على نحو ملحوظ أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ما سماه «الأزمة التي يواجهها الإسلام في كل مكان» وعن ضرورة الوصول إلى «إسلام تنويري» الكثير من التعليقات وردود الأفعال في العالمين العربي والإسلامي أكثرها ذهب في إتجاه إنتقادها وتفنيدها وإعتبارها شكلا من أشكال العداء المعلن للإسلام والتحريض عليه، فيما حاول بعضها إزالة ما قال إنه سوء فهم أو تفسيرعلق بها.
تفسيرات متطرفة
مشكلة تصريحات ماكرون هذه وبغض النظر عن تأويلاتها المختلفة، تكمن في أنها جاءت في وقت يعاني فيه الإسلام والمسلمون بالفعل من أزمة حقيقية لا علاقة لها بما حاول ماكرون الإيحاء به، بل تتمثل أساسا باستهدافهم بطرق وأشكال مختلفة وعلى نحو يبدو منظما ومدروسا بحملة «شيطنة» تأخذ بُعدا عالميا، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان تصريحات بعض المنظرين الغربيين التي أطلقوها في أعقاب نهاية الإتحاد السوفييتي وانهيار كتلته الشيوعية في شرق أوروبا، من أن الإسلام هو العدو البديل عن الإتحاد السوفييتي بما يمثله من خطر جديد – قديم ينبغي على الغرب التفرغ لمواجهته.
الحملة هذه (التي ما كان لها أن تنطلق وتستمر بمثل هذا الزخم لولا مبرر قوي وفرته هجمات أيلول -سبتمبر 2011 في نيويورك) لا تكتفي بتوجيه الإتهامات إلى تيارات فكرية وتنظيمية إسلامية (بل وأحيانا إلى الإسلام نفسه دون مواربة) بتبني تفسيرات وتوجهات سياسية واجتماعية وفكرية «متطرفة وعنيفة ولا تتسق مع نمط الحياة العصرية ومفرداتها المختلفة» مع اتهامها أيضا بالسعي إلى فرض هيمنتها وتصوراتها هذه بالقوة على بقية العالم، بل وتطرح هذه الحملة أيضا رؤيتها أو شروطها للتعايش مع الإسلام والمسلمين عبر ما تسميه إدخال «إصلاحات» على الدين الإسلامي عبر نبذ بعض ما يتضمنه من أفكار وتوجهات وتعديل أو إصلاح أخرى وصولا إلى «إسلام تنويري معتدل ومتصالح مع مبادئ وأسس الحياة العصرية التي تُهيمن على تفاصيلها الحضارة الغربية المعاصرة».
وهذا بالضبط ما يمكن العثور عليه بوضوح في تصريحات الرئيس الفرنسي المثيرة للجدل حين دعا على سبيل المثال إلى تكوين وتهيئة « أئمة فرنسيين « يحملون تفسيرات معتدلة ومقبولة للإسلام من وجهة نظره لتصدر المشهد الديني لمسلمي فرنسا.
والأخطر فيما تضمنته تصريحات ماكرون، إشادته بالنموذج التونسي الذي كان قائما في ظل ديكتاتورية زين العابدين بن علي (التي وعلى غرار نظيراتها في العالم العربي كممت الأفواه وصادرت الحريات ومارست العنف والقمع السلطوي لفرض نفسها على المجتمع وترهيبه مع محاباتها لطبقة موالية لها منحتها الإمتيازات وفرص الثراء على حساب بقية
الشعب) وإعتبار هذا النموذج هو الأفضل قياسا بواقع تونس الحالي رغم ما يسود هذا الواقع من حريات وحراك سياسي ومجتمعي كان المواطن التونسي يحلم به ويتمناه.
ما يطرح بالتالي سؤالا، حول إذا ما كان تفضيل الرئيس الفرنسي لنظام حكم بن علي على ما فيه من ديكتاتوريته متعارضة مع القيم الغربية المعلنة، سيبرز ويُعلن عنه على الملأ لو أن تونس مثلا لم تكن بلدا إسلاميا يتصدر الإسلاميون مشهده السياسي أو على الأقل يبرزون فيه كأحد الأطراف السياسية الفاعلة في البلاد؟
إن هذا التفضيل والإستحسان الغربي لأنظمة حكم تقمع وتنهب شعوبها وترتكب بحقهم كل ما يناقض مبادئ وأساسيات حقوق الإنسان، ينبع من خشية لدى الغرب من ديمقراطية حقيقية في البلاد العربية قد تفضي على الأرجح وكما يعتقدون إلى إعادة الإعتبار إلى الدين الإسلامي في المجتمع والدولة بل وموجها لهما، الامر الذي يفضي بدوره إلى إعادة صياغة حتمية للعلاقات غير المتوازنة التي تربط الغرب بالعالمين العربي والإسلامي والتي صاغها الغرب على قياسه وعلى ما يناسب مصالحه وهيمنته وسيطرته بابعادها المختلفة السياسية والأقصادية والثقافية.
