مأسسة النقد الأدبي: إضاءاتٌ في واقع الخريطة النقدية الراهنة

تجربة رائعة – ملأتني بغبطة كبيرة – عندما قرأتُ مداخلة نادية هناوي على موضوعٍ نشرته في«القدس العربي»بعنوان (الناقد الأدبي: من مرجعية التقييم إلى الدراسات الثقافية). جاءت مداخلة هناوي بعنوان هو صيغة مساءلة تنقيبية: (هل يمتلك النقد الأدبي العربي مؤسسات؟). ليس سراً أنني أقرأ كلّ ما تكتبه هناوي بشغف، ولعلّ الدافع الأعظم الذي يدفعني لهذه القراءة الحثيثة هو تناغم اهتماماتي الأدبية والفكرية العامة مع متبنياتها التي كشفت عنها في كتبها المؤلفة، ومقالاتها التي لا تنفكّ تنشرها كشلال هادر في مختلف المطبوعات الثقافية. الخصيصة المهمة لهناوي هو عملها في منطقة التخوم الفاصلة بين المناشط المعرفية (ما يسمّى بالدراسات العابرة للتخصصات المعرفية Interdisciplinary Studies) ويمكن لهذه الخصيصة أن تكون مدخلاً طبيعياً لبدء المداخلة مع ما كتبت هناوي بشأن النقد الأدبي وموضعته الراهنة في خريطة الدراسات الثقافية.
نادية هناوي متخصصة بالدراسات السردية والجماليات والنقد الأدبي، وليست ناقدة أدبية من النمط الكلاسيكي المعهود؛ وبالتالي فإنّ كتابتها عن النقد الأدبي تنبع من رغبة في المساءلة والاستكشاف ومحاولة التحصّل، على مزيد من ثراء المعرفة وترسيم خريطة النقد الأدبي العربي الراهن وليست محض غزوة قَبَلية يراد منها الدفاع عن موقع أكاديمي أو مكسب وظيفي.

نادية هناوي

لنبدأ من موضوع السرد، ولنتخذْ منه مدخلاً في هذه الإضاءة. واضحٌ لكلّ شغوف وأكاديمي في حقل السرد والدراسات السردية، كم شهد هذا المبحث المعرفي (الذي يتناول ظاهرة بشرية لها علائق وثيقة باللغة وسيكولوجيا التواصل البشري) من تغيّرات بنيوية بسبب الكشوفات الثرية في حقل العلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي وبحوث الذكاء الاصطناعي؛ حتى باتت الدراسات السردية ملعبة اشتباك معرفي تختلف جذرياً عن طبيعة الدراسات السردية، التي كانت سائدة قبل عشرين سنة. مثالُ السرد عظيم الأهمية، وقد أفاضت هناوي أكثر من سواها في مقاربة هذا المثال، بسلسلة من الموضوعات التي تناولت السرد في تفريعاته الكثيرة، ولعلّ مراجعة موضوعاتها المنشورة في«القدس العربي»لوحدها ستكون تجربة باعثة على درجات كبرى من المتعة والفائدة، وهو ما يدعوني هنا لتعضيد جهود هناوي ودفعها إلى تأليف كتاب مرجعي في نظريات السرد وطبيعته.
أعود الآن إلى موضوع النقد الأدبي في سياق موضوعي المنشور في«القدس العربي»المشار إليه أعلاه. لو أجرينا مسحاً سريعاً لخريطة النقد الأدبي العالمي (وهو موضوع أطروحتي) لرأينا أنه بات مدفوعاً بعوامل (فكرية وبراغماتية) صارت تعمل على إعادة تشكيل خريطته الفكرية:
أولاً: تتمظهر العوامل الفكرية في تنامي مفهوم الدراسات النسقية العامة أو الشاملةGeneralized Systems Studies في عموم المعرفة الإنسانية، سواءٌ كانت علمية أو أدبية. هل نتخيلُ، على سبيل المثال، أنّ بمستطاع كائن من كان قبل عشر سنوات أن يصرّح في حوارية منشورة له أنّ (الأدب ينبغي أن يدرّس مثل العلم، وأنّ الأدب آلةٌ ترتقي بدينامية تطوّر الدماغ البشري )**. هل يمكن لهارولد بلوم أن يكتب شيئاً قريباً من هذا؟ عندما أكتبُ مثل هذا أنا أقرأ تضاريس الخريطة الأدبية، وتجتاحني جمرةٌ من ذاكرة نوستالجية أتحسّسُ فيها طعم اللذة الكبرى التي اجتنيتها من قراءة كلاسيكيات الأدب، ولستُ ممّن يميلون كثيراً إلى تذويب الحدود بين العلم والأدب؛ لكنّ هذا هو واقع الحال السائد في العالم.
ثانياً: أما العوامل البراغماتية فيمكن أن نشهدها في طبيعة الدراسة الأكاديمية للأدب. ليس سرّاً أنّ الدراسات الأكاديمية في الأدب، باتت تشهدُ انحساراً عالمياً في مقابل صعود وتنامي الدراسات المسمّاة STEM (وهي اختصار عالمي معتمد للعلم والتقنية والهندسة والرياضيات) وقد تسبّب هذا الانزياح المتزايد نحو هذه الحقول في غلق الكثير من الأقسام الأكاديمية الخاصة بالأدب والدراسات الأدبية. كانت إحدى الاستراتيجيات الالتفافية المعتمدة، هي محاولة دمج الكثير من الأقسام الخاصة بالإنسانيات في قسم واحد تحت لافتة (الدراسات الثقافية) ضغطاً للنفقات. من المعروف أنّ المؤسسات الغربية – الأكاديمية وغير الأكاديمية – تعتمد معايير إجرائية تقوم على حساب العوائد؛ لذا فهي لن تتردّد في تعديل برامجها تبعاً لمستجدات الواقع، ولن تركن أبداً إلى سياسات قديمة بدعوى الحفاظ على أنماط ثقافية محدّدة.
ليس هذا الأمر غريباً على الحلقات الثقافية خارج نطاق الأكاديميا. يمكن في هذا الشأن مراجعة حلقات مسلسل ذي حلقات ست عنوانه (CHAIR) عرضته منصّة نتفليكس، وسنتعلّم منه الكثير في ما يخصُّ طبيعة العلاقات التنافسية السائدة بين القدماء والمحدثين، في نطاق الدراسات الأدبية في جامعات العالم، وأظنُّ أنّ متابعة هذا المسلسل ستكشف لنا الكثير عن المخفي تحت ستار براق من النزاهة الأكاديمية المفترضة.
يمكنُ أيضاُ مراجعة كتاب الكاتب السياسي والثقافي فريد زكريا (دفاعاً عن تعليم الإنسانيات In Defense of a Liberal Education) المنشور عام 2015، وفيه يقدم زكريا أطروحة قوية بشأن ضرورة الحفاظ على تعليم متوازن لا يلغي أو يحجّم تعليم الإنسانيات تحت ضغط ادعاءات مختلفة.
واضحٌ من المداخلة التمهيدية السابقة أنني تناولتُ في موضوعي بشأن الناقد الأدبي، محاولة قراءة خريطة النقد الأدبي العالمي، حسب الأدبيات المنشورة السائدة، ولم أتناولْ خريطة النقد الأدبي العربي.

إمكانية حصول تداخل مفهومي، قصدي متخابث، بين النقد الأدبي الغربي ونظيره العربي؛ بما يمكّنُ بعض الناقدين من اعتماد مفاهيم سطحية وتوظيفها في شحن معارك دونكيشوتية موهومة شبيهة بما حصل مع البنيوية، التي صارت ثوباً مرقعاً يضيف له كل من أراد قطعة مهلهلة من ثوب أكله البلى.

ما فعلته هناوي ـ باختصار شديد ـ أنها وضعت معالم التضاريس النقدية الأدبية السائدة في الفضاء العربي، وأنا متفقة معها في الخطوط العامة، وفي التفاصيل الإجرائية الفرعية الصغيرة؛ فهي تتحدّثُ من داخل المشغل الأكاديمي، وهي به خبيرة متمرّسة. تتخذ هناوي ـ وهي محقة في هذا ـ مقاربة تحوّطية ناشئة من معرفتها التفصيلية الدقيقة بإمكانية خلط السم بالعسل في أوساط الإنتلجنسيا العراقية على الصعيدين الشعبي والأكاديمي. يمكن إجمال معالم هذه المقاربة التحوّطية في عناوين رئيسية أربعة:
العنوان الأوّل: إمكانية حصول تداخل مفهومي، قصدي متخابث، بين النقد الأدبي الغربي ونظيره العربي؛ بما يمكّنُ بعض الناقدين من اعتماد مفاهيم سطحية وتوظيفها في شحن معارك دونكيشوتية موهومة شبيهة بما حصل مع البنيوية، التي صارت ثوباً مرقعاً يضيف له كل من أراد قطعة مهلهلة من ثوب أكله البلى. تكتب هناوي في هذا الشأن:
“وليس ممكناً مع هذا الحال مقارنة واقعنا النقدي بالواقع النقدي الغربي، ولا أن نضاهي تاريخه النقدي بتاريخنا، ولا أن نتطلع إلى ما يتطلع إليه نظريا وإجرائيا. وكيف لنا أن نرى نقدنا الراهن على حقيقته، ونحن مشبعة أنظارنا بمباهج ما وصل إليه النقد الغربي، وما تزفه إلينا المنظومة الثقافية الرسمية من أسماء كبرت إعلاميا في أحضانها، وليس لها من العطاء إلا ما هو ملمع ومعبأ في أغلفة برّاقة مصنوعة بحرفية”.
العنوان الثاني: إمكانية أن يتخذ البعض من مبحث (الدراسات الثقافية) عنواناً عريضاً ستخدمهم لاحقاً، لتكون عباءة تخفي واقع فقرهم المفاهيمي. هنا يحصل خلط السم بالعسل؛ إذ هم بعيدون عن نطاق الدراسات العابرة للحدود المعرفية، ويرجون من وراء التخفّي وراء هذه اللافتة العريضة تحويل النقد الأدبي إلى نمط من الكتابة الثقافية الانطباعية، الغارقة في الشخصانية. تكتب هناوي في هذا الشأن: “أول ما ينبغي في التصدي لمثل هذا الواقع الزائف، هو التدليل على بطلان هذه الدعاوى التي تريد اتخاذ النقد الثقافي ملاذاً يعصمها من نظريات النقد ومناهجه ومرجعياته، ودقائق مفاهيمه ومصطلحاته، لتكون أولى كوارث النقد الثقافي هي إماتته للنصوص الإبداعية، بهروبه من عوالمها، وخشيته من فحص أبنيتها وسبر خصائصها الفنية، وهذا من مظاهر عدم الاقتدار على التمنهج النظري، مع فقدان القدرة التحليلية التي ينبغي أن يتحلى بها الناقد الأدبي”.
العنوان الثالث: وهو الذي اتخذته هناوي عنواناً لأطروحتها، وجوهره محاولة التغييب القصدي للأصوات النقدية الأدبية الفاعلة بوسائل عدة هي، بعض قدرات الماكنة الرسمية التي تستطيع ـ إن شاءت ـ مأسسة كلّ ما تريد في إطار قانوني مدعم بعناصر التمكين المالي والإعلامي، يترافق هذا مع صعود من سمتهم هناوي بالمتناقدين، وهي تصف هذه الحال بثنائية الهامش/ المركز (تماماً كما هو الحال في حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية): “عربيا ليست لدينا مؤسسة نقدية، استطاعت إعلاء الهامش وخلخلة المركز، لكن لدينا نقاد مؤسسون ونقاد يؤسسون مشاريعهم بعيدا عن السطح الثقافي؛ ضائعون في خضم المركزية الثقافية وبحرها اللجب؛ هذا البحر الذي ضاع فيه الأصيل وغلب فيه المال ومنطق القوة. وما دمنا بلا مؤسسة نقدية فكيف لنا بعد ذلك أن نلوم مؤسسة لا وجود لها، ثم نستنجد بالتي هي سبب الكارثة، ورأس البلوى التي فيها الداء والدواء، وقد تعملقت، كمنابر إعلام امبراطورية تمنح صكوك غفران الثقافة شعراً وروايةً ونقداً وفكراً. وما من قارئ عربي إلا وهو يعرف هؤلاء المصكوكة اسماؤهم ببركات ونفوذ من لديه القوة والسلطان”. ثم تستطرد هناوي بما يفتح كوّة من أمل رصين غير موهوم في جدار الظلمة: “وإذا كان هوامش الثقافة بإمكانياتهم الفردية ومشاريعهم الخاصة، يستطيعون إدامة الفعل الثقافي وتنويعه وإغنائه، فإن في ذلك أملاً بقدرتهم مستقبلا على زعزعة مكانة المنظومة الثقافية الرسمية، التي لا تتوانى عن ابتداع شتى المظاهر والفعاليات الباذخة والخلابة، كي تحرف الأنظار عن الهوامش، فتشيع ما تريد هي إشاعته عن نقادها ومشاريعهم الخاوية”.
العنوان الرابع: الأدباء ـ والمشتغلون في حقول الأدب بعامة ـ لهم نصيبهم في هذا الخواء النقدي الشائع. الناقد الأدبي لا يعمل داخل منظومة نسقية معزولة عن منتِج العمل الأدبي؛ بل إن الاثنين منظومة تفاعلية متراكبة ومتبادلة التأثير. هما يعملان كما الألكترون وضديده (البوزترون) في فيزياء الجسيمات الأولية: “ولا خلاف في أن الذي يدفع بعضهم إلى النقد مستسهِلا إياه بما لديه من ثقافة عامة، ومعيقا العملية النقدية بالتعالي والمغالاة، هم مبدعو الأدب أنفسهم، أولا بالذاتية ـ على الرغم من مشروعيتها بالقدر المعقول ـ التي تدفعهم إلى الجري وراء النقاد ليحظوا بمباركتهم، وثانيا عدم تمتع الكثير من مبدعي النصوص الأدبية بوعي نقدي كاف للوقوف في وجه الطروحات المتعسفة. وهو ما يفسح المجال لبعض النقاد من الصولان والجولان دون تحفظ”
قراءة أطروحات هناوي تحفزُ على الكثير من التفكّر والمراجعة وإعادة قراءة وتفحّص المثابات العالية والوديان الغائرة في خريطة النقد الأدبي والفكر الإنساني بعامة، وهذا بعضُ ما تطمح له كلّ الكتابات الجادة والرصينة.

٭ كاتبة وروائية ومترجمة عراقية

٭ ٭ يراجع الحوار المنشور في موقع Nautilus بتاريخ 24 شباط/فبراير 2021.رابط الحوار:
https://nautil.us/issue/97/wonder/literature-should-be-taught-like-science

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صالح الماشق:

    عدم وجود نقد أدبي مرده إلى عدم وجود أدب !

  2. يقول استبرق عزاوي:

    طالما ان ليس ثمة مؤسسة نقدية عربية لما هذا الامتعاض مما بات يطلق عليه الناقد الثقافي لاسيما ان النقاد المتخصصين لا يتصدون الى نقد ما يصدر من مطبوعات ادبية بسبب الشللية والعلاقات الشخصية وربما التقاعس الامر الذي يجعل لما يسمى الناقد الثقافي يقوم بمهمة كتابة الانطباع النقدي منطلقا من ذائقته الجمالية وقدرته على قراءة النص الادبي .

  3. يقول ساعد الكنفاني:

    التاريخ يؤكد أنه لا يتطور النقد إلا بتطور الأدب ولا يتطور الأدب إلا لدى الأمم التي لم يبق الخبز والحليب والدواء والمأوى من أولوياتها اليومية !

اشترك في قائمتنا البريدية