لوْنُ المَوْت

الرائيّة التي قالها أبو تمام في محمّد الطوسي والتي طَالِعها (كَذَا فَلْيَجِلَّ الخطْبُ ولْيفْدَحِ الأمر/ فليس لعين لم يَفِضْ ماؤها عُذْرُ) لفت بيت فيها بالي إلى تلوين الموت يقول فيه: (تردّى ثيابَ الموتِ حمرا فمَا أتى / لَهَا الليلُ إلاّ وهْي من سُنْدُس خضرُ). الحقيقة أنّ ما لفت انتباهي ليس مضمون القول في ذاته فواضح فيه أنّ للونين الأحمر والأخضر دلالات يمكن أن نظفر بها في رمزيّة الألوان في هذه الثقافة أو تلك أبسطها أن يقال إنّ القتيل كان شهيدا؛ فمعلوم أنّ محمد الطوسي وهو طائيّ من قبيلة أبي تمام مات في موقعة ضد الروم وكان يحارب في جيش الخليفة المعتصم وبناء على الشهادة فإنّ مصيره الجنة وهو ما يمكن فهمه من تحوّل اللون من حقيقي هو لون الدماء التي تضرّج ثيابه إلى لون الجنة } ؛ ومعلوم أنّ في ذلك اقتباسا لقوله تعالى في سورة الكهف (31) (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَناتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍۢ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ). أن يكون للموت لونٌ ليس ضربا من الترميز العلاميّ مثلما يمكن أو يفهم لأوّل وهلة سنبيّن في هذا المقال أنّه نوع من الربط الذهني والثقافي بين لون معيّن والمعنى الخطاطيّ أو المجرّد الذي يرتبط به إنّه شيء فيه اقتران بين المعنوي والملموس بعيد عن أن يكون مجرّد تشبيه أو ترميز أو استعارة.
اقتران الموت باللون الأحمر مفهوم وفي سياق بيت أبي تمّام أعلاه فهو لون دم الشهيد الذي يرى على ثوبه هو من علامات أنّه الميت ماتَ لكنّه ليس من علامات الشهادة علامة الشهادة أن يتحوّل الأحمر إلى أخضر : التحويل هو الآلية التي انتقلنا به من موت إلى شهادة عبر الانتقال من اللون العامّ للموت إلى اللون الذي تقترن به الجنان وهو اللون الأخضر وإن شئت قلت إنّ اللون الأخضر لم ينتقل بالشهيد من الموت بل أيضا أدخله الجنة.إنّ الانتقال كان من لون النهار الذي يسري فيه اللون الأحمر القاني من الثوب إلى الناظر إلى القتيل ، يسري إلى لون الليل الأسود الذي هو منسجم مع الأخضر بل إنّ الأسود من أسماء ألوانه فالعرب تسمّي الأخضر الشديد الخضرة أسود.
تفاعلات النفس هذه مع اللون هي التي تعطي للغة معناها وهو تفاعل آنيّ في رؤية الشاعر للتحوّل من لون النهار إلى لون الليل من أحمر الشمس إلى أسود الليل الذي يولّد خضرة الجنان و تفاعل زماني عبر اللغة ذلك أنّ السواد الذي يراه المتأمل في الخضرة هو من المدركات المجرّبة والفعلية فحين يتحرّك حقل القمح الأخضر مع انكسار الشمس تراه من بعيد وقد بات أسودَ فهذه أشياء مجرّبة بالإدراك وليست جنوحا إلى الترميز.
الشعراء شأنهم شأن البشر العاديّون يميلون أحيانا إلى تلوين الأشياء المجرّدة مثلما يميلون إلى تشبيهها بالموادّ الملموسة ولنبدأ بالبسيط من المعاني ذاك الذي يستعمل له الشعراء التشابيه والاستعارات استمع إلى أبي العتاهية وهو يقول ( الموت باب وكلّ الناس داخلُه/ يا ليت شعري بعد الباب ما الدارُ؟) استعمل الشاعر معنى ملموسا لمعنى الموت المجرّد حين شبّهه بالباب الذي يفضي إلى دار وما من شكّ في أنّ عبارة دار ليس فيها اجتهاد فالنصّ المقدّس قد استعارها للدنيا مثلما استعارها للآخرة وعين الشاعر ، أبي العتاهية قصرتها ههنا على الآخرة التي فيها باب يفضي إلى دار لا تعرف ما كنهها أهي الجنة أم هي النار لذلك يقول الشاعر في البيت الموالي: ( الدار جنّة خلد إن عملت بما / يوصي الإله ، وإن قصّرت فالنّارُ).

