لندن ـ «القدس العربي»: يدرك الكيان الإسرائيلي أن وجوده في الشرق الأوسط رهين بمستوى القوة التي يمتلكها، أي التفوق على كل جيرانه، لكن يدرك أن هذا المعطى ليس أبديا بحكم ارتفاع قوة الدول المجاورة له. ومن ضمن الدول التي تقلقه كثيرا هي باكستان التي تحقق قفزة نوعية في الصناعة العسكرية وكيف يمكنها تعزيز قدرات الدول العربية مثل السعودية وما قد يترتب عن ذلك في الملف الفلسطيني.
الصناعة العسكرية الباكستانية
وتتميز إسرائيل بالدراسات الاستراتيجية تحسبا لكل الأخطار، لاسيما في المجال العسكري. وكان معدو بعض الدراسات في إسرائيل محقين عندما اعتبروا منذ التسعينات أن مصدر الخطر في العقود المقبلة ليس الدول العربية لأنها ضعيفة عسكريا بل الحركات السياسية-العسكرية مثل حركة حماس وحزب الله، لأنها ستفرض نمط مواجهة جديدة على الكيان، وهو ما حدث خلال العشرين سنة الأخيرة. أما في الوقت الراهن، ما يقلق إسرائيل هو التقدم العسكري لبعض الدول وكيف سيرفع من القدرة العسكرية لدول المنطقة، ما يهدد وجودها نظرا لاستمرار القضية الفلسطينية. وتخاف إسرائيل ثلاث دول وهي تركيا وإن كان بدرجة أقل، ثم إيران بشكل كبير وأخيرا باكستان بشكل أكبر. حتى الوقت الراهن، لا تعاني إسرائيل كثيرا من تركيا عسكريا بل سياسيا، إذ لم تبع أنقرة عتادا عسكريا متطورا لا للدول ولا للحركات السياسية-العسكرية مثل حماس وحزب الله. كما أن ارتباطات تركيا في الوقت الراهن بالغرب تجعلها لا تغامر كثيرا في مواجهة إسرائيل. عكس إيران، إذ تستفيد الحركات السياسية-العسكرية من تقدم الصناعة العسكرية الإيرانية، ويبقى حزب الله المثال الأبرز، إلى مستوى أن إسرائيل تعتبر هذا الحزب الخطر الحقيقي أكثر بكثير من دول مثل سوريا.
وتبقى باكستان الغائب حاليا والحاضر في كل أجندات ودراسات إسرائيل لدورها في تهديد التوازن العسكري لصالح دول مثل العربية السعودية بالدرجة الأولى ثم مصر وليس الحركات مثل حزب الله. ويعود القلق الإسرائيلي من باكستان، أنها قوة نووية، لهذا تسمى «القنبلة النووية الإسلامية» وتتعهد باكستان بالرد على أي دولة تجرأت وقصفت دولة إسلامية بالنووي، وهي بهذا تعني إسرائيل أساسا. ومن جهة أخرى، يعتبر الباكستانيون من الشعوب الأكثر معاداة لإسرائيل بسبب فلسطين، وهذا يعني كذلك استمرار سياسة الحزم والرفض والتطرف الباكستانية ضد إسرائيل لعقود مقبلة. ويكفي أن جواز الباكستاني يحمل تنبيها ينص أنه صالح لزيارة كل دول العالم باستثناء إسرائيل. وهو تقليد دأبت عليه باكستان منذ اعتراضها سنة 1948 على إنشاء دولة الكيان إلى تموز/يوليو الماضي عندما اعتبرت «إسرائيل كيانا يرتكب جرائم حرب».
