سمعت قصيدة «وتريات ليلية» للمرة الأولى عندما أتى مظفر النواب ليزور جدي عبدالكريم الضحاك الخارج من سجون حافظ الأسد، اجتمعت العائلة حول الشاعر لتسمع الشعر، وبكت جدتي التي تنتمي إلى عائلة سنية حين قال «أنبيك عليا لو جئت اليوم لحاربك الداعون إليك وسموك شيوعيا». كنت صغيرة ولم أفهم معنى القصيدة ولم أعرف من هو علي الذي في القصيدة ولا سبب البكاء، لكن ظننتها تبكي ابنها المغترب للعمل في حفر الآبار في ليبيا وسألتها: تبكين على عمي علي يا تيتي؟ فقالت: والله أبكي على الكل.
صداقة عتيقة ربطت جدي ومظفر النواب، منذ أن كان جدي مديرا للمركز الثقافي في مدينة سلمية في السبعينيات، حين وجه دعوة للنواب لإقامة أمسية شعرية فأتى وقرأ لأول مرة على المنبر قصيدته الشهيرة (وتريات ليلية) ومن تلك المدينة انتشرت القصيدة، وكان تفاعل الناس في سلمية مذهلا مع النص، لدرجة أن الشاعر الحساس نزيه أبو عفش اتهم أهل المدينة برداءة الذوق الشعري والطائفية، لأنهم صفقوا للشاعر الشيعي مظفر النواب أكثر مما صفقوا له! هل حقا تحيلنا قصيدة الوتريات إلى إسقاط طائفي له علاقة مباشرة بالموروث الإسلامي الشيعي؟ يحيلنا تساؤل كهذا إلى سؤال مرح: هل كان علي بن أبي طالب شيعياً؟
هل حقا تحيلنا قصيدة الوتريات إلى إسقاط طائفي له علاقة مباشرة بالموروث الإسلامي الشيعي؟ يحيلنا تساؤل كهذا إلى سؤال مرح: هل كان علي بن أبي طالب شيعياً؟
شعرت بمرارة حقيقية وأنا أقرأ مقال أحمد برقاوي المنشور في مجلة «نزوى» العدد 92 قبل عام من الآن ويحمل عنوان «مظفر النواب والمكبوت الطائفي في وتريات ليلية» لما لبرقاوي من مكانة في قلوب طلابه وقلوب قرائه وقلبي أنا شخصيا، فلم أتوقع منه أن يأخذ قصيدة كالوتريات باتجاه ضيق لا يتناسب معها، وأقول ذلك ليس دفاعا عن مظفر ولا عن قصيدته، إنما دفاع عن حق الشعراء باستخدام التاريخ وتقمصه بما يخدم النص الشعري وبناءه الدرامي، والفكرة التي يحملها! على كل حال أعتذر من أحمد برقاوي لتأخري في قراءة المقال عاما كاملا، ولا أدري كيف غاب عني، راجية أن يتقبل تعليقي الذي كتبته وأنا أقول لنفسي ربما بعد مضي عام قد يكون قلبه قلّب القصيدة وأنصفها. وفي محاولة متواضعة مني لأنصف القصيدة سألت نفسي: ما الذي أراد النواب قوله؟
لقد أراد الانتصار لحق الإنسان العربي في استرداد قيمته الإنسانية أمام الظلم والقهر والقمع، وجميعنا نعرف مرحلة الانكسار التي حاصرت مظفر، وحاصرت كل إنسان عربي في الفترة التي كُتبت فيها القصيدة، وللأسف تتابعت الانكسارات والخسارات أمام الاحتلال والاستبداد واستمر سحق هويتنا الإنسانية!
وفي حال لم نكن نتفق مع مسميات مثل الإنسان العربي والقضية العربية، فهذا لا يعطي مبررا لنتهم مظفر بما ليس فيه.. والأجدى أن نسأل أنفسنا بعقل وقلب منفتحين: لماذا اختار عليا ورأس الحسين؟ في الموروث الإسلامي الحاضر تمثل شخصية علي بن أبي طالب شخصية صارمة وحكيمة، ترمز إلى التشبث بالمبادئ ولو كان ذلك سيكلف الخسارة، وهذه الشخصية محبوبة عند الجهتين سنة وشيعة، وهي شخصية مكرسة حاضرة في مخيالنا الجمعي. كذلك الحسين رمز الضحية، ضحية ظلم وجور الحاكم الخارج عن المبادئ الإسلامية. وفي التاريخ الإنساني الخاص بمنطقتنا، بكت البشرية طويلا على ثلاثة وهم: الإله تموز والمسيح والحسين، وقد استخدم الشعراء الكثير من الرموز والدلالات المتعلقة بالقصص الثلاث ليخدموا إسقاطات نصوصهم الشعرية والقارئ يحمل على عاتقه كيفية تلقيه وفهمه لرسالة النص. فمثلا: هل يعقل أن نتهم الشاعر محمد الماغوط بالطائفية لمجرد اتكائه على الحسين كرمز في قصيدته الحفيد الأزرق، إذْ أطلق اسم الحسين على بردى الذي تحول في زمن القمع من نهر إلى مستنقع محاكيا سيرة السوريين فيقول: «بردى.. أيها الحسين المتناثر هنا وهناك سأستردك من النوافير والصنابير والأقداح وقدور الحساء في المطابخ ومطرات الجنود في المعارك وغرف الإغماء والإنعاش في السجون والمستشفيات، لأرد لك اعتبارك على طريقتي، وكما يريد شوقي والأخطل ونزار وسعيد عقل لا أصحاب وزبائن المرابع والزرائب الليلية! ولن أحرمك من هذا الزهو أبداً… ولكن كيف أمددك لتأخذ راحتك وفي أي اتجاه سيكون رأسك المعشوشب الجميل؟ على صدرها؟ أم على قدميها؟».
هل يعقل أن نتهم الشاعر محمد الماغوط بالطائفية لمجرد اتكائه على الحسين كرمز في قصيدته الحفيد الأزرق، إذْ أطلق اسم الحسين على بردى الذي تحول في زمن القمع من نهر إلى مستنقع محاكيا سيرة السوريين.
يريد الماغوط أن يعيد للإنسان/النهر قيمته الجمالية كما كانت في متخيل الشعراء، بعيدا عن الابتذال الذي تفرضه الأنظمة المستبدة على الناس، يريد أن يعود بالإنسان إلى إنسانيته بدون قهر وفقر وحروب واضطهاد وقمع، ولا أظن أن استخدام الحسين كرمز يدل على الطائفية، فالحسين رمز التضحية والضحية والألم في المخيال الإسلامي. ثم إن هذا هو تاريخنا وهذه الأحداث وقعت وأن يتكئ شاعر على حدث تاريخي أو رمز تاريخي في سبيل فكرة إنسانية نبيلة، فذلك لا يعيبه أو يعيب نصه، ثم إن تاريخنا الشعري يزخر باقتباسات كهذه، فمثلا هل يمكننا اتهام أمل دنقل بالعصبية القبلية والتخلف والعقلية الثأرية لمجرد أنه استخدم قصة حرب البسوس وثأر الزير لمقتل أخيه كليب مطالبا إياه بعدم التنازل في قصيدته (لا تُصالح) كإسقاط على حال الإنسان الفلسطيني، الذي احتُلت أرضه وطُرد منها، وهل هذا الإسقاط محصور بالفلسطينيين؟ أم أنه يلامس السوريين الذين هجّرهم النظام السوري قسرا من وطنهم؟
وحين كتب محمود درويش في قصيدته خطب الديكتاتور الموزونة، خطاب النساء: «وإن النساء على كل معصيـة قادرات وإن النساء حبيباتنا، ضربن على سحرهن الحجاب فشب الدبيب بأجسادهن، وضاجعن أول مفتاح باب وأول قط، وأول ساعي بريد، وأول كتاب هذا الخطاب وبرأن عائشةً من ظنون عليٍ، ولكن تأوهن بعد العتاب.. أصحراء حول الحميراء، مطلع ليل، وشاب وكيف تحرش ملح بثوب الحرير الأخير.. وذاب؟ ضربن على سحرهن الحجاب ولكن هذا الذي لا يُرى قد رأى واستجاب فهل تتغطى العواصف يوما بشال السحاب؟».
كتب درويش في إشارة واضحة إلى حادثة الإفك التي اتهمت فيها عائشة بنت أبي بكر بالزنى في تلميحات واضحة إلى عدم براءتها! طبعا إذا اتبعنا طريقة برقاوي في تحليل النص سنستنتج أن محمود درويش شيعي، تولّد قم ، أو سنعفيه من التهمة لأنه ولد لأسرة سنية! لكن بالتأكيد درويش، وفي سياق القصيدة كان يريد أن يشير إلى كون المرأة منذ البدء متهمة ومدانة في مجتمعنا وفي عقلنا الجمعي الذكوري، واتكأ على هذا الاقتباس.
