قيِراطٌ من الحق يعادل طلقة رصاص في الجسد، وفقاً لمؤشر التعبير والحريات في بورصة الحزب الحاكم، حسب القانون المعمول به في الخفاء لا القانون المسن في دستور البلاد، إذ ليس كل ما يلمع ذهباً. يقول عبدالرحمن الكواكبي صاحب كتاب «طبائع الإستبداد» الذي يعد من أهم الكتب العربية التي نُشرت في القرن التاسع عشر، وناقش فيه ظاهرة الاستبداد معرّفاً المستبد بـ»أنه يتحكم بشؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم أنهُ غاصب ومتعد، فيضع كعب رجلهِ على أفواه الملايين يسدّها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته، والمستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو الشر والحرية أمهم، والعوام الصِبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم أخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبّوا وإن دعوهم لبّوا وإلا فيتصل نومهم بالموت».
أن تكون كاتباً يعني أن تكون صاحب قضية أنت مؤمن بها، تدعو الآخرين إلى الايمان بها، أو التضامن من أجلها، تقدمها إلى الرأي العام بصيغة أدبية في قالبٍ شعري فتغدو شاعراً، أو ربما في قالب القصة أو الرواية فتغدو روائياً أو قاصاً، إذن الكتابة قضية.
«أعمدة النيران الخضراء»؛ أنطولوجيا الشعراء العراقيين الذين قتلهم حزب البعث العربي الاشتراكي «العراق» وصدام حسين بين أعوام 1968 ــ 2003» صادرة عن منشورات الجمل 2016، تحقيقٌ قام به الشاعر العراقي حيدر الكعبي، معتمداً بذلك على ثلة من الأدباء والمثقفين والمعنيين وذوي الشعراء، الذين لقوا حتفهم في غياهب السجون وعتمتها، وعلى الناجين مصادفة، الذين كانوا في تلك الزنازين. كما أنه استعان بأرشيف بعض الكتَّاب، وعلى وسائل التواصل الحديث لِما نشرت فيه أشياء من حياتهم الخاصة أو حياتهم الأدبية.
الحقيقة كانت المحرض الأقوى على صنع هذه الأنطولوجيا؛ هذا ما يقول صانعها، فهي تهدف إلى أن يسترد هؤلاء الشعراء بوصفهم شعراء حقهم في الوجود. لقد حاولت السلطة أن تمحوهم ونحاول نحن الضحايا الناجين أن نكتبهم، هذه الأنطولوجيا إذن هي انتصارٌ للحقيقة. ويشير الصانع إلى أنها غير كاملة، لأن صنعها اختصر على جهدٍ فردي لنخبة من المهتمين والغيارى، استمرت حوالي العام ونصف العام، وكأي ثمرة فهي محكومة بالظروف البيئية التي تثمر فيها كدرجة الحرارة وخصوبة التربة، ثم إن هناك صعوبات أخرى اعترضت المشروع، حيث يصعب أحياناً الوصول إلى مصادر المعلومات؛ ففي معظم الأحيان كانت السلطة تتستر على جرائمها، إذ لم تعترف إلا بعدد محدود جداً من ضحاياها؛ هم أولئك الذين أصدرت بحقهم أحكاماً بالإعدام مثل «مناضل نعمة، حسن مطلك، غازي الفهد، خليل المعاضيدي» أمّا العدد الأكبر من المغيّبين فما زالت تفاصيل اختفائهم غامضة.
لماذا تقتل السلطة الشعراء؟
سؤال يطرحه حيدر الكعبي على القارئ أو كرشقة ماءٍ على وجه النائم فيصحو ويجيب مباشرةً دون تعثر في الكلام، «إن السلطة لا تقتل الشعراء لكونهم شعراء، السلطة تقتل الشعراء لأنهم معارضون لسياساتها، خارجون عن خطها، غير قابلين للترويض سواء عبّروا عن موقفهم من خلال شعرهم أو لا». من أجواء أعمدة النيران
قصيدة «القلب البديع»
لبعض السفر أحتاجك
لكن ما فعل طيشُ الذاكرة؟
وأيّ زنخٍ يُثيره الليل بهذا النهار البتول؟
بل يا للصراخ الكالح المقوّس!
ولربما الملائكة لولبُ الآونة.
