«ليس كمثلها أنثى»: منمنمات حب على لوحات الشعر المتجدد

أهم ما يميز أسرار القصيدة العربية الحديثة، محافظتها على بنيتها الإيقاعية، من مستوى التدفق الدلالي الذي يومئ إلى فضاء فني تنداح على مساحاته صور تشفت حتى ترق وتبدو دلالاتها التناولية وهي تدفع النص إلى الارتقاء والتماسك، اللذيْن يشكلان الوحدة العضوية للقصيدة المتطورة على مستوى الشكلانية الحديثة، التي تفرض وجودها خارج معادلات الخليل الكلاسيكية، لتقدم نصوصها على إيقاع نصوص حرّة لها أفقها الخاص بها، لاسيما في زمن تحدد فيه نبض الشعر المعاصر من خلال مقولة أحد النقاد البارزين في العصر الحديث: «إنما يكون الشعر شعراً بقوة تماسكه الفني، وباتساع المدى الذي يخلفه، وبانزياح الصور المتألقة التي ينجزها، بغض النظر عن شكلانيته، وسواء كتب بالشكل الخليلي الكلاسيكي أو شعر التفعيلة أو الشعر الحر، وحتى في مناخات القصيدة العامية، ما دام يحقق أهم شروط التلقي وفي مقدمتها متعة التلقي التي تجذب متلقيها إليها انجذاب الفراشات للزهر الفوّاح».
من هذا المستوى يقدم الشاعر عاطف محمد عبد المجيد تجربته الشعرية منمنمات من البوح الإنساني في شكليْه الخليلي والمتطور الحداثي والمحافظ على إيقاعه الفني والموسيقي والتناولي وذلك من خلال ديوانه «ليس كمثلها أنثى».
بعد الإهداء الأول الذي يقول فيه: «إليك وحدك: روح روحي، كل حياتي، نبْض قصيدتي، إليك وحدك، حبيبة وحب لن يتكرر أبدًا، إليك يا … ضعي ما يحلو لك من ألقاب، تحبين أن أناديك بها، لأعطر بها فمي».

فضاء عاطفي

الإهداء الأخير الذي يقول فيه: «أسوأ حاجة، إني أكون شاعرا، وأفشل أني أكتب عنك أحلى قصيدة.. أسوأ حاجة هي غيابك، وأمّا أشتاق لك، وأتمنى أشوفك، ألاقيكي بعيدة».
نجد فسحة لثلاث قصائد من النوع الطويل نجد أنفسنا فيها في فضاء جو عاطفي رومانسي يُجسِّد العلاقة بين الشاعر كطرف أولي والمخاطبة الحبيبة هنا كطرف ثان. إلا أن اللافت في الشاعر أنه لا يدخل مباشرة في صلب قصائده الثلاث مباشرة، إنما يمهد لها ببيان شعري يضعه أمام محبوبته ويشمل البيان أربعة نصوص: في النص الأول الذي لم يحمل عنواناً أو رقماً، يوضح من خلاله أن هذه النصوص ليست مجرد نصوص، إنها برديات تخلد ما بينهما لحظة بلحظة، إنها نبضات قلبه التي تسكنها، وكلما جاءها نص منها قالت: يكفيني أنه من قلبك إلى قلبي.
العتبة الثانية وهي قصيدة من الشعر العامي يستعرض من خلالها العلاقة التبادلية بين أنا الشاعر ومحبوبته وفيها يقول: «والله حبيبي ساعات/ بتحصل ما بينا حاجات/ لازم تتحنط/ لازم تتخلد على طول/ تتحط في متحف للناس/ يشوفوها، يقولوا مش معقول». إلى آخر هذه القصيدة التي اختار لها المبدع فضاء العامية ليقدم للحبيبة بيان حبه.
ثم ينتقل إلى قصيدة فصحى يقول فيها:
«كم ذا أحبك يا حياة حياتي
يا ضحكة العمر الجميل وذاتي
يا بسمة تنمو على قلبي الذي
يهواك في ما قد مضى والآتي
أنت التي دونها ألقى الردى
وتروح تغرق في الضنا ساعاتي
وإذا أتاني الموت قلت: حبيبتي
وشهدت أنك راحتي/ جناتي»
من الملاحظ الارتباك في النص الذي قيد الشاعر نفسه في قوانين الخليلي وعروضه وقوافيه لينتقل بعد ذلك إلى نهاية بيانه وفيه يقول:
« قلبك الذي أحبّه
اجعليه يكرهه بشدة
الأمر ليس صعباً
ولا مستحيلاً كما تتصورين
عليك فقط تدريبه على ذلك
حتى العواطف يمكن ترويضها»
أربع عتبات تناوبت بين النثرية وقصيدة العامية وقصيدة الفصحي، جمعها كبيان قدمه لمن يحب ضم كل ما يعتمل في قلبه من حب، حتى انتهي البيان بطلب غريب وهو أن تجعل قلبها الذي أحبه يكرهه بشدة، إنه فعل وانفعال الشاعر المتوتر الأعصاب والأحاسيس في الوقت نفسه.

مشهدية النص

ينتقل بعد ذلك إلى قصائد الديوان الثلاث وبعد مفتتح القصيدة الأولى الذي جاء فيه.
«ها أنا أرجوك، أن تظلي على أملك في بقائنا معاً، إلى الأبد
فأنا أحمق وربما أغتال ما بيننا في لحظة واحدة، بغباء شديد.
ليدخل في مشهدية النصّ التي تمتد على 56 مقطعاً شعرياً من الشعر الحر، يظهر من خلالها أجواء العلاقة التبادلية بينه وبين الحبيبة، ومن الملاحظ أن المقاطع يتفاوت عدد أسطرها بين سطْرين وواحد وستين سطراً، مقسمة إلى مقاطع، يقول في المقطع السابع متحسراً متألماً:
«هل أخبروك، أنني اكتشفت تعريفاً جديداً للموت؟
الموت تحديداً هو غيابك يا حبيبتي»
وتتوإلى المقاطع متداخلة مع قلبه وقلبها وذكرياتهما وما أصابهما من الألم ويبقى مُصراً على حبه لها رغم أن كل اللغات تكره بشدة هذا الحب.
«هل تعرفيْن يا حبيبتي
أن كل اللغات تكره وبشدة حبي لك بعد أن عجزت كلٌ مفرداتها عن التعبير عنه كما يليق به؟».
وينكر على الزمان عبوسه في وجهه، الذي لا يجود عليه حتى بابتسامة واحدة، وهي الآن تبدو لعينيه أسرع من الضوء، وبسرعة أقوى تختفى مخلّفة طيفاً من عذاب.
«أسرع من الضوء/تظهرين أمامي/وبسرعة أكثر تختفين/يا له من عذاب.
ويتساءل: ترى.. ما ذنب وردة تحيط بها الأشواك من كل اتجاه.
ويقرر: «اليوم سأغلق كل أبوابي ونوافذي/فقط سأبقي نافذة وحيدة مفتوحة/سأبقي نافذتي التي أطلُّ منها عليك/عليك أنت وحدك يا حبيبتي»
ويتساءل عن ذنبه إن كان هو ذنب حبيبته التي تركها منذ ثلاثين عاماً، يوم تركته لتتزوج بعد تخرجها مباشرة، لكن ما ذنبه هو، وما الذي قصر فيه حتى تعاقبه، ويناجي ربه قائلاً:
«يا رب أنت تعلم أنه أحبّها/بكل صدق يومها/أنه كان يرغب في أن تكون له فقط/ غير أن قلة حيلته حينها/ولا ذنب له في ذلك أيضاً/وأشياء أخرى/أدت به إلى ما حدث»

عاطف محمد عبد المجيد

ويستمر في تداعياته وهو ينسج خيوط قصة ما بين صد ورد، وقبول ورفض، وحب وخيانة، رابطاً علاقة حبه بالشعر والشعراء الذين عاشوا أزمنة وهم يظنون أن هناك وحياً للشعر يهبط عليهم من السماء، وأن هناك ملهمات كثيرات، ويعترف أنه لا توجد سوى ملهمة واحدة: «الحقيقة أن هناك ملهمة واحدة ووحيدة في هذا الوجود، هي أنت يا حبيبتي ، ولهذا يغيب الشعر حين تغيبين، بل حين تغيبين تموت الحياة وتنعدم رغبتي في كل الأشياء»
ويعترف لها أنه لم يفتح قلبه لامرأة غيرها، فهي الأنثى الوحيدة له في هذا الوجود، ويتساءل: ماذا يفعل من أجلها الآن وقد فاض قلبه حباً لها «لم تعد بي نقطة دم واحدة إلا وتنبض بحبك – ألا تعرفين أن قلبي لم يعد مثلما كان/ لقد تمدد واستطال ملايين المرات حتى يتسع لحبك الذي ليس كمثله حب/هل تدركين الآن يا روح الروح كم أحبك». ويرى نفسه أنه ضعيف أمامها وينهي النص بظنٍ يراوده.
«أظنني سأتخلى عني قريبا كي أبحث عن شبيه لي/أو لا شبيه/لا فرق إذن/كلُ ما في الأمر/أنني أريد أن أنساني/ولو قليلاً».
في النص الثاني وبعد المفتتح الذي يقول فيه: «نحن دائماً هنا وهنا سنبقى، سنبقي معاً كواحد لا كنصفين، نرى الشاعر وقد وزع قصيدته على واحد وثلاثين مقطعاً بدأها بالمقطع الأول الذي قال فيه:
«يده التي قبلتها حبيبته ذات يوم/سيقطعها/ليضعها في متحف/ليرى زائروه أثر قبلتها عليه»

نصوص متوترة

ويتابع تداعياته بعد أن غادرته فيجعل من كتفه التي نامت عليه ضريح ولي/ومن شفتيه اللتين منحتاها قبلة حنون/سيصنع منهما بئرا عسل مصفى/وبالمقابل فإنه يعترف أنه ليس ملاكاً وليس شيطاناً أو سيئاً للغاية، فقط يعيش حياته كما يروق له، ولم يبق أمامه سوى أن يقاسي آلام غيابها وجروح الانتظار.
ولما يضيق بمساحة الترجي يطلب من الله أن يجعلها له نصف ساعة واحدة، ويَعده ألا يدمر الكون، ويعود ليتساءل:
«لماذا أيها الحلم/كلما فكرت فيك/أفقدتني وعيي»
«فأنى لقلب نابض بالحب الصادق يرى بريق عينيك، ثم لا يذوب حبهما عشقاً» ويتابع مسردا عواطفه وتعلقه بها وبكل ما له صلة بها فهي وحدها التي تسكن دواخله، «وبوصلتي لا تتجه إلا لجهة واحدة، ويصرّ على أنه «سأبقي أحبك حتى رحيلي، سأبقي أحبك وعدا عليّ، وإن قلت يوماً: دعيني وشأني، كأني أقول: تعالي إليّ»
ويصل بعواطفه إلى نهاية المقطع الأخير من القصيدة وفيه يقول وقد دخل فضاء العامية، دون مبرر لذلك: «وأنتي معايا هعوز إيه تاني؟ يا لجمال الحياة وانتي سكناتي.
في النص الثالث وبعد مفتتحه الذي يقول فيه: «دمت حبيبتي/دمْت قلبي/لا في قلبي/دمْت أنت أنا/أنا أنت دائماً»
يوزع نصه على ستة وعشرين متوالية سردية، وكأنه يروي من خلالها قصة نثرية عادية بعيدة كل البعد عن آفاق الشعر حتى الحر، ليبقي السرد القصصي هو المسيطر على حالة النفس المُحبة وإحالة إلى الحبيبة الغائبة وهو يروي تفاصيل من حياتهما.
إنها قصة حب متوترة بين طرفين كان الطرف الأول عاشقاً من زمن العشاق الرومانسيين، بينما كان الطرف الآخر وهو المطلوب، وعلى الرغم مما أبداه من حب فإنها تركته لتذهب مع رجل آخر ليعيش لوعة الحرمان ولدغة الشوق الذي لم تكن تهدئه غير الرسائل المتبادلة بينهما.
هذه القصة الرومانسية توزعت على ثلاثة نصوص سبقتها إهداءات وبيان من أربعة مقاطع كان فيها النثري العادي وقصيدة التفعيلة وقصيدة واحدة من الشعر الخليلي.
ولعل من أهم ما يميز نصوص الديوان:
1- إطالة النصوص بشكل لافت على الرغم من تقسيم كل نص إلى عدد من المقاطع، إلا أن هذه الإطالة كثيراً ما كانت تخنق الصور الشعرية، وتخفي الألق فيها لاعتمادها النثرية العادية، ومن المعروف أنه كلما طال النص، فقد كثيراً من فنيات النص وارتقائه.
2- مزج العامية بالفصحى خلال النص عامة وخلال المقطع خاصة، ومثل هذا المزج يسيء إلى المقطع لأنه يقطع استمتاع متلقيه لدخوله وبشكل مفاجئ في ملفوظات من الشعر العامي الذي لم يكن ذهنه قد استعد لقبولها.
3- طغيان النثرية التي لا تخلو من أفق شعري حاضن لكثير من الصور البسيطة والمركبة متصاحبة مع إيقاع موسيقى داخلية تنبض بها بعض المقاطع بحرارة زائدة حتى تبرق من حواشيها أشعة ألق الإيماض في المشهد.
4- إذا ما جمعت النصوص الثلاثة إلى بعضها نحصل على قصة قصيرة تحمْل عتبات الحب بكل أفيائه الحب، الهجر، التعلق، البعد، الوفاء، الخيانة، فترتمي النصوص في فضاء قص سردي شعري جميل وممتع.
وهذا ما يوصلنا إلى أن كل ما اشتغل الشاعر عليه في ديوانه تتلبسه حالة وجد فني ونفسي وإبداعي، وهو يسهم في تقديم نصوص تكاد تكون خاصة بمبدعها الذي يخترق النص الشعري الحداثي، كاشفاً عن أسراره وهو يكتب النماذج الأرقى للقصيدة الحديثة: النثرية، العامية، الفصحى، وهي تسعى لأن تجد مكاناً لائقا به وبها في الحراك الشعري المصري والعربي المعاصر.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية