بيروت – «القدس العربي»: «هردبشت» تعبير نطلقه على مشاهد أو سلوكيات لا تروق لنا. لكنّ الكاتب والمخرج محمد دايخ يدعونا في «هردبشت» إلى وليمة سينمائية مميزة. فيلم يتسلل إلى بيئة اجتماعية ليست من ضمن تطلعات العين الفنية المسندة بالدعم المتنوع المصادر. الفيلم الذي يخرج إلى الصالات اللبنانية اليوم الخميس، إنتاج حصري لأمير فوّاز صاحب شركة «فينيسيا بيكتشرز».
تعالوا معنا في «هردبشت» للدخول المباشر إلى عالم ما تحت التحت أو الناس المهمّشين. دخول إلى الواقع، ودون مساحيق تجميل تعمل عادة لكتم أنفاس الحقيقة هروباً من المسؤولية. قاس ومباشر محمد دايخ في نصه ومشهده السينمائي. كثيراً ما يفاجئ المتلقي بمشهد صادم، ليتلوه آخر ليس أقل وقعاً من سابقه. مفاجآت سلبية تخرق الإحساس والعقل. حتى وإن كان أحدنا مستعداً نفسياً لتلبية دعوة اكتشاف تفاصيل عالم الأوزاعي. ذاك العالم المكتظ، والمتستِّر خلف المحال التجارية المرصوفة على جانبيه.
ضواحي بيروت
في اختصار لفيلم «هردبشت» تعيش «إم حسين» مع أبنائها الثلاثة في حيٍ من ضواحي بيروت الفقيرة. أصغر الشبّان الثلاثة ملتزم دينياً، خلافاً لشقيقيه اللذين يروّجان المخدرات. يضغط تاجرا المخدرات على أخيهما الأصغر للعمل معهما مستفيدين من كونه ذا سمعة حسنة. وتتوالى سلسلة تطورات تبعث مزيداً من التشتت في العائلة، وفي الحيّ الذي تقطنه.
اللافت في «هردبشت» تتابع المشاهد وتنقّلها من عنف إلى آخر أوسع وأشد وقعاً. عنف لا يستثني أحداً من «إم حسين» إلى الشرطة، إلى صاحب كراج تصليح «موتسيكات». عنف توزع وكأنه عدوى. ووصل إلى حيث لم نكن نتوقع وعمّ بيئات مختلفة كلياً عن تلك التي تشكّل صلب القضية. يبدأ من الشباب الناشطين بحثاً عن لقمة العيش من خلال ترويج المخدرات. هذا العالم الذي يقود إلى دهاليز متعددة جميعها يؤدي إلى المصير القاتم. عنف وقساوة تطرح السؤال إن كان ناس «تحت التحت» بمواجهة لا مفرّ منها معه وكأنه قدر؟
في الحوار، كما الصورة، كان محمد دايخ متماسكاً وقادراً على إيصال الفكرة التي تشغله. اشتغل على نصه بوجدان العارف والخبير منطلقاً من الواقع الذي يعرفه، والذي هو جزء منه. تميز الممثلون بالإقناع، وأتت خيارات دايخ صائبة على صعيد الممثلين. وكان أكثرهم معجوناً ومخبوزاً بالحالة التي اسندت إليه. بدءاً من بطولة حسين قاووق إلى الآخرين المؤثرين من آل دايخ ومحمد عبدو في دور «حمّودي»، وجميعهم شكّلوا العصب الحيوي ل»هردبشت». أما الممثلون في الأدوار المساندة من رندة كعدي، إلى غبريال يمين وفؤاد يمين فكانوا أبطالاً في مواقعهم.
ولوجاً إلى عمق النص والتطور الدرامي في فيلم «هردبشت»، والذي يضعنا وجهاً لوجه مع المسحوقين دون أمل. نلمس حضوراً ذكورياً طبيعياً للشخصيات في البيئة التي تنتمي إليها. وهذا ما عبّر عنه حسين وأبو الفضل. شخصيات ذكورية لا تتوخى الجريمة. لكن الجريمة تسقط عليها. جريمة تصيب مقترفها بالصدمة، وإذ بجريمة تجرّ إلى أخرى وهو في بحث عن تملُّص من الأولى.
رغم وجود النساء في عالم ذكوري طاغي، لكنّهن تتمتعن بالقوة والحرية. هكذا وصلتنا شخصية أم حسين في مواقفها وحضورها الكبير في حياة ابنائها الذكور الثلاثة. وكذلك شخصية نوال والدة الدركي التي تنفصل عن الواقع والمجتمع، كلياً ومن ثمّ تعود إليه بتدليك حنون من اصابع ابنها على جبينها ووجنتيها. شكلت نوال عالماً منشوداً آخر لها، بعيداً عن عالم عنيف ومؤلم يربك الرجال، ويوحد بشكل غريب الشخصيات التي تشارك هذه اللحظة، حنين لعالم الطفولة بعيداً عن قساوة الواقع
المفارقة أن الذكورية والقوة المطلقة التي يعيشها كل من حسين وأبو الفضل، تلين نسبياً بمواجهة والدتهما، ويصبحان هشّين. وجودها له أثره الظاهر عليهما وله فعل تغيير وإن بحدود.
بيئة مستهدفة
ولسعاد العميلة حضورها الطبيعي في البيئة التي انطلق منها الفيلم. هي بيئة مستهدفة من الموساد على الدوام. تمتعت سعاد بالقوة والتخطيط لكنها تهاوت سريعاً، ولم يكن تهديدها الملموس لـ»حمّودي» أي أثر.
في حالة الدركي المفترض أنه من بيئة مختلفة تماماً عن البيئة الفقيرة جداً التي نشأ فيها حسين، لكنه وحين واجه موقفاً مماثلاً كان له سلوك حسين بالتمام والكمال. وهنا يصبح السؤال مشروعاً: هل الفقر هو الدافع الأساس للجريمة؟ أم ماذا؟
الكاتب والمخرج محمد دايخ يقول بأن فيلماً يصور أجزاء من حياته يراوده منذ مدة طويلة. هو الذي نشأ في عائلة من أربعة شبان، برعاية أم «تشبه الى حدّ ما الأم التي نشاهدها في «هردبشت». وفي شخصيات الأخوة في الفيلم ملامح تشبه تقريباً شخصيات إخوتي لكن بعيداً من المخدرات. هكذا وُلدَت فكرة الفيلم».
يُذكر أن شركة «فينيسيا بيكتشورز» تأسست سنة 2004 وتُعنى ببيع وتوزيع الأفلام الأمريكية والأوروبية في الشرق الأوسط. كما ساهمت بإنتاج عدد من الأفلام في الولايات المتحدّة.