من فرط ربط الدم بالقتل ارتبطت الحمرة بالموت لا رمزا بل قرابة والتباسا و لذلك ليست علاقة الموت بالحمرة كعلاقة الثورة بالحمرة أو كعلاقة الشهوة بها أو غيرها من المعاني التي لا تتلبّس مباشرة بالألوان التي تدلّ عليها.

بين الشّاعرين أبي تمام و أبي العتاهية شَبَه في تصوير المآل : هو المعبر من الدنيا إلى الآخرة ، استعمل أبو العتاهية للمعبر صورةً ملموسة هي الباب الذي يفضي إلى دار وليست الدار إلا الجنة أو النار. وفي بيت أبي تمّام استعمل اللباس معبرا إلى الجنة إذ تحوّل لونه من الأحمر الدامي إلى أخضر الاستبرق. ونحن نستعمل في معتقداتنا هذه الألوان في إكساء الميت بالأبيض الداخلي ثمّ بالاخضر الخارجي. إنّ اللون ليس رمزا في هذه الحالة إنّما هو أداة عبور من الموت إلى الخلود الذي يرجى منه أن يكون جَميلا.
لم يكن ابو تمام في بيته الرثائيّ أعلاه بعيدا عن وسم العرب للموت بالسيف بأنّه موت أحمر ، قال الفرزدق (إذا ما يدُ الدرع التوى ساعد له / بأسيافهم والموت حمْرٌ دوائرهْ) ويقول في قصيدة أخرى (فلو كنت ذا نفسين إن حلّ مقبلا / بإحداهما دونك الموت أحمرا) وقال الأخطل (أَضَمًا وهزّ لهن رمحي رأسه/ أن قد أتيح لهنّ موت أحمر).
إنّ استعمال اللون للموت نابع من حاجة ثقافية وأخرى إدراكية وكلاهما متلبّس بالآخر، فأمّا الحاجة الثقافيّة فتتمثل في أنّ تجربة الحرب والقتل والخوف من الموت بالتشنيع في حياة الهمج الأولى جعلت المرء يسم الموت بالألوان فيميز بين موت أبيض هو الذي يدرك فيه المرء الموت في أبسط حالاته ؛ في مقابل الموت الأحمر بالسيف بطولة أو بالطعن غيلة. أمّا الحاجة الإدراكيّة فإنّها مرتبطة بهذا التصوّر للموت : تصوّره من زاوية نظر الميت لا الحيّ ، الموت الأحمر عند من يموت بالسيف هو موت ناريّ يمكن أن تشعر فيه الروح بضرب من اللظى والاحتراق. الموت له قيمة المؤشّر الذي ترتبط فيه العلامة بما تمثله ارتباط قرابة شأن ارتباط النار بالدخان فالدخان الذي هو علامة للنار مجاور لها كذلك الشأن بالنسبة إلى الموت والحمرة فكثيرة هي الأشياء التي ترتبط بهذا اللون تحيل على الموت مثل لون الدماء ولون النار و غيرها.
من فرط ربط الدم بالقتل ارتبطت الحمرة بالموت لا رمزا بل قرابة والتباسا و لذلك ليست علاقة الموت بالحمرة كعلاقة الثورة بالحمرة أو كعلاقة الشهوة بها أو غيرها من المعاني التي لا تتلبّس مباشرة بالألوان التي تدلّ عليها. أن تسند إلى الموت لونا هو الحمرة يعني أنّ لكلّ منّا شعورا بأنّ الموت يمكن أن يتلوّن مثلما يمكن للألم أن يتلوّن وأنّ عبارتنا العادية في وسم العذاب بالألوان في قولنا (ألوان من العذاب) ليس اللون فيها من الرمز إنّما هي تجربة للإنسان تقرن بين العذاب والألم والألوان فعلى سبيل المثال من الممكن لمن يرتطم أصبعه بصخرة أن يرى كاللمعة بين عينيه تشبه لمعان شيء مفاجئ تطغى عليه ألوان معينة وهو مع رؤيته السريعة للألوان يمكن أن يشعر بالألم وحين يقترن الأمران : الوجع و الألم فإنّ المدرك البصري والمدرك الحسي يتقارنان ولا يتفارقان في الذاكرة.
اللون الأسود يرمز للموت لكنّه لا يرتبط بتصوّره هو رمز له بمعنى أنّه لا علاقة للون الأسود بالموت ، ينبغي أن نثبت أنّ اللون الأسود شعور بالظلمة المفاجئة عند الميت حتى يصبح لهذا اللون دلالة الاقتران التي رأيناها مع الأسود ، لكنّ هذا ينبغي أن يعاش ليصدّق : فلا أحد من الموتى عاد إلينا ليقول لنا إنّه كان يرى سوادا محيطا ، حتى الذين عاشوا غيبوبة ثمّ عادوا لا يمكن أن يكون حديثهم عن تجاربهم تلك صادقا فلا هم ماتوا ولا الوعي الذي حدّثونا عنه هو الوعي الفعلي.
رحم الله الأستاذ الكبير محمّد عبد السلام، فلقد ألهمت هذا المقالَ أطروحَتُه التي كتبها بالفرنسية وناقشها بإشراف المستشرق الكبير ريجيس بلاشير في جامعة السوربون الجديدة في سبعينات القرن الماضي حول معنى الموت في الشعر العربيّ ؛ و أشكر الأستاذين حمّادي صموّد ومبروك المناعي على جهد الترجمة العربية.

أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    يا د توفيق قريرة، يا أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، في لغة القرآن وإسلام الشهادتين، الموت حقيقة ثابتة، لا ينكرها، بل يعترف أن هناك حساب وكتاب لإنصاف المظلوم وأخذ حقوقه من الظالم، ما بعد الموت، في اليوم الآخر، والله في لغة القرآن وإسلام الشهادتين هو رب الأرباب، وليس رب من الأرباب كما في قواميس اللغات الإنسانية،

    تعليقاً على ما نشرت تحت عنوان (لوْنُ المَوْت) https://www.alquds.co.uk/?p=3298618

    ولذلك أنا لي زاوية رؤية مختلفة،

    من وجهة نظري يجب التفريق بين من يناور، لإنقاذ من هو مسؤول عنهم (جد الرسول مع أبرهة عندما قدم إلى هدم الكعبة)،

    وبين من يحاول الصعود على أكتاف الجميع (الظالم والمظلوم) كما هو حال (ثقافة الأنا)، عقلية (آل البيت) من جهة، أو عقلية (شعب الرّب المُختار) من جهة أخرى.

    الكثير لم ينتبه إلى أن الإيغور في (الصين)، كذلك (تركمان)، والخط الموجود على عملة النقد الصينية (اليوان)،

    تمثل الخط العثماني/الچاوي،

    والذي به، كانت المراسلات الدولية تتم، كما هو حال الإنجليزية، الآن،

    والتدوين بالخط العثماني/الچاوي كانت كل دول آسيا وأفريقيا تستخدمه،

    على العملة المعدنية والورقية، في النصف الأول من القرن الماضي، ويعرف ذلك الهواة من جامعي العملات للعلم.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    الإشكالية، في انتشار مفاهيم سياسة (الغدر)، التي عليها تم تأسيس كيانات سايكس وبيكو على أنقاض (الدولة العثمانية)،

    ولذلك السؤال إلى أهل الإعلام، متى تصل المهنية/المصداقية/الشفافية إلى (وظيفتكم)؟!

    لأن لو ملك الأردن/المغرب قاما بدورهما في حماية الأقصى/الكنيسة أو العمل على تحريرهم من أي تحرّش أو تضييق على أي مسلم/مسيحي من تعدي اليهود،

    هل كان سيحصل ما حصل في غزة؟!

    تعليقاً على تنديد الملك بالمقاومة أو طوفان الأقصى، بشكل (لا لبس فيه)، الآن،

    كما ورد تحت عنوان (بايدن يتحدث عن هدنة مؤقتة في غزة “لستة أسابيع على الأقل” وعاهل الأردن يحذر: أي هجوم إسرائيلي على رفح سيؤدي لكارثة إنسانية) https://www.alquds.co.uk/?p=3298784

    لأن هل هذا تهريج/مسخرة أم نقد؟!

    *خواااااطر الماغوط*

    ✍🏼عندما كنتُ أسمع بائعَ الجرائد ينادي: الوطن بثلاث ليرات، الثورة بليرتين، العروبة بليرة وربع، والشعب بليرة، كنتُ أظنُّه يقصد سعرَ الجرائد.
    …..
    محمد الماغوط، و دريد لحم، هل أي منهما مثقف/متفلسف أم هما طابور خامس، بيننا؟!
    💔💔💔

    بينما رئيس هنغاريا، يعطي مثال عن مفهوم الحياء/الخجل

    https://youtu.be/xy-dUScQJIk?si=ML2b78K3jeHm3euj

    أو الإستقالة، بمعنى آخر،

  3. يقول محمد علي:

    في الموروث الموت كبش املح.اي أن لون الموت املح.والاملح الرمادي خليط من الاسود والابيض.وهناك الموت الاحمر للقتل والموت الابيض للجوع والموت الاسود الطاعون.اما موت أهل غزة فلونه بلون السماء.

اشترك في قائمتنا البريدية