في عقود خلت، كانت بلاد «العم سام» تُقدَّم لنا على أنها أرض الأحلام والجنة الأرضية الموعودة وبلاد الفرص غير المحدودة، حيث تسقط أوراق الشجر دولارات، وتهيمن صور الإغراء على الأحلام والإنتاجات السينمائية والتلفزيونية… لكننا اليوم، في عهد الرئيس دونالد ترامب صرنا نرى أمريكا كما يراها طفل في كابوس: وحشًا يفتش من تحت الوسادة، وفي صندوق البريد، بل وحتى في القلب والمخيال!
ففي عهده، تحوّلت تأشيرة الدخول إلى أمريكا إلى تحقيق استخباراتي على طريقة: «أين كنت ليلة السابع من أكتوبر 2023؟»، بل و»بمن شعرت بالتعاطف على الفيسبوك أو على (إكس) تويتر سابقا؟»!
نعم، يا سادة، صار من الممكن أن تُمنع من دخول الأراضي الأمريكية، فقط لأنك عبّرت في تغريدة عن تعاطفك مع غزة، أو لأنك استنكرت حرب الإبادة التي تُشن على الأبرياء هناك. صار من الممكن أن يفتح موظف المطار حاسوبه، ويبحث في منشوراتك القديمة، كأنك منخرط في تنظيم خطير دون علمك، وأنت منه بريء براءة الذئب من دم يوسف!
المصيبة ليست في التغريدات فحسب، بل حتى في جواز السفر الذي قد يشهد ضدّك. تخيّلوا أن المطرب المغربي الدوزي مُنع من دخول الأراضي الأمريكية، «جريرته» الوحيدة أنه زار العراق ذات يوم. العراق يا جماعة! بلاد الرافدين، حيث وُلد الحرف، وازدهرت الحضارة، وكتب الشعراء على ضفاف دجلة والفرات!
نعم، لقد زار العراق، البلد الذي دخلته أمريكا بـ»السلام»! نهبت خيراتِه، دمّرت بنياته، واحتلّت أرضه، وسجنت أبناءه في «أبو غريب»، ومرّغت كرامة أبنائه وبناته في التراب، ثم صارت تحاسب الزائرين له وكأنهم ارتكبوا جريمة لا تُغتفر. أمريكا دخلت العراق بالدبابات، وتمنع الآخرين من دخوله بالكلمات! ولكم أن تتخيلوا أيضًا أن مخرجًا مغربيًا مقيمًا في فرنسا – بلد الحرية والإخاء والمساواة، حسب الكتيّب السياحي – رفض حضور مهرجان سينمائي في بغداد، فقط لأنه خشي من أن يُختم جوازه بختم عراقي عند المطار، فيُصنَّف بعدها في خانة «المشبوهين» حين يعود إلى باريس. يا أخي، لو كان العراق عبارة عن نادٍ ليلي أو متجر شوكولاتة فاخرة، لهان الأمر… لكنه العراق! العراق يا ناس!
وأنا، عبد ربه، أُعلنها بملء فمي: لو خيّروني بين السفر إلى أمريكا أو العراق، لاخترت العراق. ولو خيّروني بين باريس وبغداد، لقلت: بغداد. بغداد التي ينام في ثراها «المتنبي»، ويحرسها ظلّ «جلجامش»، ويؤنسها نحيب «المعري»، وتواصل «شهرزاد» حكيها غير المنتهي.
فليذهب «العم سام» بمعلباته الصناعية إلى أقرب سوق خردة… أما نحن، فقلوبنا معلّقة هناك، حيث الكتابة نور ونار، والموسيقى مقاومة، والشعراء شهداء بلا دم.
إذا أردت دخول أمريكا، فاحذف منشوراتك، وامسح ذاكرتك، وادّعِ أنك كنت تتابع «توم وجيري» فقط… أما إن كنتَ حرًا، وأقفلت باقي العواصم الغربية مطاراتها في وجهك بذرائع وهمية وغريبة، تتنافى مع شعارات حقوق الإنسان، فاحزم حقيبتك، وقل: إلى بلاد الرافدين، حيث لا تُفتش الأفئدة، بل يُحتفَى بها أيّما احتفاء!
نهاية وهم إعلامي!
حين قرر دونالد ترامب إغلاق قناة «الحرة» وتسريح العاملين فيها، لم يكن الأمر مجرد تقشف، بل إعلانٌ عن فشل مشروع إعلامي ضخم، طالما جرى تلميعه بشعارات واهية. نتضامن، طبعًا، مع الزملاء الصحافيين والفنين والإداريين الذين فقدوا وظائفهم فجأة، فهم في النهاية أدوات ضمن منظومة لا يملكون القرار فيها، وكثير منهم كانوا مهنيين نبلاء، يستحقون فرصًا أفضل في مؤسسات أكثر حرية وأقل استغلالًا.
لكن، في المقابل، لا يسعنا إلا أن نسجّل كيف انتهى مشروع إعلامي ضخم، رُصدت له ميزانيات مهولة، أريدَ له أن يكون منافسا لقنوات عربية مؤثرة كـ»الجزيرة»، لكنه ظلّ عاجزًا عن اختراق وجدان الجمهور العربي. كما أُريدَ له أن يكون رأس حربة «الحقيقة الليبرالية» في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا… اختاروا له اسمًا «حرًا»، بيد أنه في واقع الأمر كان مقيّدا بأصفاد السياسة الأمريكية الخارجية، يكرّس الخطاب الأحادي، ويتبنى الرواية الرسمية لواشنطن. فرغم ادعائه الحياد، كان يروّج روايات الاحتلال، ويغرق في قضايا هامشية ونعرات مصطنعة في بعض البلدان العربية، دون أن يصنع رأيًا أو يغيّر اقتناعًا.
التلفزيون المغربي والدرس البليغ
من جديد، يخصّص التلفزيون المغربي تغطية شاملة للمسيرة الشعبية الحاشدة التي شهدتها العاصمة الرباط، الأحد الماضي، تضامناً مع الشعب الفلسطيني، وتنديدًا بحرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة. هذا الاهتمام الإعلامي المكثّف لم يكن مجرد إجراء تقني عابر، بل يحمل في طيّاته دلالات سياسية وأخلاقية عميقة، تُعبّر عن الموقف المغربي من واحدة من أكثر القضايا عدلاً وإنسانية في التاريخ المعاصر.
من نافلة القول إن «الخط التحريري» لنشرات الأخبار في التلفزيون المغربي لا يخرج عن الموقف الرسمي للدولة، لاسيما حين يتعلق الأمر بقضايا دولية ذات طابع إنساني وسيادي. ومن هنا، فإن الانخراط المهني للتلفزيون العمومي في تغطية المسيرة لم يكن مجرد نقل ميكانيكي للحدث، بل هو انحيازٌ مشروع للحق الفلسطيني، وتعبيرٌ جلي عن التقاء إرادة الدولة مع نبض الشارع المغربي، في موقف وحدوي راسخ حول قضية عادلة وواضحة.
لقد تميزت التغطية ببثّ لقطات قوية تُبرز حجم المشاركة الشعبية غير المسبوقة، حيث احتشد مئات الآلاف من المواطنين، بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم، في مشهد جامع يعكس وحدة الموقف المغربي. ورافقت الصور تصريحات صادقة لمواطنين وفاعلين سياسيين وحقوقيين ونشطاء مدنيين، عبّروا فيها عن رفضهم المطلق لجرائم الاحتلال، وعن دعمهم غير المشروط لنضال الشعب الفلسطيني من أجل التحرر والكرامة.
ولم تكتف التغطية بالجانب الإخباري البحت، بل شملت تعليقًا مباشرًا للصحافي الذي جسّدَ نبض الميدان، ونقل أجواء الغضب الشعبي والوجدان الجريح. كل ذلك شكّل رسالة بليغة تُفنّد بعض الأصوات التي تحاول حصر هذا الزخم الشعبي في مجرد «تيار أيديولوجي» أو «جناح سياسي» داخل المجتمع المغربي. التلفزيون الرسمي قالها بوضوح: هذه المسيرة تُمثّل موقف المغاربة جميعًا، بمختلف أطيافهم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
لكن الرسائل لا تقف عند هذا الحد. فلعلّ الأهم، هو أن هذه التغطية تُعدّ رسالة مباشرة إلى حكومة الكيان الصهيوني التي تُراهن على ما تبقى من «شعرة معاوية» في علاقاتها مع الدول التي التحقت بـ»اتفاقات أبراهام». التغطية الإعلامية الرسمية المغربية تقول: الشعب المغربي يرفض التطبيع رفضًا قاطعًا، ويرى في فلسطين قضية وطنية، لا تسقط بالتقادم، ولا تُقايض بالمصالح. وسبق للعاهل المغربي محمد السادس أن قال إن الاهتمام بالقضايا الداخلية للبلاد لا ينسينا الاهتمام بالقضية الفلسطينية التي تضعها المملكة في المرتبة نفسها لقضيته الوطنية الكبرى: الصحراء المغربية.
ثمّة أيضًا رسالة ثالثة، موجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وبعض العواصم الغربية التي لا تزال تدور في فلك الرواية الصهيونية، وتمنحها غطاءً سياسياً ودبلوماسياً، رغم فداحة المجازر المرتكبة في غزة. تقول التغطية: إذا كان بعض حكومات الغرب قد ارتضى أن يكمم فمه، فإن الشعوب الحيّة (ومن بينها الشعب المغربي) لا تقبل الصمت أمام الإبادة، ولا تتواطأ مع الجريمة.
إن تخصيص التلفزيون العمومي لتلك المساحة الوافية من التغطية ليس مجرد انتصار رمزي للحق الفلسطيني، بل هو مؤشر على نضج الوعي الإعلامي المغربي، وانخراطه في المعركة الأخلاقية والإنسانية الكبرى، حيث لم يعد الحياد ممكناً في قضايا الإبادة والتطهير العرقي.
إنها معركة وجود، لا تحتمل التردد ولا الرمادية ولا التلويح بأوراق المصالح الضيقة. فإما أن تكون إلى جانب الضحايا والمستضعفين، أو تُُدرج – صامتا – في خانة المتواطئين!
٭ كاتب من المغرب
والشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن 🇮🇶
واحسرتاه متى انام؟
فأحس ان على الوسادة طلا فيه عطرك ياعراق
بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
فأنا مثل من فقد حبيب الروح
فشهقت فيه الروح وزاد نحيبه.
البغدادي من المهجر
…أما بالنسبة لبلاد العام سام. ليس عندي رغبة في زيارتها. فأنا اصلا عندي خوف من ركوب الطائرة. والدولار لا يشدني كثيرا. فأنا استعمل عملتي .فرنك جيبوتي . أما الهمبرجر . فلا افضله على طعامي المفضل الرز والسمك . للعلم والخبر .
مشكور يا اخي
مند السابع من أكثوبر المشهود، و فلسطين تتعرض لقصف و عنف لا مثيل له، و كان الاعلام المغربي و كله رسمي، يعطي خبرا مقتضبا لما يحدث هناك، و لا يتحدث أبدا عن المسيرات التي تملأ الشوارع المغربية كل أسبوع تنديدا بالمجزرة . غير أن الطريقة التي عولجت بها المسيرة الاخيرة تجعلنا نشعر بتغير حقيقي في التعامل مع القضية الفلسطينية و تحسس نبض الشارع المغربي الدي يغلي كلما شهد مواطنا مسلما كما هو يتعرض للقصف و العنف.
شكراً أخي الطاهر الطويل. على الدول العربية أن تتخذ مجتمعةً موقفاً جاداً وتقرر وقف التطببع والتهديد بعدم ابرام اتفاقيات ممكنة في المستقبل لوقف حرب الإبادة والجرائم البشعة على الشعب الفلسطيني وأن نلتزم إسرائيل بالإتفاقات التي توقعها مع الفلسطينيين أو الدول العربية عموماً كلبنان وسوريا. ستحاسبنا الأجيال القادمة على صمتنا وسكوتنا وعجزنا وهي مسؤوليتنا قبل غيرنا. أما الدعم المعنوي من الشعوب فهو متواصل منذ قرن من الزمان وسيبقى لأنه اجتاز كل الإمتحانات والصعوبات ومحاولات الإلتفاف عليه، ولهذا نرى أن مايحصل اليوم هو أن الحكومات تحاكية وتجارية لكن دون التجاوب مع مطالب الشعوب . في حين أن الدول أو الأنظمة العربية لم تجتاز امتحاناتها وهذا يتضح اليوم أكثر من أي وقت مضى وكأنما نعيش أسوأ العصور، لكننا لن نفقد الأمل وإن شاء الله.