلقت تاريخيا بطابعها العمالي والعسكري المختلط شارك فيها الجزائريون عنوة في حروب فرنسا الأوروبية والكونية الاستعمارية، وإعادة تعميرها لاحقا، للاستقرار على ترابها لأجيال.
غياب الحرقة عن الحملة الانتخابية، كما يعكسها خطاب النخب السياسية في التعامل مع هذا الملف المعقد بأبعاده المختلفة الذي يؤكد هذه الحقيقة، إن من يستطيع التعامل مع هذا الملف وإيجاد الحلول له قادر على التعاطي مع معضلات الحالة الوطنية الجزائرية بمختلف أبعادها. نتيجة التركيز الكبير الذي يمثله ملف الحرقة في الجزائر. فالقادر من السياسيين -أفرادا وأحزابا-على إقناع الجزائريين بالبقاء في بلدهم وربط مصيرهم الشخصي بمصير البلد، هو السياسي الناجح الذي يمكن ان يجند الجزائريين، ويبني البلد بعد سلسلة الهزات التي عرفتها العلاقة بين الحكام والمحكوم. كما عبر عنها الحراك الشعبي الذي انطلق في فبراير 2019 دون ان يحقق المطالب التي خرج من أجلها لحد الآن.
حرقة ستبقى جزءا من يوميات الجزائريين والجزائريات لتتلون بألوان الأزمات التي يعيشها البلد في علاقاته بمحيطه الإقليمي، الذي يعيش حالة اضطراب أكيدة تلعب فيها ظاهرة الهجرة غير النظامية دور المسرع في تأزيم العلاقات بين الدول، كما هو حاصل على الضفة الشمالية للمتوسط التي وصلت في دوله قوى سياسية يمينية متطرفة جعلت هذه الهجرة غير النظامية على رأس أولوياتها، بكل ما يمكن تصوره من آثار على العلاقات الدولية في هذه المنطقة المنقسمة على نفسها ثقافيا ودينيا. حولّها اليمين المتطرف إلى ورقة أساسية في حملاته السياسية المربحة. لتكون الصورة أكثر قتامة على الضفة الجنوبية للجزائر بما تعرفه منطقة الساحل الافريقي من اضطراب أمني وسياسي مس كيانات الدول – الهشة أصلا- والعلاقات في ما بينها بعد بروز ظاهرة الجماعات المسلحة التي تعتمد على الهجرة الدولية كرافد أساسي لنشاطها بكل ما يمكن ان يتسبب فيه من تهديد لاستقرار كل المنطقة بحدودها الدولية، التي لم تعد تعترف بها هذه الجماعات ما فوق – وطنية في أهدافها وتنظيمها وفواعلها الاجتماعية.
كاتب جزائري
العجيب أن نجد من بلغ به تملق السلطة إلى درجة التطاول على جيل بكامله.