لن ننساك…

في منتصف محاضرة «التدريبات المسرحية» التي تتعلم فيها الطالبات الإلقاء المسرحي، وفي خضم إلقاء إحدى طالباتي «لمونولوج» يمثل امتحانها لمنتصف السنة، ضاق صدري فجأة وتضبب ذهني تماماً وشعرت بضغط غريب مؤلم في منطقة المعدة. تمالكت نفسي محاولة التركيز في محاضرتي، لأعود بعدها لمراجعة أسباب هذه اللحظات الغريبة القصيرة. تبين أن مقطع الأداء الفردي لطالبتي ترددت فيها كلمة «كيرلي»، حيث أوضحت أكثر من واحدة من طالباتي أن كان لهن رد الفعل ذاته عند الكلمة ذاتها، وتبين أن هذه الكلمة، من الآن فصاعداً، أصبحت «مدججة» خطرة، تحمل في طياتها معنى أكبر وأعمق بكثير من مجرد توصيف لشعر ذي لفافات متموجة. لقد أصبحت هذه الكلمة مرجعاً إنسانياً وتاريخياً ولغوياً مهماً لجريمة لن تمحى آثارها، ولوجع ضالع في أرواحنا جميعاً لن يزول سوى حين يغيِّب الأجيال المعاصرة الموت، حين يزول وعينا جميعاً، كل من عاصر هذه الفاجعة الإنسانية وشهد مناظرها وسمع أصواتها.
لا أتصور أننا سنتمكن من تداول جملة مثل «أود أن أعمل شعري كيرلي» هكذا ببساطة وطبيعية بعد اليوم. لن نستطيع أن ننطق الكلمة دون أن نشاهد وجه يوسف «الأبيضاني الحلو» ودون أن نسمع نبرة صوت والدته المرتج بأملها الذي نعرف الآن أنه أمل وُلد ميتاً وهي تترجى الأطباء التعرف على صغيرها بهذا التوصيف الذي لن ينسى. كلمات كثيرة سيتغير معناها في القاموس، وجمل متعددة ستتحول إلى مأثورة، بعد أن تغلفت بالألم والعذاب والمعاناة، وبالصبر والصمود والإصرار. جمل مثل «ابني عريس» التي صرخها أب مكلوم وهو يودع ابنه الشهيد أو «يا ريته حلم» التي بكاها طفل صغير غير قادر على تصديق الدمار الذي يحيط به، هل يمكن أن تنفصل في يوم عن فحواها الغزاوي وتعود جمل عادية نتداولها في الأيام العادية؟ هل سنصبح ككتاب مقالات مثلاً قادرين على العودة للكتابة في مواضيعنا السابقة، وما سيكون شكل وموضوع أول مقال يلتفت خارج غزة؟
كل عشر دقائق يموت طفل في غزة، غزة التي تحولت إلى أكبر مقبرة للأطفال في العالم. لكن لربما هذه الحسبة ليست دقيقة، فهي لا تضم الأجنة التي تموت في الأرحام ولا الخدج الذين يموتون خارج الحاضنات ولا الصغار المجهولين الذين اختفوا هم وأسرهم بأكملها من على وجه أرض غزة ولا يعرف أحد عنهم شيئاً بعد. لربما يموت طفل كل دقيقة في غزة، لربما تموت الطفولة كلها كل دقيقة في غزة، فماذا بقي من طفولة تشهد عذاباً كهذا ليس للكبار قِبل به؟ ماذا بقي من طفولة انطبعت في ذاكرتها صواريخ قاصفة ومبان مزلزلة ونزوح فجائي وقصف عشوائي في طريق «موعود بأمنه» وجثث متناثرة على هذا الطريق تنهشها الحيوانات والطيور الجارحة؟ كيف سنسمي هذا الجيل من أطفال غزة أطفالاً بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مشاهد فاحشة العنف والرعب والتشويش مما لا تختلف أبداً، ولربما تزيد، عن مشاهد الرعب في الأفلام الهوليوودية التي تمنع سينمات الغرب الأطفال من دخولها؟ أبناؤكم لا يرون هذا الرعب ولو خيالياً على شاشة سينما، وأبناؤنا يعيشونه حقيقة كل يوم؟ أنحتاج اليوم أن نقدم تعريفين للطفولة، واحد للعربية وآخر للغربية؟
الطبيعي هو ألا تعود حياتنا كما كانت قبل 7 أكتوبر، الطبيعي هو أن تتخذ الكلمات والمشاهد معاني جديدة مشحونة تبقى في قواميسنا البشرية للأبد، الطبيعي ألا نصبح طبيعيين أبداً بعد أول يوم لقصف غزة، بعد ما شهدنا ليس فقط من وحشية فاحشة لبني جنسنا البشري ولكن كذلك لسكوت البقية الباقية، لتفرجهم على أطفال ومدنيي وعزل بني جنسهم يمزقون ويتناثرون أشلاء دون أن يستطيع أحد أن يوقف الجزارين القائمين على المجزرة. الأمم المتحدة بمجلس أمنها بكافة المؤسسات الإنسانية الحقوقية بحكومات العالم المناهضة لهذا العنف بشعوب العالم الثائرة على تلك الفاشية والوحشية، كل تلك ما أوقفت المجزرة، فإلى أي «طبيعية» يفترض أن نعود، ولأي شعور بالأمن والحماية يمكن أن نلجأ؟
غير الطبيعي هو هذا البرود والحياد، دع عنك القبول والتشجيع. غير الطبيعي هو، فيما الأطفال الخدج ينقلون على الأيادي ويوضعون على الأرض بسبب توقف الأجهزة التي تبقيهم أحياء عن العمل، أن تكون قادراً على تقديم «قراءات موضوعية» لعملية تطهير عرقي واضحة. غير الطبيعي هو، فيما المستشفيات تُقصف وتُقتحم وتُحاصر بطلقات النار، أن تكون متمكناً من الحديث حول تحليلات سياسية تضع الطرفين الصهيوني والفلسطيني على كفتي ميزان واحد. غير الطبيعي هو أن ترى صغيرة مدفونة تحت سقف بيتها، يتحرك جسدها الصغير مهادناً محاولات المنقذين إخراجها من مدفنها المؤقت، فتتفلسف حول خطايا كل الأطراف، وكأن كل الأطراف متساوية وليست غاصب وضحية، وكأن كل الأطراف معرضة لعملية الإبادة الجماعية ذاتها وليست معتدي ومعتدى عليه، وكأن كل الأطراف محظية بذات الفرص وليست طرفاً معه كل حكومات العالم الغربية المصدِّرة للسلاح، وطرفاً معه كل شعوب العالم التي تصرخ بلا مجيب.
نعم أنت، أنت من يكتب على تويتر «بشياكة» المفكر ومن يخط في أعمدة الصحف «بأناقة» المثقف، أنت بوجهك الذي هو أقبح من وجه نتنياهو، ونفاقك الذي هو أفظع من نفاق سوناك، وفساد موقفك الذي هو أفظع من فساد موقف بايدن. أنت القادر على إدانة حماس و»تفهم موقف إسرائيل» فيما الأطفال يلتحفون أسقف عماراتهم أو، في أفضل الظروف، يفترشون أرضيات المستشفيات الباردة، أنت الذي حالك حال من يتزين بمساحيق التجميل في مقبرة مليئة بأجساد الصغار، سحقاً لجبنك ونفاقك وموقفك «الوسطي»، سنتذكرك وموقفك أبد الدهر، لن ننساك بمساحيقك الرخيصة راقصاً على قبور الصغار. لن ننسى أبداً…

