أشار عدد من متابعي مؤتمر وارسو إلى أنه حدث فريد لم يشهدوا له مثيلا منذ اجتماعات مدريد للسلام بين إسرائيل والوفد الأردني الفلسطيني المشترك، ولبنان وسوريا على التوالي عام 1991، الاجتماعات التي تمت حينها برعاية مشتركة من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إذ لم يشهد المراقبون منذ ذلك التاريخ مؤتمرا أو لقاءً دوليا يحضره هذا الكم من الوفود العربية، التي تجتمع إلى طاولة واحدة مع الوفد الإسرائيلي.
ويبدو أن نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس لخص الأمر بتصريحه الذي قال فيه :»بدأنا حقبة جديدة، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتياهو وقادة البحرين والسعودية والإمارات وعمان يكسرون الخبز معا». بينما وصف نتنياهو من جانبه الحدث وهو في غمرة السعادة بما تحققه إسرائيل من إنجاز بقوله «نحن نصنع التاريخ»، ووصف اللقاء بـ»مؤتمر التطبيع بين عدة دول عربية وإسرائيل».
وقد شهدت العاصمة البولندية وارسو يومي 13 و14 فبراير الجاري عقد مؤتمر أعلن عنه باسم (مؤتمر وارسو للسلام في الشرق الأوسط)، وتساءل عدد من المتابعين لماذا اختيرت العاصمة البولندية لعقد المؤتمر الذي دعت له إدارة ترامب؟ وجاءت الإشارة من بعض المتابعات الصحافية ردا على ذلك، إذ بينت أن البولنديين يتلهفون لرؤية قاعدة عسكرية أمريكية كاملة في بلادهم، يطلقون عليها من الآن «قلعة ترامب» ما يجعل اختيار وارسو لعقد مؤتمر الشرق الأوسط قرارا دبلوماسيا رائعا بالنسبة للسياسة البولندية، التي تريد أن تقدم أي شيء لإرضاء إدارة ترامب.
كما قرأوا رفضا من الدول الأوروبية، التي لم ترحب باستضافة المؤتمر، إضافة لفتور الأوروبيين تجاه موقف إدارة ترامب الضاغط عليها لاتخاذ مواقف متشددة تجاه إيران ومطالبتها بالانسحاب من الاتفاق النووي معها. من جانب آخر يجب الانتباه إلى أن وزير الخارجية مايك بومبيو الراعي الرسمي لمؤتمر وارسو، حاول أن يجعل توقيت عقد المؤتمر استباقيا قبيل مؤتمر ميونيخ للأمن بيومين، لكي تكون هنالك مواقف موحدة محتشدة ضد إيران وحلفائها في المنطقة، فقد صرح بومبيو في مطلع يناير، أبان جولته الشرق اوسطية، عن ذلك بقوله «إن هدف مؤتمر وارسو المقبل هو التركيز على تأثير إيران وإرهابها في المنطقة».
نتيجة الامتعاض الأوروبي من الضغوط الأمريكية وخشية من فشل المؤتمر ارتأى عرابوه توسيع أجندته وعدم ذكر إيران صراحة
ونتيجة الامتعاض الأوروبي من ضغوط إدارة ترامب على الدول الأوروبية لدفعها لاتخاذ مواقف معادية تجاه ايران، وخشية من انفراط وفشل المؤتمر ارتأى عرابوه توسيع أجندته، وأن لا تذكر إيران في جدول الأعمال بشكل صريح، لذلك اشتمل جدول الأعمال على مواضيع مختلفة مثل، تحديات الأوضاع الإنسانية، وأوضاع اللاجئين، والحد من انتشار الصواريخ، وتهديدات القرن الحادي والعشرين مثل، القرصنة الإلكترونية والإرهاب. تحول المؤتمر إلى عرس تطبيعي مع إسرائيل، كما وصفه بعض المعلقين، إذ انحسرت المواقف لتفرز موقفا أوروبيا باردا تجاه طروحات المؤتمرين، بينما شهدت المواقف الإسرائيلية والسعودية والامارتية والبحرينية المعادية لإيران مباركة أمريكية، وقد عبر عن ذلك وزير الخارجية الامريكي مايك بومبيو بقوله في ثاني أيام المؤتمر «إن الولايات المتحدة تهدف من خلال مؤتمر وارسو إلى جمع الدول التي لها مصالح مشتركة في المنطقة، وإن المؤتمر يؤسس للعمل المشترك لمواجهة التحديات والأزمات في الشرق الأوسط». وأضاف «نسعى للتقريب بين الدول التي من مصلحتها استقرار الشرق الأوسط، والابتعاد عن التفكير التقليدي، علينا أن نعمل معا من أجل الأمن، ما من دولة بوسعها أن تبقى على الهامش».