وتراهن إسرائيل على التقرب من باكستان في محاولة منها لتحييد خطر هذا البلد، وراهنت على الجنرال بريز مشرف سنة 2005 حيث كان قد أجرى هذا الجنرال لقاء شهيرا مع يهود نيويورك سنة 2005 خلال أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة. ثم طلبت من بعض الدول العربية وعلى رأسها الإمارات والمغرب والبحرين وبشكل غير مباشر السعودية لكي تقنع باكستان بالانضمام إلى مسلسل التطبيع الذي بدأ سنة 2020. وكانت باكستان واضحة على لسان وزير خارجيتها بلاويل زرداري بوتو في تصريح لـ«القدس العربي» يوم 10 مارس/آذار 2023 «لا توجد أي إمكانية للاعتراف بإسرائيل قبل أن يكون هناك اعتراف وقبول وقرار من الجانب الفلسطيني. هناك أسباب ثقافية وتاريخية وهناك أسباب تتعلق بالشعب الباكستاني، نحن فخورون بأننا منذ وقت طويل قررنا ألا نعترف بدول فصل عنصري». وحاولت عدد من الأصوات اليهودية اعتبار الرئيس المعتقل عمران خان مرشحا لقبول التطبيع مستقبلا. ومن ضمن الإشارات لهذا الموضوع، ما جاء في بلوك أينور باشيلوفا المحللة الإسرائيلية في «تايم أوف إسرائيل» يوم 4 ايلول/سبتمبر الجاري أن عمران خان ورغم سياسته التي تميل إلى تعزيز العلاقات مع الصين والسعودية، فهو منفتح على الآخرين، في تلميح لإسرائيل. وتعتمد في تفسيرها أن عمران خان كان متزوجا من اليهودية جميما غولدسميث (زوجته الأولى) وعائلة غولدسميث لديها تأثير وسط نخبة بريطانيا. ويبرز المقال كيف أن عمران خان وقف إلى جانب زاك غولدسميث شقيق زوجته الأولى في سباقه على رئاسة بلدية لندن ضد صديق خان الذي فاز برئاسة البلدية. وتكتب في ختام مقالها «يجب أن تبذل إسرائيل وحلفاؤها كل ما في وسعهم لضمان حرية عمران خان في المشاركة في السياسة الباكستانية وأن يكون الصوت الذي يتزعم الاعتدال، مواقف والتفكير الاستراتيجي لخان قد تؤثر في العلاقات بين باكستان وإسرائيل» في إشارة إلى تحقيق التقارب مستقبلا لأنه تعتبر عمران خان عندما كان في السلطة قبل الإطاحة به لديه خطاب لشعبه وبرغماتي في العلاقات الخارجية.
التعاون العسكري العربي-الباكستاني
الهوس الجديد بباكستان وسط نخبة الكيان الإسرائيلي يعود إلى إدراكها صعوبة التطبيع مع دولة مثل باكستان قد تلعب دورا عسكريا في المستقبل وبسبب الرأي العام المعادي للكيان وتغلغل الفكر الإسلامي وسط المؤسسة العسكرية. ورغم هذا، لا تخاف إسرائيل باكستان مباشرة بل تخاف من تعاونها العسكري مع الدول العربية ومنها السعودية ومصر، ولا ينسى الجيش الإسرائيلي أن الطائرات القليلة التي فقدها في مواجهة العرب كان سنة 1967 بفضل دور ربابنة باكستانيين على متن مقاتلات أردنية.
ولفهم أعمق للقلق الإسرائيلي، يجب استحضار دور الطائرات المسيرة الإيرانية والتركية في حرب كبرى مثل الروسية-الأوكرانية، والآن دور الصواريخ الإيرانية سواء في أوكرانيا أو التي يمتلكها حزب الله. وعلى ضوء هذا، سيكون للتعاون العسكري الباكستاني الدور الخطير في مستقبل الشرق الأوسط في حالة تصنيع مشترك مع الدول العربية الشرق الأوسطية.
وتحتل باكستان المركز التاسع عالميا في ترتيب الجيوش، لكن يبقى ما تتميز به أنها الدولة التي تمتلك السلاح النووي وانتقلت إلى مصاف الدول التي تصنع مختلف الأسلحة من دبابات وطائرات مقاتلة بالتنسيق مع الصين وإنتاجها لترسانة كبيرة من الصواريخ منها «حتف 5» أو «غوري 2» الذي يحمل رؤوسا تقليدية ويمكن أن يحمل رؤوسا نووية. كما تملك صواريخ من طراز «غوري 3» عابرة للقارات ويبلغ مداها أربعة آلاف كيلومتر، فضلا عن صواريخ شاهين1 و 2 و 3 وصواريخ باير.
كما تبدي إسرائيل قلقا من المناورات العسكرية بين باكستان ومختلف الدول العربية مثل الأردن والسعودية وتابعت بقلق المناورات الكبرى مع مصر خلال شباط/فبراير الماضي التي جرت تحت اسم «رعد 1». وكتب الموقع الإسرائيلي NZIV «ربما تبدو باكستان بالنسبة لك دولة بعيدة غارقة في مشاكل سياسية واقتصادية، لكن باكستان تمكنت بطريقة أو بأخرى من خلق علاقات سياسية تؤدي إلى سلسلة من التدريبات العسكرية المشتركة مع دول الجوار الشرق أوسطي».
تدرك إسرائيل أن مواقف الدول غير قارة، اليوم يوجد نظام يميل إلى التطبيع وغدا نظام قد يكون متشددا في بعض القضايا ومنها القضية الفلسطينية، وإذا كان التعاون العسكري لا يشكل خطرا اليوم، فغدا سيكون خطرا في حالة تغير الأنظمة والمواقف.