مآزق مقاربة الشِّعرِيِّ

كلما اصطدمت الممارسة النقدية بتمنع العمل الشعري، إلا وضاعفت من ثقل رصيدها النظري، حفاظا على مصداقيتها أمام قارئ دأب على الاستئناس بمعطياتها، حال شروعه في مقاربة المكونات الجمالية والفكرية التي يتميز بها العمل. وهو ما عودتنا عليه الممارسة النقدية، قديمها وحديثها، علما أن مقومات هذا الرصيد النظري، تتعدد على ضوء تعدد المرجعيات والقناعات النظرية، التي يطمئن مزاج الباحث إليها، حيث تطالعنا خلال ذلك، الأسئلة المتداولة بثنائياتها المتنوعة، من قبيل «المبنى والمعنى»، و»ظاهر النص وباطنه»، و»الشكل والمضمون»، فضلا عن مفاهيم أخرى، كالتشريح/ التحليل/ التفكيك/ أو التأويل والتفسير، التي يظل معها العمل محتفظا بممانعته، وغير معني بتلك الخرسانات النظرية المتطلعة عبثا إلى شرف الإحاطة التامة، أو النسبية بعوالمه.
وعلة ذلك، تكمن في افتقارها للحد الأدنى من الوهج الشعري، المؤهل وحده للمضي بها قدما باتجاه منبع القول. ما يعني أن هذه الممانعة ليست في واقع الأمر، سوى الترجمة الضمنية للطبيعة التركيبة، التي يتميز بها القول الشعري. ولنا أن نستحضر في هذا السياق، غير قليل من المتون النقدية، التي تستنزف طاقتها بتهافت يدعو إلى الإشفاق، في استعراض مخزونها النظري، قصد تشييدها لنسق تأويلي، على أرضية صلبة معْتَدَّة بموضوعيتها وعقلانيتها العلمية، متوخية في ذلك ما يكفي من «الاختبارات» و»المبادئ» و»المعايير»، التي تنهل من نبع آخر المنجزات المعتمدة في تحليل الخطاب، والمنفتحة على تراكمات المعارف الدقيقة! بما يعنيه ذلك من توسل لعلوم الأعصاب، والتشريح الدماغي، وفلسفة الذهن، إلى جانب المرجعيات الفلسفية القديمة والحديثة، خاصة منها الموروث الفيثاغوري، دون إغفال فتوحات العلوم اللسانية والأنثروبولوجية الأكثر حضورا في أكاديميات مشارق الأرض ومغاربها، حيث تصبح المقاربة النقدية – بفعل جسامة المهمة المنوطة بها – شبيهة بعملية إنزال نظري معقد ومتعدد الاختصاصات والاهتمامات، في قارة مجهولة، هي حتما رأس الشاعر.

غير أن حالة الإحباط لا تلبث أن تطال توقع القارئ المختص، حالما يتأكد أن الغاية الفعلية من هذا الإنزال المبالغ فيه، هي إثبات القدرة على الإحاطة بتفاصيل وحيثيات الإطار النظري، بدل صرفها في تحيين وبلورة المكونات الشعرية التي يتميز بها العمل. واللافت للاهتمام أن هذا الضرب من المقاربات، يحظى بأعلى درجات التبجيل والتنويه، حيث يتم تصنيفه ضمن الكرامات النقدية المباركة، بتزكية الأتباع والمريدين، فيما تظل شعرية العمل حريصة على إبداء تمنعها، وتكريس احتجابها عن الرؤية، وهو إشكال ينبغي وضعه في مركز الاهتمام المعرفي، بالنظر لما يطاله من مغالطات وتواطؤات، من شأنها تضليل القارئ، والدفع به في مسالك لا تفضي لغير لغوها. ولعل الأصل في هذا الإخفاق البحثي، هو انتفاء القدرة الذاتية الكفيلة باستكناه الجوهر الخيميائي، الذي تشتغل به اللغة الشعرية، بما يعنيه ذلك من غياب ملموس لتلقائية العلاقة، التي تصل الذات القارئة بجوهر اللغة الشعرية. وهي بالمناسبة علاقة مغرقة في خصوصيتها، حيث لا يتيسر امتلاكها لغير الراسخين في الإنصات إلى حواريات النمل، الهادرة هناك داخل الأغوار السحيقة من أرض اللغة/الكتابة. والمقصود بالعلاقة المغرقة في خصوصيتها، هو كون التواصل مع اللغة الشعرية، يقتضي من القراءة امتلاكها لشحنات عالية من الحدوسات الرؤيوية، التي تسير المعارف طائعة في ركابها، وليس العكس، الشيء الذي يتعذر فهمه واستيعابه على الذهنية الرياضية المعززة بخرسانة التأطير العقلي، كي يظل التمثل الجوهري للشعر في نهاية المطاف، وقفا على ذويه، أي تلك الصفوة المختارة الواعية بجدوى وأسرار انفتاح الذات على الدلالات المشعة من أشياء العالم، بما هو استبعاد لسلطة الإكراهات الظرفية التي تصيبها بالعمى، وتحول بينها وبين إمكانية تفقدها للعناصر الدائرة في فلكها. ذلك أن عمى الإكراه، يحجب عن الذات أكثر العناصر قربا، فيرغمها على البقاء أسيرة سلطته، كي لا ترى من العالم إلا ما يريده هو. لكأن قدر الذات، أن تعيش حياتها مجردة من هبة الرؤية، ومن حرية الاختيار، ما لم تكابر من أجل توسيع مجال تفاعلها الفكري والروحي، كي يشمل المرئي واللامرئي على السواء. أي ما يرِدُ في سياق الضرورة، وخارجها أيضا. علما بأن دلالة الشيء مهما كان عابرا، جزئيا، ومنفلتا، تلقي ظلالها على مجموع ما يدور في فلكه من أشياء محايثة. وهو الموضوع الذي كان وسيظل مدار اشتغال الخطابات الفلسفية والدينية، منذ العصور القديمة إلى الآن، حيث يطيب للسلسلة أن تتسلى ببعثرة حلقاتها، لتجعلها تنكشف، أو تتخفى حسب المقام الذي تتلاعب فيه الشبكة بخيوطها، كي لا تهتدي لانتظامها سوى العين الخبيرة بمقالب الخلط.

إن عَمَى الإكراه، يضع الذات خارج جدلية الحركة القائمة بين العناصر المرئية واللامرئية، المادية والمجردة، وهو ما يفضي إلى ارتباك حركية التمثل الذاتي، والمؤثر سلبا على ضبط حركية المعنى. وهنا تحديدا، يكمن الدور الأساسي الذي يقوم به الشعر، أي تحريرك مؤقتا من سلطة الإكراهات الزاحفة عليك من خارج ذاتك، كي تحظى بمعايشة الطقس الاحتفالي، الذي لا تكف العناصر مجتمعة عن إحيائه فيك. معايشةٌ، هي في الوقت ذاته تمارين أساسية لهاجس مغادرة إبدالات المشترك، والإقبال على إبدالات المتفرد. هناك تحديدا، حيث يتحقق هاجس الكشف عما يحدث عادة في غيابك، حينما تكون منقادا ضدا عليك إلى سلطة الضرورة. ومن خلال مراجعتنا للمقاربات الأساسية التي اتخذت الذات موضوعا لها، كما هو الشأن بالنسبة لفلاسفة اليونان والفلاسفة المسلمين، أو بالنسبة لفلاسفة الحداثة وما بعدها، فإننا سنكتشف ذلك الثراء الكبير الذي يتمتع به مفهوم الذات، الذي لم تفلح كل هذه المقاربات في إيفائه ما يستحقه من توسيع ومن تعميق. فما من تعريف إلا وينبهنا إلى جدوى الاستفادة من غيره، سواء بالتكامل أو التعارض. وخلال ذلك سيتبين لنا وبالملموس أن تغطية ما قل من دلالات الذات، تحتاج إلى كل هذه التعاريف وزيادة.

كما لو أن الأمر يتعلق بجدوى اجتراح ما أمكن من المسالك، بحثا عن مرتكز محتمل لذلك «الشيء» المراوح بين تجسده وتجرده. فثمة على سبيل المثال لا الحصر، المسالك الأرسطية والأفلاطونية، الكِنْدية والفارابية، الديكارتية والكانتية، فضلا عن المسالك النيتشوية والهيدغيرية، التي حاول كل منها بمنهاجيته الخاصة، الاهتداء إلى صلب الإشكال المتعلق بسؤال الذات، الوثيق الصلة بسؤال الشِّعري. إنها هناك، في مسكنها اللامرئي، متوجة بغموضها والتباسها، منتظرة المزيد من الإضاءات والتفسيرات والتأويلات، حيث لا مفاضلة بين التعاريف، ولا مجال لترجيح رؤية على أخرى، ما دام كل مسلك يفضي بنا حتما إلى ملامح بعينها من ملامح هذه الذات، التي تكف عن إغرائنا بمراكمة المزيد من التعاريف، والتفسيرات والتأويلات. إنها الجسد، كما هي العقل أو الروح. السبب والنتيجة.. المنغلق والمنفتح.. المفرد والمتعدد.. العائق والمخلص. وبين رحابات التخوم اللامتناهية، التي لا تتوقف هذه الثنائيات عن بعثرة حدودها و مجالاتها تحت أنظار السؤال.
إنها الذات وقد بدت هنا منصرفة لممارسة تحولاتها البنيوية وتنوعاتها لتكون رحما للقتل، أو للخلق، للحكمة أو للطيش، للتواصل أو الإقصاء، للهيمنة أو التعايش. كما إنها بهذا المعنى، الرحمُ الواعد بالبذل كله، والواعد بالشر كله، حيث التوجس سيد الأمكنة والأزمنة، ما دامت الفواصل بين الشيء ونقيضه، غير معلنة وغير معطاة. في خضم وفي أتون هذا الالتباس، تتعطل بوصلة اللغة، لتتخلى عن شرط الإشارة إلى المكان العام، منكفئة على دواخلها، ولائذة بشعرية البلبلة الكفيلة وحدها بتوصيف ما يمكن توصيفه، بعيدا عن رقابة العرف، وعن صرامة الإجماع، وبالتالي، فإن القول بتمثل شعرية البلبلة بما هي لغة مغايرة للغة، تعني وعي القراءة بمقتضيات هذه التخوم، وبتلك الحدود اللامرئية التي تصل بين أصداء روائحها وألوانها، كما تعني توافر فرص لَمِّ شتات «الشيء»، من أجل استيعاب ما قَلَّ من جوهره، بدل طمْسه بخرسانة نظرية مفرغة من دلالاتها.
شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية