في إحدى جلسات الصالون الثقافي في بيتي استرعى وجود لوحتين كبيرتين بحجم جدارية، معلقتين على حيطان الغرفة للشاعر محمود درويش نظر أحد الحاضرين، فقال مستغربا: حسبتك نزارية الهوى، ولم أتوقع أن أرى في بيتك بدل اللوحة لوحتين لمن يتوازى مع نزار قباني في الأسلوب الشعري ولا يتقاطع. أجبته أزيدك أن هناك لوحة ثالثة له في مكتبي لتكتمل الثلاثية. وإذا كان شعر نزار قباني عشقي المعلن فقصائد محمود درويش حديقتي السرية أفيئ إليها بحثا عن جمالية مختلفة وحساسية شعرية عصيّة على التقليد، رغم وجود كثير من النماذج المستنسخة لها.
وهذا الشغف الدرويشي ليس طارئا، بل تمتد جذوره إلى بداية تكويني الأدبي وأنا في بدايات الدراسة الجامعية. وبعكس كثيرين لم أعرف شعر درويش من خلال دواوينه التي كان ينشرها، ولا من تسجيلات أمسياته بإلقائه الساحر الآسر، بل كانت بوابتي إلى شعره أغاني مارسيل خليفة مثل «أحن إلى خبز أمي» و«وعود من العاصفة» وغيرها من القصائد المغناة، التي أصابني بعدوى عشقها جيل من الشباب البحريني أسبق من جيلي إلى الجامعة كان متأثرا بفكر اليسار، وعن طريقه عرفنا الفكر الملتزم في الأدب والفن، وأذكر أن أول احتكاك لي بشعر محمود درويش مقروءا لا مسموعا كان في سهرة ليلة رأس السنة منتصف الثمانينيات، في بيت صديقة تنتمي لعائلة فنية، وللغرابة كانت كل أغانينا في تلك السهرة مما نحفظه لمارسيل وماجدة الرومي، فقد كان زمن الشعور القومي والفكر الأممي. يومها أهداني أحد الشباب الحاضرين مجموعتين شعريتين لمحمود درويش إحداهما بعنوان «حبيبتي تنهض من نومها» والأخرى «مديح الظل العالي» فكانتا الجسر الذي عبرت عليه من ضفة النهر النزارية إلى الضفة الدرويشية، وحفظت أغلب قصيدة «مديح الظل العالي» مثل كثير من الشباب لغنائيتها العالية، ورددت كثيرا من أبياتها مثلما يعلق مطلع أغنية على اللسان فلا نستطيع منه فكاكا. وثبّت هذا التحوّلَ الدرويشي عندي تقديمي لسنتين متتاليتين حفلات فرقة «أجراس» البحرينية، وكانت قصائد درويش الطبق الرئيسي في برنامجهم الغنائي. وبقيت أزور بخفّة عصفورة حذرة حديقتي الدرويشة، مرة عبر جدالي مع صديقة كانت مولعة بشعره مثل ولعي بشعر نزار، وأخرى عبر جديد مارسيل خليفة وماجدة الرومي من قصائده، وثالثة من خلال بحث جامعي يكلفني به أحد الأساتذة عن شعره، ورابعة عن طريق كتاب شاكر النابلسي عنه «مجنون التراب» فقد سلّمني مفتاح الدخول إلى ظاهرته الشعرية. وأعلنت عشقي لشعر محمود درويش بعد أن كنت أعتبر الإعلان خيانة لحبي لشعر نزار قباني، يوم قرأت حوارا مع محمود درويش على صفحات مجلة «المجلة» يزيّن صدر الصفحة عنوان بالخط العريض «من لم يستفد من نزار قباني فليرفع إصبعه».
تأخر لقائي الشخصي بالشاعر محمود درويش فلم يتيسر ذلك إلا سنة ونصف السنة قبل رحيله، ففي شهر فبراير/شباط من سنة 2007 انعقدت في القاهرة الدورة الأولى للملتقى الدولي للشعر العربي وكانت تحمل اسم الشاعر صلاح عبد الصبور. وكان نجم الملتقى محمود درويش وشاءت الأقدار أن أكون مدعوّة لها بصفتي شاعرة تكتب قصيدة النثر لا إعلامية – وكان برنامجي يومها «نلتقي مع بروين» يلقى استحسانا بخطه الثقافي وضيوفه المتميزين ـ كما شاءت الأقدار أيضا أن أكون مقيمة في الفندق نفسه الذي كان ينزل فيه درويش، فجالسته في بهو الفندق وحادثته وإحساس بالفخر يغمرني أني سأقرأ شعري على المنصة نفسها التي سيلقي فوقها هو قصائده. وتكوّن لدي يومئذ انطباعان أثبتت لي الأيام صوابيّتهما: أوّلهما تضايق درويش من الحديث عن قصائده الثورية التي صنعت شهرته في البدء مثل قصيدته الذائعة الصيت «سجل أنا عربي» وأذكر أنه كان يرفض في أمسياته الشعرية الأخيرة أن يقرأها حين يطلبها الجمهور منه، وللمفارقة هو التضايق نفسه الذي كان يستشعره نزار قباني حين يُختصر في شعره الغزلي فقط، فلم يكن يريد أن يُختزل بوصف «شاعر المرأة» كما لا يريد درويش أن يُختزل أيضا بوصف «شاعر الثورة».
تأخر لقائي الشخصي بالشاعر محمود درويش فلم يتيسر ذلك إلا سنة ونصف السنة قبل رحيله، ففي شهر فبراير/شباط من سنة 2007 انعقدت في القاهرة الدورة الأولى للملتقى الدولي للشعر العربي وكانت تحمل اسم الشاعر صلاح عبد الصبور.
والانطباع الثاني أنه كائن شديد الاعتداد بنفسه، وكان عقلي طيلة مجالستي له يجري مقارنة بين لقائي به ولقائي بنزار قبل سنوات من ذلك في بيته اللندني، فاللقاء بدرويش يشعرك بعنفوان الفلسطيني، في حين أن اللقاء بنزار يشعرك بدماثة الشامي. وقد اقترحت عليه يومها أن أستضيفه في برنامجي فوعد خيرا. وظلت هذه الرغبة في محاورته قائمة وأحببت جرّها من سماء الأماني إلى أرض الواقع، حين استضفت بعد لقائي القاهري بمحمود درويش بسنة الكاتبَ والناقد خيري منصور رحمه الله، وكانت تربطه بمحمود درويش صداقة حميمة، ومنه عرفت الكثير عن محمود درويش من حبه للأناقة في لبسه، وهوايته في جمع الأقلام المميزة، وطريقة تحضيره للقهوة، وعشقه للعزلة، وحين كنت أسأل خيري بفضول الأنثى عن علاقة درويش بالمرأة، كان يلوذ بالصمت محافظة على أسرار صديقه. فأحببت من خلال أحاديث خيري الجانب الإنساني من هذا الشاعر الظاهرة، بعد أن تصالحت منذ سنوات طويلة مع جانبه الشعري. وبعد انتهاء تسجيل الحلقة اتصل خيري منصور بصديقه هاتفيا وذكّره بوعده لي أن يكون ضيفي فجدّد وعده، وأخبرتُه في تلك المحادثة التلفونية أن ديوانه «حضرة الغياب» يلازم طاولة سريري فضحك وقال مازحا «انتبهي سيكفّرونك».
أما لقائي الثاني والأخير بمحمود درويش فحصل قبل ثلاثة أشهر من وفاته ويعود الفضل فيه للاستشاري الثقافي الإعلامي غسان طهبوب، حيث جمعنا على طاولة عشاء وجلسة جميلة بحضور خيري منصور والإعلامية الراحلة نجوى قاسم رحمهما الله، وكان محمود درويش مسافرا إلى كوريا لتكريمه هناك، يومها دار نقاش بيني وبين نجوى عن استفتاء أجرته مجلة «روتانا» لاختيار أفضل محاور تلفزيوني عربي، وحين سألتُه بفضول الإعلامية عمّن يفضّل من الأسماء الثلاثة المطروحة حينذاك، قال يعجبني محمود سعد في طريقة حواره وذكائه في إدارة اللقاء. والتفت إليّ مضيفا أنه يحسن بي الاهتمام أكثر بتجربتي الشعرية، فالأدب والشعر أبقى من الإعلام، والتلفزيون وحش مخيف أشبه بكائن يحرق من يقترب منه كثيرا. في ذلك اللقاء لمست خوف محمود درويش من الوحدة، وهو يحدثنا كيف أصبح يوصد باب بيته دون أن يغلقه بالمفتاح فقد كان موت صديقه معين بسيسو حاضرا في ذهنه يوم كان من المقرر أن تجمعهما أمسية شعرية مع سميح القاسم في لندن، وأصيب معين بسيسو بنوبة قلبية توفي إثرها في غرفة الفندق ولم تُكتشف وفاته إلا بعد يوم كامل لأنه كان يضع لافتة «يرجى عدم الإزعاج» على باب غرفته.
بعد هذه اللقيا بلا ميعاد توفي محمود درويش في هيوستن بأمريكا في 9 أغسطس/آب 2008 بعد إجرائه لعملية القلب المفتوح رحمه الله. ولئن فاتني أن أحاوره في برنامجي رغم موافقته على ذلك، فلم يفتني أن أعدّ حلقة احتفائيّة به نالت رواجا كبيرا، استضفت فيها صديقه المقرّب خيري منصور رحمه الله، والناقد الصحافي عبده وازن، وقد تزيّن الاستديو بجداريات لصوره منها ما صار جزءا من صالوني الثقافي.
مضى على رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش خمسة عشر عاما ومع هذا لا يزال صوته الأعلى «في حضرة الغياب» فالشباب يمسرحون قصائده والموسيقيون يستلهمون من شعره مقطوعاتهم وليس الثلاثي جبران الوحيد في ذلك. ولا تزال قصيدته تمتلك وحدها مكونات الخلطة السحرية بين الانتشار الجماهيري العريض، وتقدير النخبة المثقفة، دون أدنى تنازل فني. فلم يسقط في الغنائية المجانية التقريرية التي تؤدي حتما إلى «الجمهور عاوز كده» ولا في الفصام الذهني المغلّف بالغموض العبثي الذي انزلقت إليه في أحيان كثيرة القصيدة الحديثة. يكفي أننا حين نقرأ شعر درويش نتأكد فعلا أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
شاعرة وإعلامية من البحرين