ماكرون في لبنان: في معاني الحديث عن الاستعمار

أثارت زيارتا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، بُعيد الانفجار المأساوي في بيروت، كثيراً من ردود الفعل المتوقعة للغاية، فبين مطالبة، لا تأخذ نفسها بجدّية تامة، بعودة الانتداب الأجنبي على العالم العربي، وانتقادات عنيفة، جدّية أكثر من اللازم، لهذا الطرح، خلّفت الصورة التي صَدَّر بها ماكرون نفسه انطباعات غير مريحة لمؤيدي زيارته ومعارضيها في الآن نفسه، خاصة أنه لم ينجح بلعب دور المخلّص بالنسبة لمنتظريه في لبنان.
بعيداً عن المستوى السياسي المباشر للزيارتين، يطرح النقاش عن التدخل الأجنبي والسيادة الوطنية كثيراً من الأسئلة، عن الثقافة السياسية في العالم العربي، فبعد عقود طويلة من الاستقلال، يبدو أن هاتين المسألتين لم تعودا تمتلكان إطاراً نظرياً وسياسياً واضحاً لدى معظم أطراف النقاش، رغم غزارة الأدبيات التي كُتبت حولهما في القرن العشرين. انتُقد التدخل الأجنبي في ما مضى من زوايا متعددة، أكثرها حضوراً معاداة الإمبريالية في سياق صعود حركات التحرر الوطني، المدعومة غالباً من الاتحاد السوفييتي.
اعتُبر التصدي للإمبريالية، بتعريفاتها شديدة التعقيد، نوعاً من مواجهة الرأسمالية نفسها في أعلى مراحلها، كما أن التخلف في بلدان العالم الثالث لم يكن مجرد صدفة، بل هو نتيجة السياسات الإمبريالية الاستغلالية، المعيقة للتنمية والتطور. صيغ العديد من النظريات، التي لا تخلو من التماسك، لتحديد كيفية إعاقة النمو هذه، والطرق التي يجب أن تنتهجها الدول النامية للتخلص منها. ضمن هذا السياق لم تكن نظريات «التطور اللارأسمالي» «التطور المرُكّب غير المتكافئ والثورة الدائمة» «التبادل اللامتكافئ» و«حروب التحرير الشعبية» مجرد شعارات، بل كانت جانباً من عدّة نظرية متقنة، في زمنها، لحركة أممية، متضامنة لحد كبير، فرضت نفسها عاملاً أساسياً في المعادلة الدولية.
ما يفتقده الجدل حول التدخل الأجنبي اليوم، ملاحظة أننا تجاوزنا عصر التحرر الوطني منذ زمن، بنجاحاته وإخفاقاته، والأهم أنه لا توجد قوة سياسية فاعلة يمكن أن تدّعي بشكل جدّي أنها تريد مواجهة الرأسمالية، أو إيجاد سبل مستقلة للتنمية، أو فك الارتباط مع المنظومة الاقتصادية الدولية، والجميع يدعون لجذب الاستثمارات، والدخول في العولمة. المفارقة الأطرف أن الخطاب الخجول لنقد العولمة بات على الأغلب خطاباً يمينياً شعبوياً في الغرب، أو تتبناه بعض الحركات اليسارية الهامشية، التي تدعو لعولمة بديلة، فيما يتمسّك ما يسمى يساراً ليبرالياً بشدة بالعولمة، رغم كل نقده لـ«الرجل الأبيض» الكولونيالي. فضلاً عن هذا لا توجد تحديدات نظرية لطبيعة الدول التي يجب أن ترفض الوصاية والتدخل الأجنبي، هل هي دول تابعة أم لارأسمالية؟ أم تسعى للاشتراكية؟ أم بكل بساطة دول «بعد كولنيالية» لديها مشكلة ثقافية مع المركزية الغربية؟ باختصار: ما معنى كل هذه الضجة عن الاستعمار؟

تبدو دولة مثل لبنان حالة نموذجية للانهيار الشامل للأنظمة الاجتماعية، وبينما يُظهر مسؤولوها حالة غير مسبوقة من انعدام الكفاءة، يحاول الرئيس الفرنسي، بدون نجاح كبير، المبادرة لملء حالة الفراغ السياسي في بلد فاشل، له روابط ثقافية متينة مع بلاده، ولكن هذا يختلف بالتأكيد عن التحديد الكلاسيكي للهيمنة.

رثاثة التحرر الوطني

إحدى حجج مناهضي التدخل الأجنبي المعاصرين، أن الاستعمار ليس بديلاً عن الدول العربية الحالية، بكل قمعيتها وفشلها وفسادها، لأنه مساهم في صياغتها واستمرارها، والأوضاع العربية الراهنة نتيجة بنيوية لنظام دولي قائم على الهيمنة، يفرز دوماً هذا النوع من الأنظمة في العالم الثالث.
ربما كان هذا الطرح الأكثر أمانة لما تبقى من تنظيرات فترة التحرر الوطني، ولكنه يغفل عوامل شديدة الأهمية: حركات التحرر الوطني أخذت فرصتها التاريخية كاملة، واستطاعت تحقيق معظم الأهداف التي طرحتها على نفسها، مثل انسحاب الجيوش المُستعمِرة، إلغاء الامتيازات الأجنبية، انتزاع القرار السياسي والاقتصادي المستقل. والنتيجة كانت متفاوتة، الصين وفيتنام حالتان نموذجيتان لدول تحرر وطني، استطاعت إيجاد طريقها المستقل في التنمية، ومن ثم الدخول في العولمة من موقع المنافس، ما قد يصادق أكثر على تنظير الماركسيين غير المناهضين تماماً للإمبريالية، أو القادرين على رؤية دورها الجدلي في التطور. في أمريكا اللاتينية، أعقب فترة طويلة من المآسي السياسية، المرتبطة بالحرب الباردة، نمو لا يمكن تجاهله في دول مثل المكسيك والبرازيل، لم يكن متعارضاً على الإطلاق مع الهيمنة الرأسمالية. أما العالم العربي، الذي لعب دوراً كبيراً في حركة التحرر الوطني العالمية، خاصة مع الثورة الجزائرية، ومساهمة مصر المركزية في تأسيس «حركة عدم الانحياز» فوصل لحالة يرثى لها من اضمحلال وفشل دولة التحرر الوطني. ملاحظة هذه الاختلافات تجعل تحميل المنظومة الاستعمارية مسؤولية الأوضاع القائمة طرحاً شديد التبسيط، أين ذهبت إذن جهود أجيال من مناضلي التحرر الوطني العرب؟ وهل كل الفعل التاريخي الذي قاموا به مجرد عامل يمكن تجاهله، واعتبار أن الاستعمار هو الطرف الوحيد القادر على الفعل؟ ألا يمكن أن تكون الأوضاع الراهنة نتيجة معاداة الاستعمار نفسها؟
بعيداً عن هذا الطرح يمكن القول إن مشروع التحرر الوطني العربي فشل بشدة، ولم ينتج أكثر من دول رثة نشهد اليوم انحلالها الكارثي. يمكن نقد المنظومة الدولية المعاصرة من زوايا متعددة، منها الاعتماد على أنظمة قمعية تضمن العمالة الرخيصة بعد نزع التصنيع في الغرب؛ نقل التلوث البيئي إلى العالم الثالث؛ تعريض الحلقات الأضعف في الاقتصاد العالمي لتبعات انفجار الفقاعات المالية لـ«الاقتصاد غير الحقيقي» تدمير التأمينات والرعاية الاجتماعية وتخفيض الأجور الحقيقية للملايين. ولكن كل هذا لا علاقة له بقضايا التحرر الوطني الكلاسيكية، ولا يمكن اعتباره أصلاً عائقاً أمام التنمية في العالم الثالث، بل من تبعات تقدمها الكبير. فما بالك إذا تعلّق الأمر بالدول العربية، التي لا تقدم كثيراً من العمالة الرخيصة، ولم تصبح موطناً لنقل التصنيع، ولديها ما يكفيها من أسباب التلوث البيئي الذاتي، ولم تعد جذابةً أصلاً لأي تدخل من القوى العظمى. قال ما يشبه هذا الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي رأى المستقبل في شرق آسيا، وأكدّه الرئيس ترامب بسياساته الساعية للانسحاب من المنطقة العربية، غير المفيدة للمصالح الأمريكية، ولكن كثيراً من مناهضي التدخل الأجنبي لا يبدون مستعدين للفهم.

كارثية الفراغ السياسي

انحلال دولة التحرر الوطني العربية لا يحقق مصلحة فعلية للدول الغربية، لا يوجد اليوم مشروع وطني صالح للتآمر عليه، ولا ثروات تثير أطماع الحكّام الكولونياليين، ولا استقرار أمني أو سياسي يجعل من تصدير الفوائض الرأسمالية إلى العالم العربي آمناً ومجزياً، ولا فائض قيمة يتمّ نقله من الجنوب إلى الشمال. ما يبدو أنه يثير قلق المسؤولين الغربيين، خاصة في أوروبا، هو انهيار مجتمعات فتية، لا يفصلهم عنها إلا بحر سهل العبور نسبياً، قادرة على تصدير آلاف اللاجئين والمقاتلين الراديكاليين.
انهيار الأنظمة الاجتماعية العربية كافة، المرتبطة بدولة التحرر الوطني، بما فيها أنظمة القانون والسياسة والاقتصاد والدين والأخلاق، يجعل المنطقة قابلة لإنتاج مختلف أشكال التوحش، وهو ما تستغلّه دول إقليمية، لا مشروع استعماري متكامل لها، ولا يمكن القول إنها وصلت أصلاً للمرحلة الإمبريالية، تغدو هنا ثقافة تكريس العصبوية، والمساهمة بإنتاج المليشيات وإمارات الحرب، أنسب لمصالح هذه الدول، وهو أمر لا يمكن مقارنته على الإطلاق بالمؤسسات الثقافية والسياسية المتينة، التي بناها الاستعمار الكلاسيكي، واستلبت أبناء المستعمرات، كما يشتكي دائماً أساتذة ما بعد الاستعمار، وخَرَّجت في الآن نفسه الجيل الأول من مناضلي التحرر الوطني.
تبدو دولة مثل لبنان حالة نموذجية للانهيار الشامل للأنظمة الاجتماعية، وبينما يُظهر مسؤولوها حالة غير مسبوقة من انعدام الكفاءة، يحاول الرئيس الفرنسي، بدون نجاح كبير، المبادرة لملء حالة الفراغ السياسي في بلد فاشل، له روابط ثقافية متينة مع بلاده، ولكن هذا يختلف بالتأكيد عن التحديد الكلاسيكي للهيمنة.

أسئلة نظرية

يبقى أن المنظور الحالي للجدل حول التدخل الأجنبي يعيق طرح أسئلة نظرية قد تكون أكثر فائدة: كيف يمكن تحديد طبيعة دولة ما بعد التحرر الوطني العربي؟ وهل هي قابلة للاستمرار؟ وكيف يمكن إعادة إدماجها في المنظومة الدولية؟ وما دور ثورات الربيع العربي في إنتاج وقائع وبنى جديدة في المنطقة؟ لا يمكن بالتأكيد التوصل لإجابات بسيطة عن هذه الأسئلة، ولكن محاولة طرحها وإعادة صياغتها قد تكون الفعل النظري- السياسي الأنسب. يمكن ملاحظة عدة وقائع يمكن البرهنة عليها: لدينا دول ضارية ولكن غير سيادية، مزيج من المليشيات والأجهزة العنفية القوية، مع رثاثة بالغة في الأجهزة الأيديولوجية، وتدخّل أجنبي غير كولونيالي أو إمبريالي، إضافةً لحيوية اجتماعية وثورية لم تنقطع لأكثر من عقد من الزمان. هذا المزيج الانفجاري يجعل الاحتمالات كلها مفتوحة، في ما تبدو معاداة «الهيمنة الغربية» من عالم وزمن آخر. بهذا المعنى فربما كان الأجدى أن تُصاغ قضية «تحرر عربي» جديدة، لا تضع مناهضة الاستعمار على رأس أولياتها، بقدر ما تحاول إنتاج صيغ لاستمرار الحياة، وانتزاع الحقوق الاجتماعية والفردية الأساسية، في منطقة مفتوحة بشدة على العالم وتدخلاته.

٭ كاتب من سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    لا حل لهذه المأسي الا بالثورات وكنس هذه الانظمة التي تودي بشعوبها إلى المجهول. أنظمة ما بعد الاستقلال كرست حالة من الجمود السياسي والاجتماعي والثقافي مع تكريس الفساد كآلية اجتماعية واقتصادية هذا هو الكوكتيل المتفجر الحقيقي

  2. يقول Thomas Johansen:

    It shouldn’t be complicated so- called sophisticated like your above comments

    Every Arab country citizen needs the following: individual human rights ,no threat by secret police no arrest without evidence , needs independence of judicial system locally elected but not appointed judges for limited terms like USA and superego court its members also elected the citizen needs all the followings: freedom from fear( secret police intimidation arrest without reason) , freedom from hunger , freedom of expression , freedom of assembly, freedom of worship, fromdeom from wants ( hunger and poverty), non- central governments run its province or state locally its officials are elected by local resident , central- federal government two houses of representatives congress lower and senates higher and president elected one term only and only
    There have to be balance between three branches of the system that is only way to prevent Tyrany

اشترك في قائمتنا البريدية