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” الطبيعي هو ألا تعود حياتنا كما كانت قبل 7 أكتوبر، ” إهـ
    أختصر التعليق بجملة:
    عدوك , هو عدو دينك !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول فصل الخطاب:

      ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ✅🕋

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    بعد ما شهدنا ليس فقط من وحشية فاحشة لبني جنسنا البشري ولكن كذلك لسكوت البقية الباقية، ” إهـ
    إنه الوجه الحقيقي للصهيونية !
    الصهاينة ليسوا يهود فقط !!
    و لا حول و لا قوة الا بالله

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    الغرب الإنجيلي الإنجلوسكسوني المتصهين يا دكتورة من أنشأ الكيان الصهيوني بفلسطين !
    لكن طغاة العرب من حافظ على هذا الكيان , كما يحافظ الكلب على سيده !!
    صهاينة العرب أشد وطأة على الفلسطينيين من صهاينة اليهود !!!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول عبد الله:

    اتظن أنك عندمـــا أحـــرقتنــي
    ورقصت كالشيطان فوق رفاتي//
    وتركتنـــي للذاريــات تـذرنــي
    كحلاً لعين الشمس في الفلـوات//
    أتظـن أنك قـد طــمست هويتي!!!
    ومحــــوت تاريخي ومعتقـــداتي//
    عبثا تحاول …. لا فنـــاء لثائر
    أنــــا كالقيامـــه ذات يـــــوم آت//
    أنا مثـل عيـسى عــائد وبقــــوة
    مــن كـــل عاصـــفة ألـم شتـاتي//
    سأعــود أقدم عاشــــق متمــرد
    سأعـود أعظـم أعظم الثــــورات//
    سأعود بالتوراة والإنجيـل والــ
    قـــرآن والتسـبــيح والصـــلواتي//
    سأعــود بالأديـان ديــناً واحـــداً
    خــــــال مـــن الأحقـاد والنعرات//
    رجل من الأخدود ما من عودتي
    بـد … أنا كل الزمــــــان الاتي

  5. يقول إبن آكسيل:

    كلمات كقنابل نووية و حتى أجدى من القنابل النووية …….كالعادة الدكتورة تناظل في سبيل الحق دون ملل و لا كلل …..” سيزيف الشرق ” البارحة و ” سيزيف الإنسانية” بعد السابع من أكتوبر ….كل التقدير و الإحترام …….

  6. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لن ننساك… في جميع تعليقاتي على القدس العربي تعبت من كثرة الكلام عن نفاق الغرب وأمريكا هذا العالم لا يعترف لنا ولا يقبل لنا الحياة وعندما يتكلم عن حقوق الانسان و حقوق الحيون وحقوق المرأة وحقوق الأطفال وحرية التعبير وحرية الأديان ليس لنا نحن ليس بشر يجب إبادة العرب ان كان أطفال او شباب او شيوخ او نساء ويجب الحصول على خيرات بلادنا ولو نظرا أي انسان إلى المنطقة العربية كلها حروب وفتن وتخريب لا تنتهي ولو تكلمنا عن التاريخ الحديث من 1948 حتى يومنا هذا والمنطقة في استنزاف مستمر من شراء سلاح ومؤامرات وتطبيع لدق الفتن بين الشعوب والحكومات ومن يوم 7 / 10 / 2023 المنطقة في تهديد مباشر من الغرب وامريكا وهذا اليوم اسقط جميع اقنعة العالم وليس إسرائيل والغرب وامريكا فقط أيضا العالم العربي الإسلامي الذي لم يفعل أي شيء لحماية الشعب الفلسطيني في غزة من الإبادة وفي تعليق لي على القدس العربي كتبت لو تم التطبيع مع السعودية بدون دولة للشعب الفلسطيني سيتم ذبح الشعب الفلسطيني على الشريعة الإسلامية باختصار ( 1 )

  7. يقول محي الدين احمد علي رزق:

    شديد امام العالم الاسلامي وهذا ما تم المقاومة الفلسطينية شعرت بقرب تطبيع السعودية مع هذا الكيان وقررت تنفيذ الخطة التي اذلت إسرائيل الجيش الذي لا يقهر وهزيمة إسرائيل تعني هزيمة الغرب وامريكا معها ولهذا ذهب بايدن إلى إسرائيل ومعه العتاد والمال والتايد المطلق لقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب وتدمير غزة واصبح اللعب على المكشوف وتم تهديد الدول العربية تهديد به من العنصرية يكفي الكرة الأرضية وسمعنا من إسرائيل من يقول يجب ضرب غزة ب النووي وسمعنا من الغرب اللعين الكثير وتم عقد المؤتمر الإسلامي وحتي الان لم يحصل أي شيء على ارض الواقع. لك الله يا غزة. لن ننساك. وشكرا ( 2 )

  8. يقول سالم:

    اذا شارك الغرب بقتل غزة فهذا طبيعي لان اسرائيل ربيبتهم ولكن لماذا يشارك العرب والمسلمين في قتلها, نعم الكل مشارك بطريق مباشر أو غير مباشر, لا نستطيع المحاربة المباشرة ولكن نستطيع مقاطعة كل منتج غربي و يجب فعل هذا على الاقل اذا بقي لدينا ذرة احترام لانفسنا.

  9. يقول Dr arabi:

    حياك الله دكتورة ابتهال، نعم إن ما نراه على شاشات التلفاز وفي الصحف وما نسمعه من استغاثات للمصابين والمحاصرين والنازحين في قطاع غزة لتندى له جباه الانسانية،هذا إن كان هنالك لا تزال إنسانية ترى وتسمع ما تقوم به القوات الصهيونية ولا تحرك لها ساكنا، احساسك يا دكتورة هو إحساس مرهف.
    دكتورة،: لفت. انتباهي في بداية مقالك انك أحسست بضيق في الصدر والم غريب مرعب في منطقة المعدة، ارجو ان تزوري الطبيب ، والف تحية وسلامة لك.
    دكتور فلسطيني في الغربة.

  10. يقول د. الجيلاني:

    الغريب، هو ان يستمر المدافعين عن القضية في المحاججة بين ما يصدر عن الفليطينيين وما يصدر من الاسرئليين، بينما تلح عليهم ملجمة لاي محاور، وهي أن أصل المشكلة هي الاحتلال، وبمجرد ان انتهائه لن يكون هناك مبرر لما يسمى بالعنف الفلسطيني. الذي هو مجرد ردة فعل على عنف أكبر منه، ولئن كان العنف الاكبر يمارس بأدوات اكثر تطورا تكنولوجيا، فهذا لا يحرم على الضحية استخدام ادواته البدائية للدفاع عن نفسه. ولا يضفي الشرعية على ادوات الجاني المتطورة.

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية