«ليلة افريقية»: قضايا الإنسان وهواجس الهوية

خلال تاريخها الموغل في القدم عانت افريقيا وما تزال من سوء فهم كبير، امتد لزمن طويل، ولا يزال مفعوله ساريا إلى اليوم، فلم ينعكس بشكل مباشر على نظرة أبنائها إليها فحسب، بل طال نظرة الآخر الغريب عنها كذلك، فكوّن نتيجة لذلك صورة نمطية لهذه القارة المغلوبة على أمرها، التي تعاني الأمرين من أجل الانفلات من شرنقة هذا الوضع البائس، ولا تزيدها مقاومتها له سوى انغماس في وضع مربك ومرتبك، وهو يزداد – للأسف – سوءا بمرور الزمن، ويبدو أن هذا الأمر سيستمر في المستقبل كذلك، فليست هناك مؤشرات تدل على أنه وضع سينتهي قريبا، فهذه الـ»افريقيا» رغم أنها مهد الإنسان الأول، ومنطلق لتشكل مجتمعاته الجنينية الأولى، فقد تعامل معها العالم بغير قليل من اللامبالاة أحيانا، وبكثير من الاستغلال أحيانا أخرى، فلا يخفى على أحد أن الأرض نهبت والإنسان استعبد، بشكل لا أظن البشرية عرفت له نظيرا عبر التاريخ.
وإذا كانت هذه القسوة والمعاناة التي كابدتها افريقيا من الآخر القادم إليها من وراء البحار، في ظاهرة ما يعرف تاريخيا بمرحلة الاستعمار، أو الحملة الإمبريالية، التي تورطت فيها الدول الغربية، كل بمقدار، حسب قوة كل دولة وطموحاتها، قد تجد لها من وما يبررها، فإن القسوة أتت كذلك من أبنائها، بشكل لا يمكن أن يستسيغه إنسان عاقل، والحديث هنا عن شعوب هي جزء لا يتجزأ من هذه القارة أرضا وتاريخا، وأقصد تحديدا بلدان تنتمي إلى شمال القارة.
ولعل بابا من أبواب هذا التعامل المتسم بالقسوة وسوء الفهم يتجلى في عدم انتباه مبدعي هذه المنطقة لمواضيع القارة السمراء، فقلما نجد نصا يتناول قضية من قضاياها، شعرا أو قصة أو رواية، ويطال الأمر كذلك باقي الفنون كالسينما والمسرح وغيرهما.
إن دول المغرب العربي مثلا بشعوبها التي امتزجت مكونات هويتها لتعطينا خليطا متجانسا، لا يمكنها ويجب عليها أن لا تتجاهل المكون الافريقي في هويتها، فهي تنتمي جغرافيا إلى افريقيا، ويعد مكونها البشري امتدادا طبيعيا لشعوبها.
هذه بعض من الهواجس والتأملات والقضايا التي هيمنت على تفكيري لحظة كتابة رواية «ليلة افريقية» وازدادت الذات حساسية عند اختيار بطلة لها كريستينا الفتاة الكاميرونية، التي قدمت إلى المغرب من أجل الدراسة، فصادفت في طريقها الكاتب المغربي يحيى البيضاوي، حين جمع بينهما القطار، وهما في طريقهما إلى مدينة فاس، هو من أجل المشاركة في ملتقى للرواية، وهي من أجل المشاركة في مهرجان للفلكلور الافريقي، يقام في تلك المدينة لجمع شتات المهاجرين ولتقريب الشعب المغربي من ثقافتهم الغنية.
تجاذب يحيى وكريستينا أطراف الحديث، وبثت الفتاة الكاميرونية ليحيى البيضاوي بعضا من همومها في هذا البلد، الذي جاءت إليه محملة بكثير من الأمل، باعتباره بلدا افريقيا، فإذا بها تجد نفسها وجها لوجه تجاه بعض المعاملة القاسية من قبل الناس، فإن كان الموقف الرسمي إيجابيا تجاه المهاجرين من خلال فتحه الأبواب للأفارقة، سواء منهم الذين يأتون للإقامة أو الدراسة، أو أولئك الذين يجعلون منه قنطرة عبور نحو الفردوس الأوروبي الموعود والموهوم كذلك، فإن الناس ما زالوا ينظرون بعين الاحتقار لأصحاب البشرة السوداء، وقد عانت من ذلك كريستينا، من خلال مواقف إنسانية قوية، كان يحيى البيضاوي شاهدا على إحداها داخل إحدى المقطورات التي ضمته وإياها وبعضا من بشر.
تقول الناقدة نجية جنة في هذا الصدد «إن أحداث الرواية ستأخذ منحى آخر، خصوصا بعد تلقي الكاتب دعوة لحضور أحد الملتقيات الأدبية في مدينة فاس، لتجد القارئ يخوض عوالم جديدة مع الشخصية، في القطار، حيث يلتقي بكريستينا الطالبة الافريقية، ومن خلال تحاورهما سيتحدث الكاتب عن معاناة الافارقة في المغرب، وعن نظرة الناس الدونية لهم، كما أنه سيظهر للقارئ الوجة والطبع الجميلين للافريقي بالمقارنة مع المسافرة التي لم تراع قوانين النظافة في المقصورة وهي فتاة مزهوة بنفسها، كانت تنظر إلى الفتاة الافريقية بين الفينة والأخرى، في نظرتها كثير من الاحتقار لها، وكأنها كائن مسخ يوجد بيننا.. لاحظت ذلك، فشجعني على إعادة الاعتبار للفتاة الافريقية.. كانت الفتاة تتناول وجبتها بكثير من الأناقة.. كانت جلدتها لامعة، وعيناها جميلتين، فيما شعرها مشكل بضفائر صغيرة ومتشابكة، كان لها سحر أميرة افريقية.. جين اكتفت من الطعام، أخرجت من حقيبتها منديلا صغيرا، مسحت يديها وفمها، ثم تناولت قنينة ماء.. كان في حركاتها شيء ما تملك على لبي».
يعطينا الكاتب صورا حية بكل تفاصيلها، بحيث يقدم لنا صورة جميلة عن الافريقي الراقي، بأوصاف وأدب راقيين بعكس ما يظنه الناس، «اقتنت الفتاة المزهوة بنفسها كيسا يحتوي على لمجة خفيفة، التهمتها بسرعة، وحين أجهزت على طعامها، مسحت يديها بالكيس الورقي، وأمام استغرابنا رمت الكيس بدون خجل على أرضية المقصورة «. هنا يتكلم على أسلوب بعض الناس وعدم احترامهم لقوانين النظافة، رغم ادعائهم التطور والعصرنة».
وهنا في الحقيقة وضعنا الكاتب أمام مفارقة، تجعلنا ننظر بعين الريبة والازدراء إلى الفتاة التي أهانت كريستينا، بينما نجل ونقدر تصرف هذه الأخيرة وسلوكها.

إنها رواية بقدر ما تعكس أوجاعا إنسانية في شموليتها تبرز بقوة إجهاض الحلم للعودة إلى الحياة وقد تبدد الأمل الخادع وتمزق الخيط الواهن الذي سيسقط أقنعة الوهم لمواجهة واقع المرارة والغبن واليأس.

في فاس تشابكت العلاقة بين يحيى البيضاوي والشابة كريستينا، ونقل كل منهما جزءا من وجه افريقيا المشرق، كريستينا من خلال الفلكلور المحتفي بالإنسان في علاقته بأمنا افريقيا، ويحيى البيضاوي من خلال البدء في كتابة رواية مشتركة مع كاتبة مغربية أمل المغيت، ستكون كريستينا بطلتها المتخيلة، هذا المشروع الروائي الذي يمكن اعتباره رواية داخل رواية، يقدم لنا هموم افريقيا في علاقة الافريقي مع مواطنه، وفي علاقة كليهما بالإنسان الأوروبي، الذي غزا الأرض واستغلها وقسمها على هواه وتبعا لمصالحه، فترك بؤرا للتوتر أبدا لا تنتهي، يقول الناقد السوري أحمد جاسم الحسين في هذا الصدد «لم يكن إعلان الكاتب الاتفاق على كتابة رواية مشتركة أمام عيني القارئ بريئاً وعفوياً، بل جاء تقنية فنية لتوظيف ثيمة مهمة جدا من ثيمات العصر الذي نعيشه؛ وهي ثيمة الثنائيات والتخبط في تبنيها، والتحيز لمدى دقتها والضياع الذي ولدته هذه الثنائيات لدى الشباب، في شق طرقهم ونهجهم الحياتي واليومي، فالفريقان يتبنيان صراع جيلين أو بكلمة أدق رؤيتين للكتابة.
إحدى هذه الثنائيات تتبدى في رسم كل منهما لشخصية (كريستينا) في الرواية؛ أمل تتخيلها ابنة صياد افريقي يطوف في الأدغال، بينما يعترض يحيى البيضاوي على هذه الصورة بحجة أنها صورة نمطية، مستمدة من كتابات الأوروبيين التي تربط افريقيا بالعجيب والغريب.. في الوقت ذاته تقدم رؤيته هو لافريقيا صورة مغايرة، حيث الصراعات القبلية والإثنية والفقر وحاجات التنمية، والاستغلال الرهيب من أوروبا لخيراتها وجعلها دفنا لنفاياتهم». إن البطلة وإن كانت شخصية روائية من كلمات، فإنها رمز لافريقيا الشابة الجريحة، التي تحاول النهوض عبر تعلقها بالعلم والمعرفة، بخوضها لتجارب السفر من أجل تحقيق أهدافها، إلا أنها تجد دوما العراقيل التي تقف حائلة دونها ودون تحقيق ما تصبو إليه.
كريستينا تنقل لنا المعاناة المزدوجة، أو لنقل متعددة الأبعاد فمن خلال التخييل المضاعف يحكي لنا يحيى البيضاوي بعضا من حياتها في عمق افريقيا، حيث أبوه رجل كادح يسعى لكسب رزق يومه بعرق جبينه، بينما تقف في وجهه تحديات بلا حصر، تبتدئ بعنجهية أبناء وطنه، وتنتهي بمحركيهم خارج الوطن، بل خارج افريقيا كلها في بلدان ما وراء البحار. وكأنها تقول بذلك بأن مشكلتنا الحقيقية هنا داخل الوطن، وأن ضعفنا وتشرذمنا هو الذي يبيح للأجنبي استغلالنا بالشكل البشع الذي يتم به.
في هذه الرواية حاول السارد أن يقول بصوت يكاد يكون خافتا متجسدا من خلال أحداث وشخصيات، بأن افريقيا جزء لا يتجزأ منا، إنها عمقنا، مشاكلها مشاكلنا وهمومها همومنا، إن اشتكى بلد منها أو شخص تداعت له باقي البلدان والشعوب بالسهر والحمى، وأن عدونا المشترك هو العنصرية والفقر والجهل والأجنبي الغازي، الذي يسعى بدون هوادة ليديم تبعيتنا له واستغلالنا أشد استغلال، فلنتضامن ضد استغلاله لنا واحتقاره لشعوبنا.
في رواية «ليلة افريقية» تم التنويه إلى أن هويتنا في المغرب، ويطال الأمر باقي بلدان شمال افريقيا، تتكون من عدة مكونات ومن أهمها المكون الافريقي الذي يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أبدا في كل تفكير أو تحديد لذواتنا على هذه الأرض، وفي علاقتنا بالعالم أجمع. والمشكل لا يعاني منه ذوو البشرة السمراء والسوداء المهاجرون إلى البلد، ولكن يعاني منه كذلك حاملو تلك البشرة من أبناء البلد، فيكفي أن تتفرج على برامج التلفزيون، لتلاحظ غياب ذوي البشرة السوداء، أو تنظر لوجوه الوزراء والموظفين السامين لتصطدم بقسوة الغياب ودلالته..
وفي ما يمكن اعتباره مندرجا ضمن ما يسمى بالميتا رواية، أو السرد الشارح، تقدم لنا الرواية وجهتين مختلفتين حول تناول الكتاب لافريقيا، فهناك الرؤية التقليدية التي ترى في افريقيا مجرد متحف للحياة البرية، ومادة للبحث الأنثروبولجي، وهي رؤية برر بها البعض احتلال هذه المنطقة من العالم، وهناك رؤية أخرى تركز على إنسان هذه القارة، باعتباره مواطنا يعاني الأمرين من أجل كسب عيشه ومحاولته المتفاتية من أجل الانعتاق من ربقة الفقر والتهميش والاستغلال، ومن ثمة النهوض بأوضاع قارته المكبلة بأغلال الماضي والحاضر والمستقبل أحيانا، خاصة إذا علمنا بمشاريع الدول الغربية تجاه هذه القارة التي لا ترى فيها إلا مكبا لنفاياتها النووية وغير النووية.
إنها رواية بقدر ما تعكس أوجاعا إنسانية في شموليتها تبرز بقوة إجهاض الحلم للعودة إلى الحياة وقد تبدد الأمل الخادع وتمزق الخيط الواهن الذي سيسقط أقنعة الوهم لمواجهة واقع المرارة والغبن واليأس.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية