ليبيا: ايطاليا والفرصة التاريخية

يبدو أن التقسيم الاستعماري القديم ما زال مسيطرا إلى اليوم على الذهنية الغربية رغم مضي عقود على استقلال المستعمرات وجلاء القوى الاستعمارية الكبرى عن بلداننا التي ينظر إليها على أنها أراض مقفرة من البشر على غرار أقاليم جزر ما وراء البحار والقطبين، أو أن أهلها قصر وفي حاجة لمن يتولى أمورهم. فما إن تنشأ أزمة في بلد عربي أو افريقي إلا ويهب مستعمره السابق بتفويض أممي أو من خلال عرف بديهي يحظى بالقداسة بين الكبار فيما بينهم، إلى حل الأزمة.

وليس أدل على ذلك من تفويض فرنسا باستمرار لحل الأزمات في مالي وافريقيا الوسطى وغيرها وبلجيكا فيما يتعلق بالكونغو وايطاليا بالنسبة للأزمة الليبية باعتبارها المستعمر السابق لشمال بلد عمر المختار. وتصطدم روما في ليبيا بالنفوذ الفرنسي في الجنوب إلى حد تعارض المصالح بينهما باعتبار وأن ثروات ليبيا هي طوق النجاة للاقتصاد المتهالك لكلا الدولتين الأوروبيتين الأطلسيتين.

المصالح الأنغلوسكسونية

 

وتستمد ايطاليا نفوذها في ليبيا ليس فقط من كونها قوة استعمارية سابقة لشمال ليبيا بل أيضا من رعايتها للمصالح الأمريكية والبريطانية، وهو ما يزيدها قوة ويجعلها قادرة على مواجهة الفرنسيين من جهة والروس وقوى أخرى إقليمية تستمد قوتها من موالاة الجماعات التكفيرية لها وتجعلها قادرة على اجهاض العملية السياسية في كل وقت وحين. فبخلاف الاعتقاد السائد لدى البعض والذي مفاده أن واشنطن تهمل الملف الليبي مقارنة بنظيره السوري، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تولي ليبيا أهمية بالغة من خلال وكيلتها الأساسية، أي ايطاليا، بالإضافة إلى وكلاء آخرين تختلف أحجامهم وأدوارهم، تتعارض مصالحهم أحيانا مع ايطاليا الأمر الذي يستدعي تدخل الولايات المتحدة لتحديد الأطر وحدود التحرك لكل طرف من هذه الأطراف.

ولعل أكثر من يدرك أهمية الدور الايطالي في ليبيا هو رئيس حكومة الوفاق فائز السراج الذي ينعت بأنه “رجل روما” في ليبيا والمنفذ لسياساتها التي تتعارض مع مصالح فرنسا في أحيان كثيرة فيترجم على الميدان في شكل خلاف أو مواجهة مسلحة بين أنصار السراج وأنصار خليفة حفتر. ولعل مسارعة السراج إلى زيارة ايطاليا بعد مؤتمر باريس الذي حضره دون “حلفائه” الايطاليين وتوضيح وجهة نظره لـ”روما الغاضبة” حكومة ومعارضة وإعلاما ونخبا، يؤكد على الترابط الوثيق بين الطرفين ويؤكد أيضا على أهمية روما في الملف الليبي باعتبارها تمسك بورقة الحكومة المنبثقة عن اتفاقية الصخيرات.

جذور تاريخية

وللإشارة فإن أطماع الايطاليين في أواسط القرن التاسع عشر وقبل اكتشاف البترول في ليبيا، كانت موجهة نحو تونس لاعتبارات تاريخية منها أن روما هي التي أسقطت قرطاج وأن أسقف قرطاج القديس سان أوغستين كان من كبار المصلحين في الإمبراطورية الرومانية ومجددا في الديانة المسيحية. ناهيك عن أن الأراضي التونسية هي أكثر خصوبة من نظيرتها الليبية في العمل الفلاحي الأمر الذي أوجد جالية إيطالية كبيرة في ربوع الخضراء كانت تدفع حكومتها باتجاه احتلال تونس لتأمين مصالحها وزيادة من نفوذها.

لكن إصرار فرنسا على احتلال تونس سنة 1881 لتأمين الحدود الشرقية لمستعمرتها الأساسية، الجزائر، التي رابط بها الفرنسيون منذ سنة 1830، جعل الايطاليين يقبلون باحتلال ليبيا على مضض دون أن تتحول أبصارهم عن تونس وعن جاليتهم الكبيرة المقيمة هناك. ولم يهنأ الإيطاليون بثروات ليبيا البترولية المكتشفة لاحقا باعتبار أن هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية عجلت بخسارتهم لمستعمراتهم ومنها ليبيا، وهو ما يعتقد الايطاليون أنه ظلم تاريخي لهم وقد حان الوقت الآن للعودة إلى ليبيا لافتكاك ما انتزع منهم غصبا بعد هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية.

فرصة تاريخية

ولعل هذا ما يفسر الغضب الايطالي المبالغ فيه أحيانا من فرنسا كلما سعت الأخيرة إلى خطف الأضواء في الملف الليبي، إذ تنتفض طبقتها السياسية وإعلامها خشية من تكرار الماضي والخروج من هذا “المحفل” الاستعماري بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها. فالفرصة المتاحة اليوم لايطاليا للاستئثار بنصيب هام من ثروات ليبيا قد لا تتكرر مستقبلا خاصة وأن القوى الأنغلوسكسونية تقف في صف روما وتدعمها وتدفع بها قدما لإيجاد الحل الذي يكفل التمتع بالثروة في أفضل الظروف.

ولعل دعوة ايطاليا لخليفة حفتر لحضور مؤتمر باليرمو الأخير يقيم الدليل على أن روما ترغب في مد نفوذها شرقا حيث برلمان طبرق، ولا تكتفي بموالاة حكومة الوفاق والمجلس الرئاسي في طرابلس. فحفتر الذي لم يلب دعوة الايطاليين وساهم غيابه في فشل مؤتمر باليرمو يمثل حجر زاوية في المعادلة الليبية بإمكان الايطاليين في حال نجاحهم في استقطابه أن يحققوا كسبا ميدانيا وسياسيا على حساب خصومهم ومنافسيهم في ليبيا التي يتأجل فيها الحل إلى حين اتفاق ايطاليا وحلفائها مع خصومهم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    هناك خلل
    اذا كان “السراج” رجل روما و كانت ايطاليا وكيل امريكا كما يقول الكاتب فمن يقف وراء “حفتر”؟ او هل من يقف وراء حفتر هو فرنسا منافس او معارض لامريكا و بريطانيا و ايطاليا؟…
    الواضح ان من يدعم “حفتر” هما مصر و الامارات. فهل هاتان الدولتان تعملان مع فرنسا ضد مصالح امريكا؟

اشترك في قائمتنا البريدية