لن أرسم بعد اليوم

قبل أن تنبت الأهداب في عيون المسافة، وأسلّم أذنيّ لوكالات الأنباء، وعينيّ لتلك المذيعة المثقلة بأناقتها، وهي تجوس مواطن وجعي، خبراً.. خبراً، سأرسم على دفتر الشوق طريقاً، لعلّ امرأةً تعبرني عليه، امرأة تودع في حصالة انتظاري ثلاث قبلات، قبل أن تستعيدني من سلة مهملات الوطن، وتثرثرني على هامش سيرة الحرب، أو تطلق رصاص ضحكتها على ملامح طفولتي، التي استوطنتها الشيخوخة. فقد رأيت فيما يرى القارئ، امرأة أيقظت شاعراً من سبات القصيدة، ومدينة تسبب فضاؤها بحادث اصطدام بين طائرتين حربيتين، فتداعت جدران الأسرار العسكرية، وضاعت تلك المدينة في فرق التوقيت.
لست كاتباً كما يعتقد البعض منكم، فأنا منذ الشهقة الأولى، سقطت أزرار قميصي، ولم أجد في معاجم اللغة سوى ورقة التوت! سأسكب ما بقي من قطرات في قارورة العطر، على بياض اللوحة، لعلّ امرأة مسّها خريف الأربعين، قبل أن تتبرأ من الأمل، تخلع باب النوم، وتستنهض ياسمينها، فالفرقة الموسيقية ما زالت تدوزن مساء الدهشة، وتنتظر أن تتسلق سلّم معانيها، لتعزف قدّها المياس.
في الحديقة الخلفية للوحة، طفلة تركض بين غارتين، لتمسح الخوف عن عيون لعبتها، ومراهق فلسطيني الملامح، ما زال ممسكاً بالأمل، ويبحث في وجوه المعابر عن لهفة نشرته على حبال غسيلها. على بعد آلاف الشهداء، ثمة مدينة اسمها «غزة» تموت بالتقسيط المريع، ووكالات الأنباء تروي حديثها بإسناد ضعيف! قبل أن تختفي جثث المدارس، سأعيد الاعتبار للطباشير الذي نسيته أصابع المعلمين، وأكتب للأطفال على «سبورة» الغياب: بلاد العرب أوطاني، لعلّ رجال الأمل النظيف، يستحون من بلاغة الشوق، حين ترتديها أحلام الشعراء، ويعيدون إلينا مفاتيح أحلامنا الإنسانية، فنحن والموت منذ أكثر من عقد من السنين العجاف نعيش في وطن واحد، منذ أكثر من عقد من السنين العجاف لم يتغير في أيامنا سوى التاريخ! في أقصى اللوحة نوافذ تفاقمت وحدتها في غياب الجدران، مكتبة تتحدث لغة النار بشهية بليدة، أسماء ممنوعة من الصرف، وثمة باب سقط مغشيّاً عليه.
لن أرسم بعد اليوم، أخشى أن تنجح هذه المكائد، سأشغل نفسي بجمع الأمنيات التي لن تتحقق، وأكتب رسالة لامرأة ما زالت تبحث عن أمومتها بين الأنقاض. لا بل سأرسم طائرة حربية، وأقصف مخيمات الأحلام السورية.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية