إن التحديات والمخاطر التي تواجه الثورة السورية بعد سنوات من قيامها تعد اختبارا لكل الشعب السوري الذي آمن بها، وبعد كل هذه السنوات هناك حالة احتقان عامة، مما تعانيه الثورة وسكون دورها ضد النظام الذي قامت لهدم أركان طغيانه وتغييب قيمها ومبادئها وعدم الاكتراث بمصيرها، وعزل الثوار الحقيقيين والوطنيين عن إدارة قرارها مما يمهد الطريق لإطفاء جذوتها، سواء في ميدان المعركة أو في نفوس الشعب الثائر.
فالشعب الثائر ضحى بخيرة أبنائه من أجل الخلاص من سلطة النظام المستبد وتحقيق حريته ونيل حقوقه المغتصبة، لكن بعد سنوات يجد الشعب الآن تسابق للانقلاب على أهداف الثورة وهو ما يجده عند من تسيد قيادتها في مختلف الجوانب من معارضة مسلوبة القرار والإرادة وتعمل على مصادرة إرادة الشعب الحر لتحقيق مكاسب سياسية ومنافع شخصية، وإشغال الثورة بصراعات وتباينات تعيق مسيرتها من خلال سياسات خاطئة وإدارة فاشلة أدت إلى تبديد مخزون الثورة في القاعدة الشعبية الفاعلة في الثورة لتجريد الثورة من مشاركتها وعزلها عن امتلاك القرار، وتشتيت وعيها من خلال تذويب هويتها التحررية بهويات فرعية دينية وطائفية ومناطقية وعشائرية، لأن تغييب الوعي يمكّن أعداء الثورة من إحباط الإرادة الشعبية واستغلال الوضع لتحقيق مصالحهم.
الثورة قيم ومبادئ
إن الثورة قيم ومبادئ وأهداف تتجسد في أخلاق وسلوك وأفعال الثوار وعدم الالتزام بمبادئ وقيم الثورة يعد انقلابا عليها، ومن وسائل القضاء على الثورة هدم مبدأ الانقياد لقيمها وأهدافها ومحو هويتها حتى تتحول إلى مجرد صراع ونزاع بين طرفين تحكم بينهما طاولة المفاوضات في المؤتمرات التي تفرضها الدول الفاعلة في الشأن السوري وتكون مخرجاتها وبياناتها، بما يلبي مصالحها، وهذا ما تواجهه الثورة السورية في الوقت الراهن.
فالنضال في الثورة هو تضحية وكفاح وبذل وعطاء ووعي وأخلاق وسلوك، والثائر الذي يؤمن بالثورة وأهدافها ينبغي عليه تأدية واجبه تجاه الثورة ويلتزم به، فالعبرة ليس في انتسابه لصفوفها ورفع رايتها، بل في أثره في الثورة فإذا كان دوره ايجابيا فهو ينتمي للثورة وإذا كان أثره سلبيا بعلم أو جهالة فهو الوجه الآخر لأعدائها وأن تلون بزيها وتغنى بشعاراتها.
والثورة التي تسعى للانتصار لا تقبل أن يتسيد قيادتها أدوات بيد قوى خارجية، فالشعب السوري قدم التضحيات في سبيل نيل حريته والعيش بكرامة وليس من أجل العيش في المخيمات والمنافي مقهور مسلوب الإرادة، فعزم وإرادة الشعب الذي قام بالثورة هما طريق انتصارها الثورة، والوعي الذي يقودها هو الذي يحدد ملامح طريقها انتصارها، لذلك عمل أعداء الثورة على تشويه الوعي الجمعي عند الشعب وتضليله مستغلين في ذلك ضعف الفكر الموجه لزيادة الوعي وتحصينه، والذي من خلاله يستطيع الشعب تمييز الخبثاء من الطيبين الذين ينتمون لصفوفها، ومن هنا أدرك أعداء الثورة أن تشتيت الوعي الشعبي أسهل الطرق لحرف مسار الثورة، فكم من ثورة قامت بعزم الشعب وإرادته الحرة وضاعت بضعف وعي قيادتها، فطريق الانتصار عزم وإرادة ووعي وإدراك ما يحاك ضد الثورة ونفث الخبث الذي في صفوفها.
فاللغة تخبرنا أن الثائر هو الهائج والغاضب، وأن الثائر يخرج من قلب الثورة لا من خارجها، ومن هنا تكونت فلسفة الثورات، فالثائر يغضب لأن هناك ظالما أهان كرامته وسلب حريته، وضيق البلاد عليه، ونهب خيراتها، وأولى صفات الثائر في سبيل كرامة شعبه وحريته نسيان ذاته وعدم البحث عن ربح يجنيه من الثورة، وليس طالب سلطة ولا باحثا عن مغنم، يثور ويضحي كي ينعم أهله وشعبه، وكل مراده أن يسقط النظام المستبد الذي طغى في البلاد وحرم العباد من حياة حرة وكريمة، فالثائر يبزغ من قلب الاستبداد، والمتثور الوظيفي أداة لقوى خارجية وتديره السفارات.
والثائر نزق فيما يخص كرامته وحريته وهذا طبع مفروض عليه لأنه أمام نظام مستبد يستعمل جميع الوسائل ضده وفي سبيل دوام سلطته، لأن الثورة كقضية شعب تفرض على الثائر أن يكون بهكذا حالة من النزق والعنفوان، وهناك فرق بين نزق الثائر وفهلوة المتثور وتلون المعارض، ويؤمن الثائر أن شرعية أي سلطة مستمدة من الشعب الذي يختارها، ولا يعرف الثائر طرق التمويل الخارجي الذي يدس بكائناته المتثورة مدفوعة الأجر يستخدمهم متى ما تشاء لتحقيق غاياته، والثائر الحقيقي يخشى إقحامه في مناقشات عبثية حول التحزبات الإيديولوجية والهويات الفرعية حتى لا يشغل الشعب الذي يناصره عن مهمته الأصلية، فالثورة عند الثائر تعني تحولا جذريا يهدف إلى زوال أفكار وبنى اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية سابقة لتحل محلها أفكار وبنى جديدة مغايرة للمرحلة السابقة.
مشروع للتغيير الثوري
والثائر ليس متحزبا كل همه الحصول على السلطة بدل النظام الذي ثار على نظامه، بل هو مشروع للتغيير الثوري الذي يحفر عميقا في بنية نظام المستبد ليبني مداميك الثورة ويرفع متاريسها حتى تصبح الثورة وعيا مجتمعيا، وثقافة شعبية، قادرة على حماية سلطتها المدنية الشرعية ضد أي اختطاف أو تقويض أو احتواء من أي جهة وظيفية داخلية أو خارجية، ولا يعتبر الثائر نفسه هو الوحيد على حق، وأن حزبه وفصيله وحدهم الفرقة الناجية، وأنه أولى بالحكم من غيره، فالثورة عنده هي حراك شعبي بالأساس، وأكبر من الاحزاب، وهي ليس مفهوما كالإيديولوجيا ولا تنظيما كالحزب. بل انتفاضة شعبية لم تنشأ من كتب نظرية ولا من تنظيم جماعات، تعبر عن مطالب الشعب، دون تنظيم حزبي ولا أيديولوجيا سياسية، قادها وفجرها الشباب وليس الأحزاب، وهدفها التغيير وليس بالضرورة الحصول على السلطة، ويكفيها إسقاط النظام وجميع أركان نظامه
ومحو ثقافة استبداده وفساده، بينما المتثور يسرع للحصول على المنافع والسلطة ويقطع جذوره بالثورة ويعمق انتماءه لجماعته المتحزبة، فليس كل من انضم لصفوف الثورة ثائر، وللثائر صفات تميزه عن غيره، فالثائر هو الذي لا يفكر بنفسه، ولا يتباهى بتضحياته ولا يتفاخر بنسبه وطائفته وحزبه، ولا ينتظر مقابلا، وليس همه قيادة أو مكسب، بل كل همه أن تتحقق أهداف ثورته وتتحقق مطالب شعبه، ولا يخون ولا يكفر ويكره الفكر المتحزب الاقصائي، لكنه في المقابل لا يقبل أن يتولى القيادة شخص معروف بفساده وتلونه ولا يمتلك إرادة حرة، ويرى الثائر، أن تحقيق رغبة الشعب في قيام الدولة المدنية هي أهم أهدافه، ويسعى لتطبيق القانون واستقلال القضاء ونزاهته، ومحاكمة كل فاسد مهما علت رتبته أو سلطته، وسواء كان من شخوص النظام الذي ثار عليه أو من سلطات الأمر الواقع التي تتسيد قيادة البلاد الخارجة عن سلطة النظام.