لقد سجن مظفر النواب في إيران وعُذب وكاد أن يُقتل.. حاربته أنظمة الاستبداد فــي الوطــن العـــربي، وعاش هاربا طوال عمــره وحين طالب بالحرية والعدالة الإنسانية، فإنه طالــب بها للناس جميعا وليس ضمن تقسيم ديني أو طائفي.
أمثلة الإسقاطات والاستخدامات الشعرية للتاريخ لا تنتهي، فالشاعر ابن بيئته ومجتمعه، والشاعر العربي يحمل على كاهله أعباء كثيرة كالفقر والقهر والقمع وأيضا ذلك التاريخ المقدس الذي لايزال إلى الآن متحكما في كل تفاصيل حياتنا، وعلى الشاعر أن يجيد مناورة التاريخ، وأن يستفيد من سياق أحداثه ويوظفها بدون المساس بمشاعر الناس، فالشاعر يمكنه أن يقدم للناس المتعة وطريقة جديدة لقراءة الأشياء، وأعتقد أن مظفر النواب استطاع ذلك فقد وظف أحداثا وشخصيات درامية تاريخية بما يقتضيه نصه الشعري، وذلك الإسقاط يتجاوز الزمان والمكان، فحين يقول «هذا رأس الثورة يحمل في طبق في قصر يزيد» لا يمكن أن أتذكر سوى الألم الذي عاناه الشعب السوري خلال ثماني سنوات من ثورته في مواجهة عسف الطاغية القابع في قصر المهاجرين. ثم لماذا يمكن للشعراء أن يستندوا إلى قصص تاريخية وقصص من الموروث الديني المسيحي أو اليهودي، لكن حين يكون الأمر متعلقا بإسقاط يقارب الجانب الديني الإسلامي يصبح الموضوع محرما. ألا يتحمل القارئ مسؤولية تحميل نص الشاعر دلالات طائفية عبر قراءة سطحية وأفكار مسبقة؟ هل كان مظفر يهلل لإيران التي تحتل الأهواز؟ لو كان كذلك لما قال إنه نسي على أبواب الأهواز عينيه وإن النخلة أرض عربية.. وعربية هنا ليست أيضا من باب قومي أو عرقي، إنما من باب أحقية أهل الأرض الأهوازية بها، وحق استعادتها من المحتل الإيراني.. لقد سجن مظفر النواب في إيران وعُذب وكاد أن يُقتل.. حاربته أنظمة الاستبداد فــي الوطــن العـــربي، وعاش هاربا طوال عمــره وحين طالب بالحرية والعدالة الإنسانية، فإنه طالــب بها للناس جميعا وليس ضمن تقسيم ديني أو طائفي، لذا عندما تقدم شخصية في قامة برقـــاوي نقــــدا ينســف روح القصـــيدة ومعــــناها ويأخـــذ منحى الصراع الذي تُبذل الآن الجهود لتقديمـــه وتكـــريســه وإعـــلائه، وهو الصراع السني- الشيعي ، فذلك سيكون محبطا للغاية، لأن القامات الثقافية التي نعتز بها هي أول من يجب أن يقف في وجه تسويق صراع كهذا، والتاريخ سيسجل وسيتذكر كل شيء والأبقى هو ما يُكرس لخدمة الإنسانية والتفكير الحر الذي يسعى للحد من استخدام الدين في التحكم في مصائر الشعوب، التفكير الحر الإنساني الذي يجعل الدين حكاية وقيمة جمالية تمر في القصيدة لتمتع القارئ.
٭ شاعرة سورية
حب الوصي وفاطم الزهراء
وهوى الحسين وصنوه بدمائي
اناعشت سنيا ولكني أرى:
أن التشيع من صميم وفاء
طوبى لرأيكِ الحر، ولجرأة قلمك في كشف خفايا النفوس العليلة بالطائفية والمغرمة بتشويه كل ما هو ناصع ونبيل.. لو كان مظفر النوّاب طائفياً.. لصفَّق لحكومة خضراء الدمن، إنه بكل بساطة كائن حر لا ينتمي إلاّ إلى الإنسان الذي دمرته الحكومات البذيئة.. سلاما لك لينة عطفة.. ولبياض فكرك وقلبك..