وللسير دون رجعة
هو أصعب الملاحظات
لأني أعلم
كيف تجرَّدتُ من الأعضاء التي شغلتها
لكنما أيّ جزعٍ يصنعه الطقسُ الأبيض
بسلَّةٍ من دخان
وددت لو أثقب غرفتي
لأسيل نحو الشجرة، حزيناً، وبغبرة خفيفة
لأني أعلم اليوم
ليس ثمة بلل في هذه الساقية
بل ولا حتى نافذة تشرق منها الزهرةُ الليل
فما نفعُ الديوك المعطرة؟
وما نفع البحر بالزوارق التي تكفّر عن نفسها
نحو الوراء يتقدم الآتي،
هذا نصيب الكل
وولّى الفجرُ الذي نصعد إليه
وها هو الانتظار يبدأ نقطةً، نقطة
وبجلبةٍ واحدة
إلى أي الغرف ذات الويل يقودني؟
بعنق غيركَ لاحقت أرياف الإعدام
عزلة مغطاة بأفخم الانكسارات
تجري دون توقف ضد حافة الفضاء
هي مياه الحديقة
وهي هذا المساء ذو العضلات والأكفان الزرق
بينما زجاج الفاقة وحده
الذي يصنع محطةٍ لعشقٍ مثير.
قصيدة «منفضة الأصابع المحشوة بالأصوات»
أتُنسى الأبّوة؟
أتُنسى افتتاحات المدن، والعوائل الوديعة
وتلويثُ الرجال واحتلالنا الحدائقُ
هنيةٌ الرقبة التي تحمل رأس البلاد
وهو بلا صوت، ولا أحد
وهو يطردُ جثتهُ من ثواب الحضيرة
يا مجد العربة
يا عواء الجنود ويا ضرع النباح
أيتها الشعوب المطرودة كالكلاب تحت أبنية المشانق
أنتِ للسنين التي بلا براءة
وللقتلة الذين بلون الأقمار
ثم للأحياء والحبيبات
إنما الأراضي تساوي البيوت
والرفوفُ حيث تبرص الأمطار
تساوي الرضع
ونحن الآن عليها أثمن
وأنتِ بين الخيانةِ والتوبة مجاذيفُ خجولة
وخلف إبهامك تجري مواقع العمليات وملاحظاتُ الانحطاط
ولعق المدن
والهجرة من غرفةٍ لغرفة
رحيلك أم البساط؟
أم الزنخ؟
الوسادةُ أم رأسي منذ ألف عام ينطق على الأعمدة؟
أم التنهدات الصغيرة في رئة البنات؟
أم الزاوية التي تدخلها الصحراء؟
في سفينة حليبية
ألمحُ الحمامةَ الابتهالية وأنتِ كالزلزال
تهدجين بين ظمأ الأعضاء
ويقارب جدل العيون
استكنافَ البرهان
وتحبذ لو تستريح من تسميات الإسراف
أو قنص الانزواء والركض خلف التماثيل
أتوسل توهمَ التفسير
وأتمايل بين النجوم
وأنا وحيد، وصغير واستثنائي
أقول: ما بال الباب اعتذر؟
تقول: وهي ذراع السفر غير العواطف خاسرة؟
يا فوهة الندم
أيتها العيونُ الكوخية
بيننا المزاجُ المعمق والخطأ المبهم
واللغة أنتِ وأنا الإصغاء.
القصيدتان لمحمود أحمد الأمين المولود في الناصرية 1945، انتمى إلى الحزب الشيوعي في شبابه الأول، وهو أصغر إخوته، أكمل تعليمه الابتدائي في المدرسة المركزية والإعدادية في ثانوية الناصرية، آنذاك كان شقيقه الأكبر إبراهيم مديراً فيها. حصل على البكالوريوس في الاقتصاد من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية /جامعة بغداد 1967. وصفهُ حسين الهنداوي «أن روحه تجمع بين الثورية والرومانتيكية والسريالية». نشر قصائده في النصف الثاني من الستينيات في مجلتَي «العاملون في النفط» و»الناصرية».. اعتقل في مدينته 1972. قال عنهُ الفنان فلاح معروف لم يدُر في خلدي أن ذلك الخالد الجميل الشفاف «سيقاوم القوة الأمنية التي ذهبت لتعتقله، ثم نُقل إلى بغداد، حيث مات أثناء التعذيب، وقيل قُتِل بإلقائه في حوض مليء بالتيزاب».
وقال عنه القاص والروائي جمعة اللامي: خالد هو أحد أهم شخصيات روايتي «الثلاثية الأولى»
قصيدة «منكِ تعلمتُ هواياتي»
منكِ تعلمتُ هواياتي
أن أجمعَ فرشاة الأسنان وأسنان الموتى
أجمعها في نفس التكشيرة
أعطيها أسماء جميع السحرة
أركل إغراء الفجر وأسحب شعر الليل
كحواشي الشجر المثقل بالشيخوخة ذات الثوب الأسود
آلاف الشيخوخات كآلاف الأجراس وآلاف الحراس المنتثرين
فوق قلاعٍ لا تحصى، بيضاء تئنُّ بشعر الليل ومحنيُّة
تعبق فيها الأمطار الشبحية
في كل نوافذها المطفأة الصدئة
حمراء الحدقات بقدرة هذا البحر
طبقات غبار كلحى إسفنجية
خطواتٌ،
خطوات،
خطوات،
آلاف الأجراس ، وآلاف الحراس المصلوبين
منكِ تعلمتُ هواياتي
أن أجمع أجساد الموتى والريح الكلسية.
القصيدة لمهدي طه بهير سمير، وُلد وتوفي في البصرة 1953/1975، أكمل تعليمه الإبتدائي في مدرسة الصباح، والمتوسطة في «متوسطة النعمان» والإعدادية في «ثانوية الجمهورية» التي تخرّج منها 1972/1973. كان متفوقاً جداً؛ إذ قال عنه الشاعر عبد الزهرة الديراوي «كان المعلمون في السادس الإبتدائي يستعينون به لشرح الدروس للطلاب الغائبين» وكان رياضياً ماهراً في كرة القدم وفي سباقات الجري لمسافات طويلة، التحق بكلية العلوم قسم الكيمياء في جامعة البصرة وفُصل منها قبل عام من مقتله. كانت آثار الضرب بادية عليه، لكن الطبيب الشرعي تجاهل ذلك وأشار في تقريره إلى أن سبب الوفاة نتيجة الغرق، رغم أنه كان يجيد السباحة. عُثر على جثته مرمية على جرف شط الحليمية الذي يتوسط مبنى مديريتَي الاستخبارات والمخابرات، وقد أحدثت ملابسات موته جدلاً طويلاً، واحتج ذوو الشاعر. قامت السلطات باعتقال عدد من أصدقائه بهدف تمويه الجريمة، وقد تم الاعتراف به شهيداً من قبل مؤسسة الشهداء 2014.
قصيدة «محكمة العدل»
آه يا محكمة العدل الغبية
حققي،
ما دمتُ مصلوباً على باب المدينة
أمنياتي الذهبية
وأنشري العدل
فإن العدل أمسى في بلادي
بندقية.
القصيدة لمناضل نعمة هاشم الجزائري، صاحب القصائد العديدة المشاكسة والرافضة، على إثرها تعرض للمضايقات الأمنية، قال عنه صديقه الروائي جابر خليفة جابر «ممّا أتذكره أن جماعة الاتحاد الوطني قاموا باعتقالهِ، وكانت آثار الضرب والكدمات واضحة على جسده، لكنه كان ساخراً مستهزئاً وقوياً، أُجبر على الالتحاق بالجيش أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وكانت وحدته العسكرية في المنطقة الشمالية. ألقي القبض عليه هو وشقيقه الأصغر باسم عام 1983، بتهمة محاولة اجتياز الحدود العراقية التركية. وحسب كتاب رسمي استطاعت عائلته الحصول عليه من مكتب وزير الدفاع، وقد حُكم على الشقيقين بالإعدام شنقاً.
واقع البلاد كان منهل إبداعهم، بذلك نستطيع القول إنَّ شعراء العراق في تلك الفترة الدموية حوَّلوا أقلامهم إلى مكبرات للصوت ليُسمعوا العالم مأساتهم.
كاتب سوري
كل العراقيين شاركوا في الدفاع عن العراق واداء الخدمة العسكرية أثناء الحرب بحماسة