الثائر الحق يدرك أن الثورة صهرت معادن الرجال، وأصبح من خلالها يمحص الأصيل من الدخيل الذي ولج لصفوف الثورة من غير بابها، وتمايل مع ريح الغلبة فحمل راية الثورة عندما حلت بدياره وحمل السلاح عندما أدرك أن خوض المعارك مع أعداء الثورة قد أوشك على النهاية، فتنكب السلاح لحماية نفسه والدفاع عن مصالح فصيله وعشيرته وحماية قادة معابره، وجعل منه زينة للتباهي في المحافل والأسواق وتفريغ محتواه في الخلافات والاحتفالات والأعراس، وينحاز دائما لصف من يدفع أجرة ارتزاقه، وكذلك يدرك الثائر الحق أن النخب المحايدة في معارك المبادئ ليسوا حكماء ولا مثقفين، فالنخب المحايدة في معركة المبادئ قد تعذر إن كان عندها جهل ونقص في الإلمام بالحقائق أو بسبب نقص القدرة على التمييز، لأن المحايد انتهازي ينتظر المنتصر ليقف معه وجميع المحايدين وعلى اختلاف ثقافاتهم وهوياتهم لا يكونوا حكماء، وغير قادرين على لعب دور الإصلاح، والمتثورين والمعارضين المتلونين، ومن يحاول إيجاد تبريرات للنخب المحايدة في معارك الحق والمبادئ على أنهم معذورون، وهم بذلك يدعون إلى استكثار المواقف السلبية والانتهازية واستدامة سيطرة المواقف الخاطئة، فالثائر الساعي لانتصار ثورته، يلغي الحياد من قاموسه ويقيم المتاريس لحماية مكاسبها، فالثورة عند الثائر ليست فورة حدثت ذات يوم يعاد استذكارها كل عام باحتفال تغيب به القيم وتحضر به الشعارات وتضيع التضحيات، ويعلو فيه صوت المتثورين المتلونين والمتنفذين الفاسدين، وهناك فرق كبير بين الثائر والمعارض، الثائر بالتأكيد يكون معارضا، أما المعارض ليس من الضرورة أن يكون ثائرا، وقد يكون وجها آخر للديكتاتور الذي ثار على سلطته الثائر، والثائر دائما شجاع وجاهز للتضحية بنفسه، ويكون قدوة لرفاقه، في حين يصبح المتثور والمعارض زعيما وتصبح مهمة ممن حولهم المحافظة على زعامته التي تغدق عليهم العطايا لقاء حراسة شركته ودكانه، وبالتالي يصبح نجما إعلاميا، يفقد شجاعته، ويفقد ممن حوله مبادئهم وقيمهم، على غرار القائد الضرورة.
الطبيعة النفسية
فالشخصية والطبيعة النفسية التي يتنمط بها الثائر تختلف عن التي يتحرك فيها المعارض والمتثور الذي ينتظر ثمنا من الثورة ليتكسب منها لمصلحته الخاصة قبل تحقيق مكاسب الثورة، وبذلك يكون عبئا على الثورة، وأقرب للمرتزق الذي غايته البحث عن حصة من الكعكة كأجر له على ثوريته المزعومة، وبذلك يشابه المستبد الذي ثار عليه بل إنه يصبح أشد سوءا منه، وهذا بعض من الأسباب الهدامة التي تعيق البناء وجعلت المتصدرين لقيادة الثورة السورية، يفقدون بريقهم وتتلاشى شرعيتهم تدريجيا أمام المجتمع لأسباب ذاتية وخارجية.
ويعود الشعب الثائر لعمل المقارنات بين ما سبق الثورة وبين واقعه المعاش الذي يقاسيه، فلا يرى بديله إلا ما كان سابقا ونسخة من الأول الذي ثار عليه، وهذا الهدم الذي أصاب الثورة نتيجة المتصدرين لقيادتها أصاب الثورة بالكسل العقلي والإحباط، والذي هدفه إيصال العقل السوري إلى مرحلة الاقتناع أنه لا أمل يرجى وتراكم الفشل وإعادة تأهيل الأسد، وتفكك المجتمع وانفضاض الشارع من حول الثورة واتساع عدم الثقة بمختلف قيادات الثورة والمعارضة السياسية، وبذلك يتوالى انهدام الثورة عبر جرح كرامتها الوطنية واختلاف من تسيد قيادتها على ميراثها لا الثأر لها.
كاتب سوري