المناضل العظيم مظفر النواب ،خرج متثاقلا بين رجلين ،بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ليدلي بصوته في الانتخابات ،الطائفية المباركة من السيستاني ومن بريمر ،ويأتي من يقول لك ان مظفر كان وطنيا وليس طائفيا شيعيا ،العلمانيه (الشيعية )هي معاداة أهل السنه ،وعندما هاجم مظفر ايران كان الشاه ،وبعد الشاه لم يهاجم ايران
يبدو أن دفاع السيدة لينة صادر عن عاطفة خاصة تجاه الشاعر ، واتخذ في بعض التعليقات بعدا طائفيا ، وأنا أريد أن أقول رأيي الفني البسيط الصادر عن ملكة التذوق في شعر النواب بعيدا عن التعصب .
شعر مظفر رحمه الله معظمه مصوغ بلغة نثرية خطابية حماسية وبعض ألفاظه تميل إلى السوقية والبذاءة ، وهو أقرب للمانشيتات والشعارات السياسية المرفوعة في المسيرات والمظاهرات الجماهيرية التي يختلط فيها العقلاء مع الرعاع.
هذا الشعر كان ظاهرة صوتية مزعجة للحكام وأهل السياسة ، ومدغدغة لعواطف البسطاء والغوغاء ، ولم تستفد اللغة العربية منه شيئا يذكر لا على مستوى المعجم ولا الإيقاع ولا التصوير ولا على مستوى البنية العامة للقصيدة.
وليعذرني محبو الشاعر مظفر النواب رحمه الله.
في الحقيقة وجدت هذا المقال اليوم بالصدفة, لست من متابعي الشعر والشعراء لكن المقال أعجبني جداً والكاتبة أو الشاعرة لينة عطفة, بينت رأي صادق في هذا المقال وعبرت فيه عن تفكير حر وتبيل, وشكرا جزيلاً لها.
نعم أتفق، كلام مقنع ولا يجوز اتهام الشاعر بالطائفية أو العنصرية لمجرد استعارته رمز محسوب على جماعته الطائفية أو الإثنية، سأضرب مثال: رئيس الوزراء الأردني الأسبق وصفي التل محبوب لدى غالبية الأردن ويعتبرونه رمزا للنزاهة والاستقامة وحب الناس، فهل يجوز اعتبار أي شاعر أردني يستخدم اسم وصفي ورمزيته لدى الناس بأنه شخص عنصري مثلا؟!
أيضا أحب أ، أضيف، ان مظفر النواب استعار شخصية جمال عبدالناصر في بعض قصائده، وعبدالناصر عند الكثيرون غير محبوب ويعتبرونه رمز للقمع البوليسي، ولكن بالمقابل يرى فيه الكثيرون رمزا للقومية والنضال ضد الاستعمار، استعارة مظفر لرمزية عبدالناصر كانت واضحة، وهي رمزيته بمقارعة الاستعمار فقط وليس بطريقة الحكم البوليسية.
تخريجات منطقية وجميلة وأقرب إلى روح الشعر والشعرية، لا فض فوك أستاذة لينة؛ كيف لا وأنت “لينة” و”عطفة”.
تحية وبعد
في آخر مقطع من الوتريات الليلية وقصة وقوفه امام الغول… قال:
* واحتشد الفلاحون علي ، وبينهم كان علي وابو ذر
والاهوازي ولوممبا او جيفارا او ماركس او ماو
لا اتذكر, فالثوار لهم وجه واحد في روحي.. *
من كانت هذه فكرته وعقيدته فكيف يمكن لأي انسان عاقل ومنصف ان يتهمه بالطائفية؟؟؟!!!
مظفر النواب … لم و لن يفهمه الا من حمل آلامه …
* من لم یتقاعد کي يتفرغ للّغو سيفهم اي طقوس للسرِّيّة في لغتي …..*
مظفر النواب …وما أدراك من هو…
بكيت وبكيت وبكيت معه منذ كان عمري 17 عاما ولازلت…
“الصّوابُ ما تقول لِينَا /فقولُ لينَا صوابُ” / كمْ طُرِقَ بابٌ علينَا / و ما بالطّارقين صِحابُ !