وفي واقع الأمر لا ينظر الغرب إلى ما يسميه «الإسلام السياسي» إلا من زاوية مقدرته على بلورة وإنتاج حضارته الخاصة والمنافسة للحضارة الغربية لا سيما مع توفر كل الإمكانات المادية والفكرية لهذا الهدف.
الثورة الصناعية
وهذا المفهوم يتعزز في العقلية الغربية اذ ما تمت إستعادة الماضي وتجاربه في هذا السياق، فحركة الترجمة الأوروبية المكثفة في العصور الوسطى التي سبقت عصر النهضة وفيما بعد الثورة الصناعية في أوروبا، لأمهات الكتب التي انتجتها الحضارة الإسلامية لعلماء وباحثين مسلمين في الطب والفيزياء والرياضيات والفلك مثل الخوارزمي وأبو القاسم الزهرواي والفارابي والكندي وغيرهم وتدريسها في الجامعات الأوروبية لعشرات السنين أو لقرون أحيانا، إضافة إلى توافد بعثات من الطلبة الأوروبيين خاصة من أبناء الطبقات الإرستقراطية في مرحلة العصور الوسطى إلى الجامعات الإسلامية في الأندلس لتلقي العلم، لم يكن ذلك كله سوى إعتراف بأهمية وفعالية الحضارة الإسلامية وما توصلت إليه آنذاك من علوم وإختراعات وإكتشافات.
من الواضح أن المنظرين وصناع القرار الغربيين اليوم لا يرون أي إمكانية لوجود أو تعايش حضارتين مختلفتين في وقت واحد مع كل ما يفضيه ذلك من تنافس ومحاولات لإنتزاع المزيد من نقاط القوة وصولا إلى موقع الريادة على مستوى العالم.
ويتجاوز الحرص الغربي في هذه المسألة حدوده ليصل إلى طريقة التعاطي حتى مع الدول الإسلامية القائمة حاليا والمحكومة بأنظمة هو بالمحصلة من إختارها وعينها، بحيث يتم سد منافذ هذه الدول إلى أي مشاريع تنموية وبنيوية حقيقية من الممكن أن تسهم مستقبلا في بناء قواعد اقتصادية وبحثية مستقلة وقائمة بذاتها، وإبقائها عوضا عن ذلك مجرد كيانات معدومة التأثير على المستويين الإقليمي والدولي، تابعة له ومتخلفة، بدءا من مناهجها التعليمية وصولا إلى إسلوب الإدارة وإتخاذ القرارات وتنفيذها.
ولعل ما تقدم يفسر لنا كيف أن دولا مثل اليابان وألمانيا جرى إحتلالها عسكريا من قبل الغرب في الحرب العالمية الثانية، سُمح لها ( باعتبارها جزءا من الحضارة الغربية ولا تحمل بالتالي مشروعها الحضاري الخاص) بالإرتقاء العلمي والإقتصادي وهو ما إنعكس إيجابا على مستويات المعيشة فيهما، في حين أن بلدا مسلما مثل العراق تم إحتلاله عسكريا وبشكل مباشر من قبل الغرب منذ العام 2003 تحت شعار «حرية العراق وتحريره ونشر الديمقراطية في ربوعه» لم يُسمح له ورغم امتلاكه كل إمكانات التطور والنهوض، سوى بالعودة إلى الوراء.
كاتب فلسطيني
9/11 في عام 2001!
شكرًا أخي طارق شوشاري. اتفق معك تمامًا، وأرى أيضًا تصريحات ماكرون بتفضيل حكم بن علي هو إشارة إلى أن الشمس تغرب عن الغرب الأوربي على الأقل. فهل تشرق علينا جديد،كلنا أمل
العرب، وليس الاسلام، هم من يواجهون مأزقا علمانيا وجوديا وعجزا مزمنا على كافة المستويات: التنموية والديمقراطية والصحية والاستقلال والهوية والمالية العامة..