من الواضح أن الاهتمام الإسرائيلي بالمؤتمر كان في أعلى مستوياته، وقد توضح ذلك في المشاركة التي جاءت عبر مشاركة رئيس الوزراء، وهو الرئيس الوحيد الذي حضر المؤتمر، بينما شاركت بقية الدول بوزراء خارجيتها، أو مستويات ادنى من ذلك بكثير، ولكي يثبت مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أهمية ثمرات ما جنته إسرائيل من المؤتمر، قام مكتب نتنياهو بتسريب فيديو لمناقشات دارت على هامش إحدى جلسات المؤتمر، وقد ظهر في الشريط المسرب وزراء خارجية البحرين والإمارات والسعودية، وهم يدافعون عن إسرائيل ويهاجمون إيران.
وبعد ترك الفيديو لحوالي نصف ساعة على شبكة الإنترنت، قام مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي بحذفه، ثم ما لبث أن أعاد تحميله مرة أخرى في مناورات للفت الانتباه. وقد أظهر الفيديو المسرب تصريحات وزراء الخارجية الخليجيين في شأن التقارب مع إسرائيل ووجوب إدارة المواجهة مع إيران، إذ قال وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة، بحضور نتنياهو والوفود المشاركة في جلسات المؤتمر: «إن عملية السلام بين الإسرائيليين والعرب كانت لتكون في وضع أحسن الآن لولا تصرفات إيران الشريرة». وأضاف «أن أموالا سامة، وأسلحة وقوات برية تابعة للجمهورية الإسلامية أعاقت إحراز تقدم على صعيد الجهود المبذولة لإحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين». أما وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد ، فقد أشار إلى حق إسرائيل في مهاجمة أهداف إيرانية في سوريا. وفي جوابه على سؤال طرحه مدير الحوار بشأن الهجمات الإسرائيلية الهادفة إلى منع إيران من ترسيخ أقدامها عسكريا في سوريا، قال عبد الله بن زايد: «لكل أمة الحق في الدفاع عن نفسها، عندما تواجه تحديا من أمة أخرى، نعم». أما وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودية عادل الجبير، فقد اتهم إيران بالإضرار بالقضية الفلسطينية، عبر دعم جماعات مسلحة تتنازع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ورأى أن أنشطة إيران العدوانية تقوض الاستقرار بالمنطقة على نحو يستحيل معه تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقال الجبير «أنظروا إلى الفلسطينيين مَن ذا الذي يدعم حماس والجهاد الإسلامي ويقوّض السلطة الفلسطينية؟ إنها إيران».
من جانبها الدول المعنية بتهديدات مؤتمر وارسو، ردت عمليا على التهديد عبر إطلاق قمة سوشي الثلاثية أثناء مؤتمر وارسو، وقد كان التمثيل على أعلى المستويات بين روسيا وتركيا وإيران، إذ اجتمع رؤوساء الدول الثلاث لمناقشة الواقع السوري والتفاهم على مخرجات عملية بشأن التواجد الإرهابي في إدلب، وتدارس ومناقشة أوضاع شرق الفرات بعد دحر تنظيم «داعش» الارهابي وشروط استتباب الأمن في هذه المنطقة بعد الانسحاب الأمريكي المرتقب من سوريا.
تزامنا مع أيام المؤتمرين المتعارضين في وارسو وسوشي ضرب الإرهاب في مدينة سيستان في بلوشستان الإيرانية قرب الحدود الباكستانية، حيث أوقع تفجير انتحاري استهدف حافلة للحرس الثوري الايراني 20 قتيلا على الأقل جنوب شرق ايران، في أحدث هجوم ضد القوات الايرانية، حسبما أفادت وكالة إيرنا الايرانية الرسمية، وتبنت مجموعة «جيش العدل» السنية الجهادية التي تعتبرها إيران منظمة «إرهابية» هذا الاعتداء. من جانبه لم يفوت وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف هذه الفرصة ليعلق على ما حدث رابطا كل الامور ببعضها حينما كتب في تغريدة له «هل وقوع الهجوم الإرهابي بالتزامن مع السيرك الذي يجري في وارسو ضد إيران صدفة؟ في الوقت الذي يحتفل داعمو الإرهابيين في شوارع وارسو وفي صفحات مزيفة بتويتر؟ يبدو أن الولايات المتحدة تكرر الخطأ نفسه وتتوقع الحصول على نتائج مختلفة» واليوم الكل بات يتوقع مزيدا من التصعيد في الحرب الباردة بين المحورين الإيراني والسعودي في الشرق الاوسط، خصوصا بعد تعميد الدخول الاسرائيلي لمعادلة الصراع في وارسو، فهل سنشهد تحول الصراع من حرب باردة إلى ساخنة في غضون المستقبل القريب؟ هذا ما لا يستطيع أحد البت فيه حتى الآن.
كاتب عراقي