لويز غليك وشعر المرأة المغيب عربيا

بعد إعلان فوز الشاعرة لويز غليك بجائزة نوبل للآداب، وهو الحدث الكبير والمهم بالنسبةِ للقارئات النسويات مثلي، وهن يترقبن كل عام كيفية تجاوز الكاتبات أو الشاعرات بسهولة في الجوائز الأدبية، بل حتى الكتاب الأكثر إبداعية. ويا لفرحتنا حين اكتشفنا أن موضوعات هذه الشاعرة تختص بالمرأة والأسرة والطفولة، بقضايا الشعر الأنثوي تحديداً، تلك التي لطالما جوبهت بالصد والإهمال لقرونٍ، هنا وهناك. دفعتني فنيتها التي قلما رأيتُ مثلها، وقصائدها القليلة المترجمة للعربية، أن أبدأ فعلياً بالترجمة، فكانت تجربة غليك الشعرية هي أساس تجربتي الترجمية، رغم ما تتسم به من صعوبة وتعقيد، وتطلب كبير للبحث عن خلفيات القصيدة وتحقيقها، لترجمتها بصورة واضحة نسبياً للقارئ العربي، الحديث على هذه الصور والموضوعات، والنوع بالكامل. في الواقع كانت لغتها المموهة هي أكثر ما شدني لحقيقة أعمالها، مستخدمةً بذلك أسلوبية السهل الممتنع الخادعة، التي توحي للقارئ العابر بموضوعاتٍ بسيطة، في حين أنها تُخفي أبعاداً شتى في الأعماق، بالإضافة إلى تسخيرها للأساطير اليونانية والميثولوجية الأغريقية في صورها الشعرية للقضايا التي تريد، وهي قضايا الأنثى والعائلة، مطوعة لهذه الغاية أساليب خطابية متنوعة بين المخاطب المباشر وغير المباشر، من خلال ارتباطه الوثيق بعناصر الطبيعة، والأبعاد الفلسفية الكامنة في العلاقات غير المباشرة، بين الشخوص الشعرية، موظفةً أسلوباً عاطفياً ينفض ذهن القارئ التقليدي، بإسقاطات الحداثة وقضاياها الإنسانية على أساطيرٍ لطالما رآها من وجهةِ نظرِ محددة.
وهذا الشد، وهذه الصعقات العاطفية التي تتالت علي من قراءة شعرها، هو ما جعل الهوة الشاسعة الناجمة عن فقدان هذه الشعرية الحقيقية في الأدب العربي، تنبضُ في قلب القارئ الذي مثلتهُ آنذاك، بالإضافة إلى أن تهميش شعر الأسرة والأنثوية الذي نمتلكه فعلاً لا يقل دعوة للأسف عن فقدانه تماماً؛ وبذلك لا نجرؤ على أن نقول أن لا وجود للشاعرات الملمات بالشعر الحقيقي النسوي، بيد أني أعتبر نفسي قارئة محظوظة حين عثرتُ على عددٍ من الشاعرات العظيمات اللاتي أخذنَ – أو يأخذن- على عاتقهن هذا النوع من الشعر، كمسؤولية للتغيير، مثل وقوعي على ديوان «ذكر الورد» لسنية صالح، والدواوين الغنية للشاعرتين ابتهال بليبل ومريم العطار، حيث إن هذا الحظ لا يتوافر أمام كل القراء الناشئة أو النخبة للأسف، وقد لا يخطر لهم أن يبحثوا حتى، لندرة هذه المدرسة في السوق الكتبي التجاري. وهذا ما أتمنى لفت النظر إليه في هذه الورقة، إن حقيقة معرفة القارئ عن كل ما يخص الشعر التقليدي والشعر المعاصر من وجهة نظر شعرائه الرجال فحسب، هي حقيقة مؤلمة وتستحق التأمل، فالنظرة الأدبية والفنية لقضايا الطفولة والعائلة، والمراهقة والحب، والأمومة والبنوة، تستحق أن تُرى – إلى جانب الطرف الآخر- من عينِ مَن يتحمل أغلب مسؤولياتها، ويجابه بدورهِ واقعها الفعلي، وهي عين المرأةِ بالطبع.

وهذه ليست دعوة للنسوية، فالنسوية «المرعبة» يمكن اعتبارها حركة اجتماعية حقوقية بالدرجة الأساس، وإن ظلالها الساقطة على الأدب العربي ـ رغم أهميتها- هي رغبة فنية شخصية ولا يمكن اعتبارها حركة واجبة على كل الكاتبات، لكن الشعر الأنثوي هو توجه إلزامي على الشاعرات الحقيقيات، لأنه جزء لا يتجزأ من شخصياتهن، وماضيهن وحاضرهن، ولأن الشعر رسالة قبل أن يكون فناً، تذكر مريم العطار: ترتعش يداي، وقلمي لا يسقط/ الموت بحريةٍ فوق الدفاتر والأقلام/ موتٌ عذِب. فالشعر نبعٌ شفافٌ يعكس حقيقة شاعره، ومتى ما عزف عن نقلِ صورة حية لمسرىٰ ذاكرتهِ ومنحىٰ واقعهِ، وعن تجسيد مأساته بفني عالية، لعمري أصبح مجرد هيكل مجوف لتلك الفنية المزعومة.
تتحدث غليك في مجموعاتها الشعرية بإيحائية محترفة وسخريةٍ سوداوية، تتناول فيها الطفولة والشيخوخة، البنوتة ـ نعم فكرت باختراع هذه الكلمة غير الموجودة في قواميسنا للتعبير عن كلمة daughterhood في إحدى قصائدها بدل استخدام كلمة «البنوة»- والأمومة، الحب والاغتصاب، الهرب والاختطاف، ثم دور الرجل مهما كانت صلته. وبهذا الصدد تذكرُ في إحدى قصائدها: تقولُ الأسماء المختلفة، كلها بالتناوب/ الموت، الزوج، الإله، الغريب/ كل شيءٍ يبدو بسيطاً للغاية، تقليدياً للغاية. وكانت تركز على أسطورة «بيرسفيون» ابنة ربة الزراعة اليونانية، التي يختطفها هاديس إله العالم السفلي، صانعاً لها عالماً يُشبه الأرض ومطلقاً عليه اسم «فتوة بيرسفيون».

هنا أخفقتُ باختراع مفردة أنثوية مقابلة تحديداً للمفردة الأصلية Girlhoodوما زلت أحاول إيجاد كلمة مقاربة! على أي حال، فإن تعلقها بشخصية بيرسفيون الابنة والضحية واضحاً في أغلب قصائدها، وجسدت بجلاء، بناءً على ذلك، الحب حالياً، وانتهاكه الجسدي والفكري، مثلاً في قصيدتها «أسطورة الخلاص» بعد اختطاف هاديس لها لعالم الأموات: وخلف السرير، يأخذها بين ذراعيه، يريد القول أحبك، لا شيء بمقدوره إيذائك/ ثم يفكر: إنها كذبة/ أنتِ ميتة، لا شيء بمقدوره إيذائك/ يقولُ في النهاية. ما يبدو له بدايةً واعدة، وأكثر صدقاً. وفي قصيدةٍ أخرى مقشعرة للأبدان، عن الناس المتباحثين بشأنها على الأرض: هل تعاونت عند اغتصابها؟/ أم هل كانت مخدرة، عُنفت رغم إرادتها/ كما يحدث عادةً للفتيات المعاصرات. ثم نجد القصيدة تتباحث كل جوانب قضية الفتاة المختطفة والحبيسة، فنلحظ من يطعن بها، ويلقي اللوم عليها، ومن يحسدها حتى، ونرى جانب القضية من الأنثى نفسها، فتذكر أن لا وطن لها، لا الأرض ولا العالم السفلي، وتقول أيضاً: «لن تختار طريقة عيشك، لن تعيش، وليس مسموحاً لك بالموت حتى».
هذه هي الموضوعات بالذات التي يجب إتراع قصائدنا بها، خاصةً أن معدل الجريمة وسوء معاملة النساء أعلى نسبةً في الوطن العربي، فلا يمكن للشاعرة إهمال واقعها وذاكرتها، لاسيما العصيبةَ منها، وتظل شاعرة، لأن شعرها ليس نقياً ولا صادقاً ولا صاعقاً. يلمح قارئ غليك أيضاً أن شعرها يتراوح برقةٍ ولطف بين الفردية والجمعية، فيرى الجمال المغبر في الذاكرة حين تستذكر والدتها بصورها وملاحظاتها، والصدوع التي لم يملئها ما تذكرهُ عن والدها، وكيف كانت طفولتها الغارقة بالوحدة والكتب، وعزلتها التي عوضتها بالشعر «لستَ وحيداً/ قالت القصيدة، في النفق المعتم» إضافةً على محكيات شعرية عمَا تفعلهُ الأم الشرسة لحماية أبنائها، وهكذا تؤرجِحنا رمزية غليك الصورية بين أسفل أرضٍ وأعلى سماء، وأعمق دركٍ في ذواتنا. والسطح الذي هو واقعنا الآني، وهو ميزانٌ بلاغي يجب أن يوضع نصب أعيُننا حين نروم كتابة قصيدة. إن البصيرة الواعية للواقع ومسؤولية الشعر، تعي أن لا شيء أقوى من الشعر يخلق تأثيراً دائماً في الذهن، وليس هنالك رابطاً بمقدورهِ توحيد المجموعة أكثر منه.

نحتاج أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نسخر إنانا وننخرساج وبو آبي وحتى إنخيدوانا، وغيرهن من الشخصيات الأسطورية والتراثية، مثلما فعلت غليك بأساطيرها، لتحرير الرسالة المكبوتة.

ومن جانبٍ تأملي آخر، يتساءل القارئ عن الشعر الذي يقفز فترات مهمة من حياة صاحبه، ويعتم مواقفه الشعورية الأكثر صدقاً وقوة، ويزيح انفعالاته الحقيقية، تاركاً فجوةً في الديوان محوطةً بإشاراتٍ حمراء مثل «احذر، أمامك منطقة حساسة» «احذر، أمامك منعطف يُثير غضب الفكر الأبوي» «انتبه، أمامك طريقٌ مظلمٌ يستحي من أضواء المجتمع القاسية» أي نوعٍ من الشعر سيُنتج إذن؟ الشعر الذي تراوح فيه ذائقتنا، يائسةً منذ عقود بالطبع، شعر الحب والاستسلام والخيانة والغدر، كاشفاً جزءاً سطحياً من حياة الأنثى، وحتى هذا قد يكون مخترعاً أحياناً لنقص التجربة، أو الشعر المصور للأنثى من منظورٍ ليس بمنظورها. مهما كانت الأسباب، فالشاعر الذي يتنكر في شعره، سيتنكر شعره منه! ولا أرى الشاعر شاعراً حين يختار أمكنةً آمنة من حياته فحسب، لسكبها على الورق، ولاسيما حين تكون بقية أمكنته مواطناً للتحول، ومركزاً حيوياً في حياته وحياة الآخرين، بل أراه مستشعراً مخادعاً يرتدي ثوب المغامرة الشعرية، دون أن يخوضها فعلاً. وبلا شك، إن الشعر الناقص هو نصٌ يتنصل من كاتبه ويتنصل كاتبه منه.
نحتاج أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نسخر إنانا وننخرساج وبو آبي وحتى إنخيدوانا، وغيرهن من الشخصيات الأسطورية والتراثية، مثلما فعلت غليك بأساطيرها، لتحرير الرسالة المكبوتة. نحتاج أن نثري ذاكرة الشعر بذاكرة الجنس الآخر مثلما يجب، وأن نمسح من حنان الأم على قصائدنا، ونلينها بحب المرأة الجامح والعطوف، الشامل والمخصص، أن نهز عرش الأنظمة الاجتماعية بحقيقة شاعرية مرسخة لما يوضع من معرقلات أمام الأنثى التي تروم البحث عن هويتها وذاتيتها، وأن نعلن اختلاجات المراهقة ـ والبنوتة – التي سُرقت من ذاكرة الأنثى العربية باسم الزواج والبلوغ والأمومة، أن نرد لونها في الشعر ولا نجتازهُ مثلما فعل البقية. تقول غليك مجدداً وهو ما أقولهُ أيضاً عن الجمالية المقترنة بالصدق: صحيحٌ أنهُ ليس هناك جمالٌ كافٍ في العالم/ وصحيحٌ أيضاً أني لستُ جديرةً باسترجاعه/ ولا هناك ما يكفي من الصدق أيضاً/ وهنا، يُمكنني أن أكون نافعة.
تأثير لويز غليك يجب أن يدرس لكل قارئ وكاتب للشعر، وليس للنساء فحسب، بل إن هنالك شعراء رجالاً خدموا – ويخدمون- هذا المبدأ الإنساني شعرياً أيضاً، مثل أدونيس في كتابه تاريخ يتمزق في جسد المرأة وغيره الكثير. هو تنبيهٌ ببساطة لبعدٍ حياتي يجري تجاهلهُ باستمرار بقصدٍ أو لا، ولتفاصيل الحياة الثرية التي أعمينا أنفسنا عنها خجلاً. الشعر حر، ميدانٌ لما لا يمكن البوح به علانيةً وبصوتٍ صادح، لذا فليصرخ كاتبهُ بالحقيقةِ بملْ قلمه، ولِتتغلغل روح الشعر الصادق بقلبِ الشارع الثقافي، قارئهُ وناقدهُ، بائعهُ ومنتقيه.

كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    أوحى لي مقالك أيّتها لكاتبة الطموح…افتراض يبدو من الخيال وهو من التحديّ والاستجابة.فلو جمعنا كلّ النساء في الأرض ووضعناهنّ في قارّة لوحدهنّ؛ وجمعنا جميع الرجال في الأرض ووضعناهم في قارّة لوحدهم؛ هل سيكون ثمة
    أدب أو فنّ ؟بله الحياة.إذن: { حلاوة } الحياة هذا التمازج الملوّن بين الأنثويّ والذكريّ؛ دعوا مسار التفاعل يرسم كلمات
    من التحديّ لتكون الاستجابة: عين اليقين وحق اليقين وعلم اليقين.فليس هناك أدب نسويّ بل هو أدب (49%) فيه من
    وحي الرجال؛ و(51% ) من معاناة النساء؛ وليس هناك أدب ذكوريّ؛ إلا بنسبة (49% ) ونسبة ( 51% ) من وحي النساء.وإلا
    سيكون الوأد على الحياة.شكرًا رزان كلماتك عن الشاعرة الفرنسيّة { ثورّت } مكنون النفس؛ ليظهر تعليقًا في القدس.

اشترك في قائمتنا البريدية