مارسيل خليفة يخاطب صديقه الياس خوري ويستحضر أياما عاشاها معاً

ناديا الياس
حجم الخط
0

بيروت-“القدس العربي”: يواكب الفنان الكبير مارسيل خليفة التطورات الأمنية في جنوب لبنان الذي لطالما أنشد له ولصمود أهله، وهو ينشر منذ أيام على حسابه على “فيسبوك” مقطوعات موسيقية وغنائية خاصة تحمل الكثير من المعاني.

وفي هذا الاطار، نشر خليفه صورة شمعة مضاءة على نية الجنوب ولبنان مرفقة بموسيقى كلاسيكية، ثم نشر رسماً لنساء وأطفال بالتزامن مع الغارات الإسرائيلية مرفقاً بأغنيته الشهيرة “تصبحون على وطن”.

وكان الفنان مارسيل خليفة صديق الروائي والكاتب الياس خوري الذي شارك في مراسم وداعه في كنيسة السيدة في الاشرفية، عاد ليكتب مشاهداته من الجنازة في الكنيسة وليخاطب صديقه محدّقاً في ابتسامته ليسترجع الذكريات ويتجوّل بخياله بين أيام وليالٍ عاشها معه، وليتحدث عن لقائه الأول مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش في منزله ثم المشوار الأول إلى عمشيت بعد غياب 20 سنة.

