ليا سلامة والمنفى: هل يمكن للهوية أن تتشكل خارج الوطن؟

حجم الخط
4

يبدو أن الحياة تقوم على علاقات القوّة وأن الوجود معركة وعلينا أن نتسلحَ حتّى لا نسقط، هذا ما اعتقدته الصحافية ليا سلامة لفترةٍ طويلة، بعد أن ولدت في بيروت أواخر السبعينيات، في ليلةٍ شهدت قصفا عنيفا وضربا شديدا؛ لذا كانت السنوات الأولى من حياتها تتلخص في ذكريات الحرب والليالي التي قضتها في حوض الاستحمام؛ كوّنه المكان الوحيد الخالي من النوافذ والمأمن الأكثر أمانا من الشظايا، قصة سلامة ليست استثناء، فقد عاش كُلّ اللبنانيين القصة والتجربة نفسها منذُ كانت في الخامسة أو السادسة من عمرها.
في كتابها «نساء قويات» تروي ما يأتي: « كُنّا حتّى أوائل الثمانينيات نسكن في حي الحمرا، الحي العالمي في بيروت الذي احتضن المثقفين اليساريين وغالبية المسلمين. كان العيش هناك في أثناء الحرب الأهلية ونحن عائلة مسيحية، خيارا سياسيا واجتماعيا وثقافيا اتخذه والدي بوعي. فقد رفض والدي أي شكل من أشكال تصنيف الهوية. لكن عندما دخل الجيش الإسرائيلي الأراضي اللبنانية قرر والداي مغادرة البلاد، إذ أصبح الوضع لا يُطاق. وعلى الرغم من الانتقال، لم يكن المنفى قاسيا ولم نقطع السلك الذي يربطنا بلبنان. كُنّا في البداية نتنقل بين باريس وبيروت؛ أنا وأختي كنّا مسجلتين في مدرستين، واحدة هنا وأخرى هناك وتقاسمنا الوقت بينهما، ستة أشهر في لبنان وستة أشهر في فرنسا».

نشأت في ظل حال من عدم اليقين والقلق، كانت تأمل أن يهدأ الوضع وأن تعود ذات يوم إلى الوطن. ومع ذلك بقيت في فرنسا، على مر السنين أصبحت فرنسا موطنها، فرنسا المعروفة بقدرتها على الترحيب باللبنانيين بسخاء، أتقنت هذا الدور بامتياز. إلا أن ليا سلامة احتفظت بغضب معين، وهو ما يسمى عادة بغضب المنفى، الذي يستغرق وقتا طويلا حتى يمرّ؛ لأنّها أتت من مكان آخر، وبأن عليها أن تفعل ما هو أفضل من الآخرين، وأن تثبت ذاتها أكثر منهم كي تحقق مكانتها؛ إذ إنها قالت في كتابها المذكور مُسبقا: «لا شيء محفوظ لك في أرض المنفى، حتى لو كانت أرضا تُعرف بالترحيب. استوعبت ذلك منذُ طفولتي، حينما كان الآخرون يشيرون إلى اختلافي. حاولت لسنوات أن أندمج وأكون مثلهم، وسعيت جاهدة لطمس ملامح اختلافي، وتنعيم حواف شخصيتي، والتخلي عن شرقيتي وتفاصيل هويتي. لكن الأمر استغرق وقتا لفهم حكمة جان كوكتو: «ما ينتقدك الناس عليه، اصقله، فهو أنت». احتجت لسنوات لأدرك أن هذا الاختلاف الذي سعيت يوما لإخفائه، هو بالذات ما شكّل هويتي، وأصبح مصدر إلهامي وحجر الزاوية في العديد من النجاحات التي حققتها خلال مسيرتي المهنية».
يُستدعى والدها السياسي غسان سلامة باستمرار خلال فترة دراستها؛ بسبب عدم انضباطها وصعوبة تقبلها للسلطة. غالبا ما كانت مواجهاتها تُفسَّر على أنها وقاحة شرقية صريحة، حيث ارتبطت لديهم كلمة «الشرق» بمعانٍ سلبية مثل: التراخي، الإسراف، وغياب العقلانية، وهي دلالات رأوا أنها يجب أن تُمحى، بل أن تُهجر اللفظة ذاتها تماما. كان عليها أولا أن تُصلب نفسها وتكبح تلك الحساسية المفرطة المرتبطة بالشرق، من أجل ألّا تتيح للآخرين فرصة الوصول إلى أعماقها. وعلى الرغم من ذلك، كانت تشعر في داخلها وكأنها طنجرة ضغط تتراكم فيها أعباء الهوية. إن كلمات مونتين: «العالم ليس سوى اضطراب كبير ومستمر»، تجد دائما صدى عميقا في داخلها. فعدم الاستقرار والعنف الذي يسود الكون كان يرافقها باستمرار، يتردد في أعماقها بلا انقطاع؛ ما جعلها شخصا لا يعرف الهدوء أبدا.
عندما يولد الإنسان في قلب الحرب الأهلية اللبنانيّة، فإنه لا يؤمن بالهراء حول نهاية الحدث والتاريخ. لقد تركت تلك الولادة المضطربة بصماتها وأثرها العميق في شخصيتها على الدوام.

اختارت أن تصبحَ صحافية واتخذ طموحها شكل الغضب الذي تريد أن تعيشه وتقهره، غضب بدا أنه لا يوجد شيء قادر على مقاومته. لقد طلبت بشكل محموم الاعتراف. أرادت أن تثبت للفرنسيين أن «الشرقي» يمكن أن يكون الأفضل من «الغربي». وتظهر أن المرأة يمكن أن تضاهي الرجل، بل تتجاوزه صرامة، وحزما، وقوة؛ لذلك بدأت العمل على شاشات التلفزيون ضمن القنوات الإخبارية، حيث لاحظت مرارا أن السؤال ذاته المصاغ بالكلمات نفسها يعتبر مشاكسا إذا طرحه رجل، ولكنه عدواني إذا سألته امرأة. وفي حديثها عن الجانب المهني، تقول: «علينا أن نوجه الضيف للخروج من رتابة خطاباته المعتادة، وأن نساعده على تجاوز اللغة الجاهزة والتخلي عن راحة الإجابات المعلبة، وصولا إلى جوهر الموضوع. لتحقيق ذلك، يجب أن نستعمل كُلّ الأدوات المتاحة، أحيانا من خلال اللطف الذي قد يُفسَّر من قبل بعض النقّاد كنوع من التهاون، ولكن غالبا من خلال خلق مواجهة قد تُتهم بالتعالي أو الغطرسة. لقد تعلمت وأحيانا بالطريقة الصعبة، المخاطر التي يتطلبها أداء هذه المهمة، والتي ينبغي لي أن أتحملها في وظيفتي».


وضعتْ على الورق قائمة بالنساء اللواتي وجدتهن موضع إعجاب، ليس فقط لنجاحهن، ولكن لشجاعتهن، وحريتهن، وتفردهن. اشتركن جميعا بشيء واحد: القوة الداخلية، وتأثيرها في المجتمع، بكلمة واحدة، قوتهن. اقترحتْ على لورانس بلوخ سلسلة سمتها «نساء قويات»، وهو عنوان كتابها الذي زعزع الأمور، وأيقظ الناس، وحرك المياه الراكدة لاحقا. العنوان كان إشكاليا مثل علاقتها بالمسألة النسوية نوعا ما. يمزج هذا الكتاب بين مقدمة ذاتية ومجموعة من المقابلات الأكثر إلهاما، والأكثر تأثيرا وإثارة التي أجرتها، يتحدثن عن القيمة الهائلة للمرأة في المجتمع.
نتوقف عند مقابلة ليلى سليماني، التي اعتادت الابتسام دائما لإخفاء جراح الطفولة وشقوق المنفى. تدرك تماما أن بعضهم يرون فيها النموذج المثالي للمرأة العربية المتحررة والجذابة، بالطريقة التي يحبّها الفرنسيون. حصلت على جائزة غونكور في الخامسة والثلاثين من عمرها، وباعت ملايين النسخ من كتبها حول العالم. وُلدت في المغرب، لكنها أصبحت اليوم رمزا لأناقة المرأة الفرنسية. وغدا شغفها بالأدب والعزلة عظيما وصادقا لدرجة أنه سينقذها إلى الأبد.
«كي تكوني امرأة جريئة، يجب عليكِ أن تتحلي بالشجاعة اللازمة لإثارة الاستياء، وأن تكوني على استعداد لخيبة الأمل كأم، كزوجة، وفي ما يتعلق بتوقعات الناس منك»، السلطة أي أن تكوني امرأة لديها الجرأة ألّا تعجب الآخرين، هكذا قالت ليلى سليماني في حديثها مع سلامة. وترى أن الفرنسيين يحبون العرب الذين يندمجون بشكلٍ جيد، مع الحفاظ على الجانب «الوطني الودود» الذي يتوافق مع طبيعتهم. لقد فهمت سليماني من خلال تجربة المنفى والاغتراب أن الحياة تتطلب الاعتماد على الذات، وعلى العزلة، وعلى من نحبّ، من دون أن نعلق أي آمال على الآخرين.. واليوم الذي ندرك فيه أن النساء لديهن عيوب كثيرة مثل الرجال، فإن ذلك يعني أننا متساوون أخيرا. القوة هي تضاعف الذات، وهي أمرٌ شخصيّ بامتياز. أن تكون قويا يعني أن تكون متصلا بذاتك، محافظا على توازنك، وقادرا على التكيف والتعبير بحرية، كما تقول ناتالي كوسيوسكو.

إذن المنفى في هذا السياق لا يقتصر على الابتعاد الجغرافي عن الوطن فحسب، بل يمثل أيضا حالة نفسية وشعورية تتجسد في العزلة وفقدان الروابط الاجتماعية والثقافية التي كانت تربط الفرد بمحيطه الطبيعي. أما القوة التي تُمكّن الإنسان من تجاوز «غضب المنفى»، فهي مزيج من الأمل، التمسك بالهوية الثقافية، الدعم الاجتماعي، المرونة النفسية، الإيمان، والإبداع. كُلّ هذه العوامل المجتمعة تُساعد المرء على إعادة تشكيل هويته من دون أن يفقدَ جذوره وأصالته، ومن ثمّ إعادة بناء حياته والانتقال من مرحلة الألم وغضبها المُبرّح إلى مرحلة التكيف، التطور، والنمو الشخصي. بالنسبة للصحافية ليا سلامة، فإن تجاوز غضب المنفى لا يعني النسيان، بل التحرر من قيوده، وتحويل تجربة الاغتراب المُروعة إلى محطة للتعلم والنضج بدلا من أن تكون عائقا أو قيدا؛ وهنا نستحضر ما قاله إدوارد سعيد: «ولذلك يشعر المنفيون بالحاجة الملحة إلى إعادة بناء حياتهم المكسورة، وعادة ما يكون ذلك من خلال اختيار رؤية أنفسهم كجزء من أيديولوجية منتصرة أو شعب مستعاد». ويضيف «أن المنفى «ليس أبدا حالة الرضا والسكينة والأمان. فالمنفى على حدِّ تعبير ولاس ستيفنز هو «عقل شتوي» حيث تكون عواطف الصيف والخريف، فضلا عن إمكانات الربيع، قريبة ولكنها غير قابلة للتحقيق. ولعلّ هذا يعني بطريقة أخرى أن حياة المنفى تتحرك وفقا لتقويم مختلف، وهي أقل ارتباطا بالمواسم وأقل استقرارا من الحياة في الوطن. المنفى هو حياة تُدار خارج النظام المعتاد، إنها حياة بدوية، غير مركزية ومتناقضة؛ ولكن ما إن يعتاد المرء عليها، حتى تتفجر قوتها المزعجة من جديد». ومن هذا المنطلق المنفى في نظر إدوارد وسلامة ليس مسألة اختيار: إما أن تولد فيه، وإما يحدث لك، ولكن بشرط أن يرفض المنفي الجلوس على الهامش وهو يحتضن جرحا، فهناك أشياء لا بُدّ أن يتعلمها: لا بُدّ أن ينمي لديه ذاتية دقيقة وليس ذاتية متهاونة أو متعجرفة.

لطالما كانت قضية الهوية تشغل ذهن سلامة. لم تكن تعرف من هي بالضبط: كانت عربية، أرمنية، ومسيحية. ومع مرور الوقت، قادها هذا المزيج إلى الاعتراف بأن الناس يمكن أن تكون لديهم ألف هوية تمتزج وتتعايش في وئام وتناغم تامّ.
الاغتراب هو جرحٌ سري، يحمل المنفي حالته الوجودية مدفونة عميقا تحت طبقات من الوظائف. وفي ظل اضطرابه بسبب التجربة اليومية للاغتراب، يسعى جاهدا إلى إبعاد نفسه عن هذا الجرح. وينجح الغالب هذا ويتمكن المنفيون من التكيف. ولكن عندما لا ينجحون – ووفقا لجوليا كريستيفا – فإن التكيف ليس بالضرورة هدفا تنمويا مرغوبا، يظهر الجرح نفسه في تفاعلات الفرد مع العالم ومن خلال إعاقة معينة يحملها. وغالبا ما يعبّر عن جرحه عبر استعمالات مجازية معينة للأشياء، وتشكيل ارتباطات تبدو غريبة من دون معرفة غرضها. سعت ليا سلامة إلى تفسير تفاصيل غضب المنفى كما فعل إدوارد تقريبا: يدرك المنفي أن الوطن في عالم علماني طارئ هو دائما مؤقت. والحدود والحواجز التي تحاصرنا داخل أمان الأراضي المألوفة قد تتحول أيضا إلى سجون، وكثيرا ما يتمّ الدفاع عنها بما يتجاوز المنطق أو الضرورة. إن المنفيين يعبرون الحدود، ويكسرون حواجز الفكر والخبرة.. كما أنهم يعرفون أن المنفى أصبح «ضربا من العقاب السياسيّ المعاصر»، حيث لا شيء فيه آمن أو مضمون. إنه يشكّل – بالنسبةِ لهم – جرحا عميقا مفروضا عليهم لا يمكنه الالتئام والشفاء أبدا. وبناء على ذلك مهما حققت ليا سلامة أو غيرها من النجاحات والإنجازات، فإنهم سيظلون في موقع المختلفين، يشعرون بالاغتراب الدائم والغضب الكامن الذي لا ينتهي؛ بما أنه الاستياء الناتج عن الاضطرار والاحتياج إلى الجذور، وهذه الحاجة إلى الجذور هي حاجةٌ فطرية في النفس البشريّة لا يمكن اقتلاعها من أعماق الشخص بشكلٍ كامل.

هامش:
تستند المقالة إلى الكتاب الفرنسيّ «نساء قويات» للصحافية ليا سلامة، فضلا عن المقالات الإنكليزيّة للكاتب إدوارد سعيد حول المنفى.

*كاتبة عراقية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الكافي:

    مشكلة العرب الذين يصلون الي مناصب في المجتمع الغربي أنهم ينسون من أين أتوا

    1. يقول ملاك أشرف:

      نحنُ نُذكّرهم إذا نسوا، فهذه هي مهام الأدب والنقد الحقيقيّ!

  2. يقول سليم:

    لم تلق لي سلامة وخاصة في تصرفاتها الخاصة لن ادخل بالتفاصيل وهذا شيئ كان يتميز فيه أهل مغربنا العزيز بنسيان الحقائق والركض وراء الدعاية الصهيونية لضمان استمراريتهم وهذا لا يقتصر على الصحافة والفن وانما يتجاوزها الى العلم وبقية المجالات,

    1. يقول ملاك أشرف:

      ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل أو إنكار بعض أفكارها المميزة..

اشترك في قائمتنا البريدية