لماذا يُمنع المؤرخ من الحديث عن التاريخ في الجزائر؟

حجم الخط
38

هذا على الأقل ما جاء في مراسلة لعميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بجامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف بداية الشهر، أكد فيها أن الإدلاء بتصريحات أو إجراء مقابلات بالنسبة لأساتذة التاريخ غير مسموح به، من دون طلب إذن مسبق وصريح من السلطات الجامعية المخولة، وإلا تعرض صاحبه إلى مسائلة قانونية. تعلق الأمر بوسائل الإعلام المرئية المكتوبة، أو المسموعة، كما جاء في نص التعليمة المنشورة، وهو ما أكدته هذه الهيئة الجامعية في توضيحها الذي قالت فيه، إنها لم تمنع لكنها تشترط إذنا مسبقا في حالة التصريح باسم الجامعة، أو أحد كلياتها، وهو ما لم يدعه الأساتذة ـ أقصد الكلام باسم الجامعة، أو أحد كلياتها -وليس من اختصاصهم، تعلق الأمر بأستاذ التاريخ أو الجيولوجيا.
توضيح لم يزد الوضع إلا غموضا، يؤكد للمرة الألف الممارسات السائدة داخل الحرم الجامعي بالجزائر في السنوات الأخيرة ، المتسمة بالكثير من أشكال التضييق ضد حرية البحث الجامعي والنشر والكلمة، التي تمس تحديدا العلوم الاجتماعية والإنسانية، مرشحة للزيادة بالنسبة لأبناء الأجيال الصغيرة في السن، التي لم تعرف ما كانت تتمتع به الجامعة الجزائرية من حريات عاشتها أجيال أقدم ولو بشكل نسبي، بعد ابتلاء هذه المؤسسة العلمية والفكرية المركزية بجيل من المسيرين التحقوا بها في السنوات الأخيرة، لا يملكون من هدف إلا رضا صاحب القرار البيروقراطي على أدائهم، حتى لو أدى به الأمر إلى تجاوز أبسط الحريات الأكاديمية المكرسة دستوريا في البلد وتوريط سمعة المؤسسات، التي ابتليت بهم داخليا وخارجيا. في وقت عرفت فيه الجامعة انخفاضا كبيرا في تجنيد أساتذتها وطلبتها وتقلصا في نضالهم النقابي، الذي عرفوا به في وقت مضى ليس بالبعيد، كما كان في التسعينيات.

المواطن الجزائري، ما زال ينبش عن كل ما يهم جهته وقريته وبلده في ثنايا كتب التاريخ، دون أن يطلع بالضرورة على المكتوب منها بشكل مباشر

منع أساتذة التاريخ في الكلام عن التاريخ الذي جاء كإحدى التداعيات المباشرة لتصريحات تفوه بها أحد المؤرخين الجزائريين لقناة تلفزيونية إماراتية أدت به إلى التوقيف في انتظار محاكمته، بتهم ثقيلة. كان يمكن تصور مناقشة ما جاء فيها فعلا داخل الحرم الجامعي ووسائل الإعلام الوطنية – مهما كانت الآراء التي دافع عنها هذا المؤرخ، الذي يدافع عن وجهة نظر مستفزة، في بعض الأحيان، للكثير من الأطراف، تبقى رغم ذلك حاضرة بين جزء من الجزائريين. مؤرخ كنت أتمنى ألا أتكلم عنه وهو وراء القضبان. لغاية أن تكون لديه القدرة على الدفاع عن وجهة نظره، بعيدا عن إكراهات السجن وتقييد حرية كلامه.
علاقة الجزائري كمواطن ومؤسسات رسمية بالتاريخ، الذي ما زال يثير الكثير من التشنجات، كتأكيد للأهمية الممنوحة لمسألة التاريخ، كجزء مهم من التحكم في الذاكرة والهيمنة الفكرية والسياسية، أكدها لي ما اطلعت عليه في الأيام الأخيرة وانا أقرأ أحد المراجع التي تكلمت عن طريقة تعامل الأطراف المتصارعة على السلطة، قبل الاستقلال، على أرشيف قاعدة ديدوش بليبيا، التي كانت مركز القرار السياسي – العسكري الفعلي لثورة التحرير. كان قد تكلم عنها أكثر من وجه تاريخي في مذكراتهم وتصريحاتهم، محمد لمقامي، دحو ولد قابلية، من الذين كانوا قريبين من الحدث، فقد أصرت الأطراف المتصارعة أثناء أزمة صيف 62 وقبل حتى حسم مسألة السلطة بشكل نهائي وقبل الدخول إلى الجزائر، على سرعة التوجه نحو قاعد ديدوش بليبيا، للظفر بكم الأرشيف الهائل، الذي كان داخل هذه القاعدة التي كانت الحديقة الخلفية لتسيير الثورة، ونواة السلطة الفعلية – وزارة الاتصال والاستعلامات العامة – مصادر كثيرة تكلمت عن حمولة 12 شاحنة عسكرية كبيرة من الأرشيف ـ توجه بها الطرف الفائز في الصراع، المتمثل في قيادة الأركان وجيش الحدود، نحو المغرب، ومن هناك نحو وهران وأخيرا الجزائر كغنيمة حرب ثمينة، لكي تختفي عن الأنظار إلى الأبد. بعض المهتمين بقضايا الأرشيف يعتقدون أنها وضعت تحت سلطة وزارة الدفاع – لم يفتح كجزء مهم من الأرشيف الوطني حسب علمي، لحد الساعة، أمام الباحثين والمتخصصين في التاريخ من الجزائريين، قبل الحديث عن الأجانب المهتمين بالموضوع. في وقت ما زلنا نطالب فيه الطرف الفرنسي، ونلح على مسألة فتح الأرشيف الفرنسي المنهوب أمام باحثينا الجزائريين، في إطار ملف الذاكرة المفتوح مع الفرنسيين.
ملف الأرشيف الذي يمكن، كما يتوقعه الكثير، أن يستغل من قبل الجانب الفرنسي لابتزاز الجزائر المتخوفة من ذاتها ومن تاريخها بأكثر من طريق وأسلوب، كنت قد تكلمت عنه أكثر من مرة في تدخلاتي المكتوبة، قد لا ننتظر طويلا لنشاهد بداية فصوله الأولى على خلفية الأزمة التي تعيشها العلاقات الفرنسية -الجزائرية، رغم أنني لا اعتبر نفسي مؤرخا ولا باحثا في هذا التخصص، الذي استسهله الكثير من المتعلمين الجزائريين، تحول لديهم إلى «تخصص علمي» دون دراسة ولا تأهيل فعلي، بكل ما أدى له من مهاترات نستمع إليها يوميا في وسائل إعلامنا المختلفة، ما زلنا ندفع ثمنها من استقرارنا الكلي على مستوى المجتمع والمؤسسات، والنفسي- السياسي على مستوى الأفراد. وضع يحيل إلى أهمية مسألة التاريخ والذاكرة لدى المواطن الجزائري، الذي ما زال ينبش عن كل ما يهم جهته وقريته وبلده في ثنايا كتب التاريخ، دون أن يطلع بالضرورة على المكتوب منها بشكل مباشر، كما تعكسه مستويات مقروئية الكتب التاريخية والمذكرات التي ظهرت في الجزائر بعد الحرية التي عاشها عالم النشر، بعد أحداث أكتوبر 88.
قراءة للكتاب التاريخي، رغم تحسنها كما تشير إلى ذاك مبيعات دور النشر الوطنية إلا انها ما زالت ضعيفة مقارنة بالأهمية المعطاة من قبل الجزائر للمسائل التاريخية، ما زلنا نقرأ عن الرئيس الشاذلي بن جديد.. كأحد الفارين من الجيش الفرنسي، رغم تكذيب الرجل أكثر مرة لهذه المسألة في مذكراته الصادرة منذ سنوات بالجزائر، وباللغتين – حتى لا تستعمل مسألة اللغة لطمس الحقيقة – التي استعملت لتصفية حسابات سياسية ضده، كادت أن تؤدي بقائل وناقل هذه المعلومة امام المحاكم، قبل اعتذاره، للرئيس الشاذلي وتصويب المعلومة.. لنكون أمام إحدى وظائف هذا الطمس للمعلومة التاريخية، التي يحيل إليها هذا التعامل المريب مع الأرشيف، يمكن تلخيصها في البحث عن الهيمنة السياسية كأحد تجليات الصراع الاجتماعي – السياسي في أي مجتمع على المعلومة التاريخية، حتى لو كان ذلك على حساب ما يسمي بالحقيقة التاريخية التي تبقى نسبية وقابلة للنقاش الحر بين المتخصصين من خارج أسوار السجن، بعيدا عن كل أنواع التضييق والمصادرة.
كاتب جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الهادي الغربي:

    أنت تعرف جيدا ماذا تريد القنوات الأجنبية من الجزائر وهي تستغل من يحاولون الظهور في التليفزيون ون لبث السموم داخل المجتمع الجزائري ثم لا علاقة للبحث العلمي بأخذ تصريح مسبق اي الموافقة من إدارة الجامعة لانه يتحدث باسمها وانت تعلم جيدا ما حدث من قبل لابد من معرفة القناة وتوجهاتها وخط الافتتاحي فهناك عدة قنوات معادية مثل تلك التي ورطت الدكتور بلغيث

    1. يقول Abdou:

      ما هذا المنطق وماذا عسى أن تفعله القنوات ،من له تاريخ لا يخاف من أي شيء، على الجزائري أن يتصالح مع ذاته، كم دولة ناشئة لا يخيفها ما يقال ولا تختبيء وراء المؤامرة ،لا يمكن صناعة التاريخ بالتزوير ولا بالسرقة لأن التاريخ لا يرحم. المؤرخ والبحث في جميع أنحاء العالم أحرار لهم الحرية في القيام بعملهم دون قيود إلا في الجزائر ومن يحكمها الذين يريدون التأقلم مع الآخرين 🤔🤔🤔

  2. يقول ابراهيم برنيشة:

    لان هناك من البشر من يخاف من الحقيقة!
    والمؤرخ الموضوعي ينبش في الماضي ليكشف المستور المتخفي والخداع المسكوت عنه

  3. يقول رابح حبري:

    كل ما تقوله حقيقة لا يستطيع عقل راشد ، إغفالها ،طمسها أو حتي تجاوزها. لكن الظرف الحالي للبلد، و هشاشة تلاحم المكونات الوطنية ،و نسبية الوعي لدي المجتمع العريض، الذي لازال قابل للإختراق، التلاعب و كذا التوضيف الخبيث. هل يسمح لنا بدفاع و المطالبة بحقنا الطبيعي في الحرية في أسما تجاليتها، أو الإكتفاء بالحد الأدني للحريات، حفاضا علي المصلحة العليا للبلد.

  4. يقول احمد المغرب:

    ان كمموا أفواه اساتذة مادة التاريخ تبقى الوقاءع التاريخية عصية عن القرارات الادارية المرحلية.لان التاريخ تجارب امم مضت فيه الصالح والطالح يستفيد منها من جاء بعدهم لقضاء مأرب عدة
    في اقصر مدة. وكما يقول المثل المغربي
    “حتى يموت اللي في قاع الدرب عاد قول شريف”
    عند موت ساكني قاع الدرب المتبقين هنا يمكن ان يدعي ايا كان انه شريف النسب.

  5. يقول Omar SAMID:

    السلام عليكم.
    تحية للكاتب المحترم الذي تجرا على استعمال عبارات قوية من قبيل ‘ … طمس المعلومة التاريخية .. ‘ … الخوف من الحقائق التاريخية … ‘ … المواطن الجزائري لا زال ينبش على كل ما يهم قريته وبلده في ثنايا كتب التاريخ دون أن يطلع على المكتوب منها بشكل مباشر … ‘ .

    هذا قليل من كثير مما تفضل به كاتب المقال، وهو يسمح بالقول بأننا أمام بلد يخفي ماضيه ويخشى تاريخه.

    شخصيا، لم أكن أعلم قبل اليوم أن 12 ( اثنا عشر ) شاحنة عسكرية حملت الأرشيف، ارشيف الثورة ، من ليبيا الى المغرب ثم وهران ثم الجزائر العاصمة لتختفي عن الانظار.

    هذا الكم الهائل من الوثائق التاريخية، كما ورد في المقال، تمكن منه الطرف الغالب في الصراع على السلطة، وهو قيادة أركان الجيش.

    للأسف ، هذا الطرف نفسه هو من يطالب فرنسا اليوم، بإعادة ارشيف الثورة و جماجم الشهداء والاعتذار و … و … ولله في خلقه شؤون.

    شكرا للكاتب العزيز وتحية لجريدتنا المحترمة.

  6. يقول عبد الكريم:

    تاريخ الجزائر اصبح عرضة لمن هب ودب الخوض فيه و هناك من يريد تشويه هذا التاريخ و اخراجه عن مساره الحقيقي و جعله عرضة للسخرية والاستهزاء.
    فلهذا يجب على من يريد الخوض في تاريخنا ان يكون ذو مصداقية و على علم كبير بتاريخنا و خاصة التاريخ القديم الذي ظهر في الاونة الاخيرة اشخاص يحاولون طمس الهوية الامازيغية و جعلخا خرافة

  7. يقول Abdou:

    من له تاريخ لا يمنع المؤرخ والبحث في النبش فيه، القنوات لا يمكنها أن تشكل خطرا اللهم إذا كان البعض يخاف من الحقيقة

  8. يقول عزالدين مصطفى جلولي:

    التكوين العلمي الرصين للباحث في التاريخ ومنطلقاته الفكرية الأصيلة وعقله الناقد صفات قلما تتوفر في المؤرخ الجزائري اليوم، وتدخل العمل الأمني في العمل العلمي مفسدة وأي مفسدة؛ لذلك لا نستغرب أن يكون عمداء في الجامعة الجزئرية إطارت انتدبتها وزرة الدفاع للعمل في المؤسسات المدنية كما هو صريح القانون. وبين ذا وذاك تتدحرج الجزائر نحو الخاتمة الطبيعية لكل دولة ولكن سريعا جدا.

  9. يقول عبد الرحيم المغربي.:

    مفهوم التاريخ عند الأنظمة الإستبدادية بأنواعها المدني والعسكري والحزبي..هو إسقاط ما يناسب مزاج الحاكم أو الحكام..بغض النظر عن بعده عن الواقع والعقل بعد الأرض عن أبعد مجرة في الكون…من باب الاعتقاد أن التاريخ يرسخ بالادعاء..وليس بالبناء على مستوى الوقائع والاحداث.. إلى أن يأتي من يسير على نفس الدرب أو يدحض كل ما قيل أو كتب….ولذلك لم يصمد تاريخ ستالين بعد وفاته مباشرة..بعد أن سارع من بقي من حاشيته القريبة وهو خروتشوف إلى تمزيق ما سطره كتبة التاريخ الرسمي من تقريضات فاقت حدود التقديس ؛ ومع تطور أساليب الاستبداد فلم يعد الطلب مقتصرا على اختلاق البطولات أو المبالغة فيها..ولكن انصرفت إرادة العبث إلى آليات التاريخ العلمية التي تشمل مناهج تحليل الوقائع ومعرفة الخلفيات..ودراسة ظروف السياقات التاريخية وتفسيرها…. فأصبح الإستنتاج أسوء من الادعاء نفسه…وتحول التحليل من معنى التفكيك والربط.. إلى معنى تمييعي يقارب مفهوم المحلل في طلاق الثلاث…

  10. يقول عادل:

    ليس هناك شيىء اسمه تاريخ هناك أحداث يرويها كل واحد كما يريد وفق مصالح جهات معينة لبث الفتن . لا أحد يعلم ماذا حدث بالضبط ولا فاءدة من التاريخ الا لخدمة خبثاء السياسة !

1 2 3 4

اشترك في قائمتنا البريدية