وكتب مارسيل خليفة ما يلي: “الياس خوري يغادر باب الشمس ويتركه دامعاً
في الطريق إلى الكنيسة ينتاب صدري فيض من غمام .
في الكنيسة ازدحمت الخيالات والصُوَرْ في أرض لا أرض لها. المشيعون يمسهم خدر شفيف. يذوبون مع الشمع الذي يسكب ضوءه على الوجوه. والمطران يطلّ بين الفينة والأخرى من الهيكل المستور ويريق عليه زيت صلاته. يضيق التأمل في التفاصيل الصغيرة وتضيق المسافات فإلى أين سنهرب يا الياس وقد ماد بنا الملكوت عند تابوت الحكاية. عبق البخّور على جمره المتقّد وتخيلتك تسمو مثل صوفيّ مخمور بشهوتك المالحة كخطيئة أصلية فاتنة. منذ مليون عشق وورد ومنذ ما تبقّى من نبيذ الروح في جرار الكنيسة العتيقة.
عبث هي الحياة التي تفرّ سريعاً وتخدع. لكنه العبث الذي نشتهي ونريد. نعبث لكي ينطلق المستحيل. نعبث لئلاّ يضيع منا الجميل وينكسر على شروخ الوصايا .
يا ليتك يا صديقي تريثت بعض ليل لئلاّ تهزمك الطبيعة ويباغتك الصدى في نشيج النائحات على بابك. هل رأيت المجدلية تنظر  إليك كعاصفة في عينين مكحولتين. لا بُد للخلاص من وثبة جريئة تمسح عن جبينك عرق المشتهى والمنتهى بين الجسد والأبد .
الهي الهي لماذا تركتني؟!
في الكنيسة، لا شيء في الكنيسة، غير تراتيل معلقّة على صليب النهاية. تدمي قلب السامع المتشرّد خارج حلمه. وكلما تَشَبَعَتْ المقامات الشرقية تطيّر القلب ويغصّ بالحسرة. في الحَلق نغمة من زمان قديم كان الياس يرندحها وجدتها لابثة فيّ مثلما هي، سمعتها، ولم تخرج من خَراج صوتي. تمرّ بها المفردات كالزائرات يعبرن الشفتين. وهيَ هيَ يا الياس في المكان المُعد لها وفي آخر القداس تحسست حَراكها في الحَلق بين أركان غياب مديد في الغياب أقفرها. أعرفها وأجهلها وأسمعها وتئن في ريح أصوات المنشدين نغمة حائرة ومحيرة ولا أدري أبنغام أرضية نقشت أم هي ذاكرة متصيرة”.
وأضاف الفنان خليفة “في صورتك، على المذبح وأنت تضحك تركتها تحتل مكان المكان، لئلا يألفنا غيابك، ويربّي عيوننا على الخلاء المهجور. دَمَعْت لصورتك الضاحكة في صدر المكان وخرجت .
لا أذكر كم من مرة التقينا في مدن قريبة وبعيدة: بيروت، هاڤانا، باريس، بروكسيل، فيلادلفيا. نيويورك ، عمان. . .
إلياس الحبيب من ينسى ذلك المشوار الأول إلى عمشيت بعد غياب قسري طال لأكثر من عشرين سنة. ذهبنا لزيارة كنيسة جميع القديسين ووضعنا وردة على تراب الورد ثم جئنا إلى البيت في حي العَرْبِة وصعدنا إلى السطح وكان السكون ساكناً وصدحت بترنيم جديد لتلتهب الرعية النائمة وكان عليّ أن أفيض كما أشاء من مفردات مزمور النبي داوود .
أيتها الحياة الخارجة من نزوة عابرة
أيتها الحياة الداخلة في رؤية حائرة
علينا أن نشك في اليقين ونصحح الرواية. قد يكون لك ما أردت وقد لا يكون. فما من أحد سواك يعرفك وينفي الثابت ويُكَذِّب التخاريف. أفي قلبك شعور يكفي ليؤسس مساحة اللقاء بين سحر الأرض ونداء السماء. وبعد ذلك الطقس الصوفي على السطح نزلنا إلى الشاطىء وركبنا على صهوة موجة لا عنان لها. وكما سار المسيح على الماء سرنا في بحر ينشر ليله على جوعنا. هل ما زلت تؤمن بنايات القيامة وهي تطلق صفير النهاية ؟!.
لن أنسى أيضاً اللقاء الأول مع محمود درويش كان في منزلك المؤقت بالغربية ونشأت يومها صداقة امتدت عميقاً. وذلك اللقاء الجميل مع إدوارد سعيد في تكريم محمود بفيلادلفيا كنا سوية مع جورج البيطار ومصطفى حبيب وزهير جبل ورامي خليفة نحتفل بالشعر والرواية والموسيقى. ولقاءات مقهى اللانترنا بمنهاتن وكم كان يتبذّخ قلبك بالحب وبالشعر ويفيض عن البيان. وسلسلة أمسيات جدل بمسرح بيروت برفقة باسكال فغالي وبمعية شربل روحانا وعبُود السعدي وعلي الخطيب. ووعود من العاصفة في الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين مع رباعي الميادين .
ودفاعك الشرس عن اغنية “يوسف” التي أاعادت لبيروت حقّها كعاصمة للثقافة العربية.
والتقينا مع أحمد درويش وجواد بولس وغانم زريقات وعلى الحليلي في بيت محمود بعمّان والياس يتلو من حكاية الديوان الأخير بفرح غامر وبحزن عميق: لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي .
أحدّق في صورتك على المذبح. أحدّق في ابتسامتك طويلاً كي أهب الخيال فسحة للتجول بين أيام وليالٍ عشناها معاً. في نظرتك جوعٌ للضوء أرهبه، منذ التقينا، في فجر زمن قديم بكوبا الأبيّة بمهرجان الشبيبة. وكم تبدّل مزاجك بين خطاب وخطاب. تقول بلسان الفصاحة ما تضمر ولا يهمك. جربت أن لا أعثر على الباطني فيك، ليحلو لي الإمساك بسرّك وكلما عاودت المحاولة خذلتني جرعة الواقعية في نظرك. هل كان ينبغي أن تعلمنا الوفاء للجذور إلى هذا الحد؟!.
أحببناك وأقمنا في نصوصك وتكاثر الماضي في أيامنا وينقصنا اليوم “غدٌ”.
قم يا إلياس وأفتح باب الشمس في بيروت التي تتبعك كالظل. كم كانت تبهرنا المدينة وترهقنا. وبيروت حقيبة لأوراق رواياتك تلازمك. بيروت مهبط لجنوننا ومشحة من زيت فلسطين .
أنظر في صورتك المبتسمة وانا أودعك، نظرة تزن الفارق بين الواقع والخيال. قرأت اسمك على التابوت، حروف مرصوفة صامتة يجمعها المعنى في رواية لم تكتب بعد. ها أنت تلوذ بالصمت الأبدي كأنك تدوّن روايتك الأخيرة عما في الغياب من أصوات لنداء بعيد لا يُسمع. تفاصيل خرساء على الورق. من سيكتبها بعدك. . تفاصيل تقضي في الذاكرة”.
وختم “ما زال الإنشاد البيزنطي الجميل والطويل في آن يتصاعد من الكنيسة. على خشبة حملوك وانحدروا إلى مار إلياس بطينا .
يمتلىء داخلي بغياب حضورك الساطع. ما هذه الحياة الأكذوبة وجسمها سريع الترهّل .ليس للغياب ملامح لأكتبه.
أكتب ما أكتب لأقول – أحبك”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية