«أهم ما في هذه المدينة هو الأمن والأمان» هذه العبارة في وصف العاصمة النمساوية فيينا، سمعتها على لسان سائق سيارة أجرة من أصل مصري قبل 25 عاما، عندما كانت سيارته تعبر بنا شارع «الرنغ» الشهير الذي يحيط بمركز المدينة كما يحيط الخاتم بالإصبع.
يومئذ كنت حديث العهد في هذه المدينة التي ارتبط إسمها على نحو كبير في بلداننا العربية بأغنية «ليالي الأنس في فيينا» للمطربة الراحلة اسمهان.
سياسة الحدود المفتوحة
لم تمض أشهر أو أسابيع قليلة على وصولي لفيينا وإقامتي فيها حتى بدأت أكتشف صدق الوصف الذي أطلقه سائق سيارة الأجرة على المدينة، فنسب الجريمة على أنواعها كانت منخفضة للغاية وتكاد تكون معدومة قياسا بمدن أوروبية أخرى (حتى مع التغيير السلبي الطفيف الذي طرأ لاحقا على هذا الصعيد بسبب سياسة الحدود المفتوحة مع دول في أوروبا الشرقية بفعل اتفاقية «شنغن» وتوسع الإتحاد الأوروبي شرقا) وهذا ما كان يضفي على الدوام حالة عامة وملحوظة من الهدوء والانضباط على المدينة التي يقترب اليوم تعداد سكانها من المليوني نسمة.
لهذا السبب ربما لم يكن غريبا أن الهجوم الإرهابي الأخير الذي إستهدف دب الذعر والرعب في صفوف المدنيين وتضمن إطلاق النار على بعضهم في مركز المدينة من قبل من وصفته الشرطة بشاب ذي ميول «إسلامية متشددة» من أصول ألبانية – مقدونية ومعروف بتعاطفه مع تنظيم الدولة، قد قلب المدينة رأسا على عقب وجعلتها تعيش ليلة صعبة بكل المقاييس.
ورغم الحضور السريع لقوات الشرطة إلى مسرح الهجوم واشتباكها مع المهاجم، إلا أن عدم وجود خبرة مسبقة لدى الأجهزة الأمنية في التعامل مع هذا النوع من الحوادث التي من الممكن أن تكون أيضا على صلة بعمليات تنفذها عصابات إجرامية للسلب والنهب والابتزاز كما في مدن أخرى حول العالم، أحدث إرباكا ملحوظا ترافق مع روايات غير موثوقة أدت إلى تضخيم ما كان يجري على الأرض.
فحادثة إطلاق المسلح النار على بعض المارة والذي أدى إلى مقتل أربعة أشخاص وجرح العشرات قبل مقتله على يد الشرطة بعد تسع دقائق من بدء هجومه، حولتها الشائعات المتداولة إلى ست حوادث إطلاق نار متزامن في مناطق مختلفة من مركز المدينة، وهو أمر أوحى بوجود مجموعة من المسلحين تشن هجمات متزامنة هنا وهناك.
هذا الإعتقاد الأولي دفع السلطات إلى تحذير الناس المتواجدين في منطقة الهجوم والمناطق المحيطة فيها إلى عدم التنقل فيها ومحاولة الإختباء في أي مكان مناسب في المنطقة ذاتها، كما دعت رواد المطاعم والمقاهي التي كانت تعج بهم في آخر يوم قبل الإغلاق العام بسبب وباء كورونا، إلى البقاء حيث هم وعدم الخروج وهو ما أدى إلى إنتشار شائعة جديدة حول عملية احتجاز رهائن داخل إحدى المطاعم.
اللافت أن وقوع هذا الهجوم الإرهابي في بلد اوروبي هادئ كالنمسا مع عملية التضخيم غير الدقيق لمجرياته وفصوله على الأرض، جاء في وقت كانت فيه إحدى الدول الأوروبية الرئيسية وهي فرنسا تتجه على المستوى الرسمي إلى تيار «الإسلاموفوبيا» وتدخل بالتالي فيما بدا وكأنه مواجهة علنية مع العالم الإسلامي تمثلت فرنسيا بإصرار رسمي على مواصلة نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم، وتجسدت في المقابل إسلاميا بحملة مقاطعة شعبية للمنتجات الفرنسية لاقت صدى وتفاعلا كبيرا في البلدان الإسلامية على المستوى الشعبي مع ما رافقها من حركة إعلامية ودعائية نشطة لإعادة فتح ملفات الاستعمار الفرنسي وما ارتكبه من جرائم وفظائع وتجاوزات في الدول والبلاد التي احتلها.
الموقف الفرنسي الرسمي لم يكن أبدا في حالة مريحة قبل هجوم فيينا، خاصة مع إبداء بقية الشركاء الغربيين فتورا واضحا في الإنخراط في هذه المواجهة في دلالة واضحة على ان الموقف الرسمي الفرنسي ربما قد تجاوز حدود العقلانية في عيون الدول الاوروبية والغربية الأخرى.
خلق محور أوروبي
من هنا كان الرئيس الفرنسي من أوائل الزعماء الأجانب الذين علقوا على هجوم فيينا الإرهابي وربطه مباشرة «بالإرهاب الإسلامي» كما يحلو له ان يردد، داعيا إلى موقف أوروبي موحد للتصدي لهذا «الإرهاب» كما أنه الزعيم الغربي الوحيد الذي لم يكتف بزيارة مقر السفارة النمساوية في بلده لتقديم العزاء في ضحايا العمل الإرهابي وإبداء التعاطف مع النمسا، بل وأعلن عزمة على التوجه لفيينا لتفقد مسرح الهجوم والتحدث عن ضرورة التكاتف الأوروبي.
من الواضح أن ماكرون لن يترك «هجوم فيينا» يمر هكذا دون أن يسعى لاستثماره وتوظيفه في الاتجاه الذي يدعو إليه وهو خلق محور أوروبي يعمل بشكل وثيق على مواجهة ما تصر فرنسا الرسمية على تسميته «بالإسلام السياسي» أو «الإرهاب الإسلامي» وصولا إلى كسر حالة العزلة التي عانى منها خلال الأسـابيع القليـلة الماضيـة في تحـديه لمشـاعر المسـلمين عبر العـالم.
في المجمل لا يستطيع أحد أن ينكر أن معظم الحكومات الأوروبية والغربية تنخرط بشكل أو بآخر في مكافحة ما تسميه «بالإسلام المتطرف»حتى ولو تمثل ذلك من خلال تمويلها لوسائل إعلام محلية ما إنفكت تحرض على الإسلام والمسلمين بذريعة التطرف والإرهاب، إلا أن فرنسا الرسمية تحت قيادة إيمانويل ماكرون وفريقه وباعتراف أكاديميين ومثقفين فرنسيين مرموقين قد تجاوزت الحدود في هذه المواجهة واقتربت جدا من اعتبارها وبشكل علني مواجهة مع الإسلام نفسه ومع معتنقيه خاصة، مع تواصل الإصرار على رسم الرسوم المسيئة بذريعة حماية مبادئ الجمهورية الفرنسية وعدم الرضوخ للتهديدات، والقيام بعمليات الإغلاق المستمر لعشرات المساجد والجمعيات الاسلامية في فرنسا تحت ذرائع مواجهة التطرف والنزعات الراديكالية.
ورغم ما أحدثه هجوم فيينا الإرهابي من تحريك وتنهيض للمواقف والتصريحات الأوروبية والغربية التي راقت للرئيس الفرنسي، إلا أن العديد من هذه الدول أصرت على التمييز بين مكافحة التطرف باعتباره حالات معزولة وبين عموم المسلمين كما فعل رئيس الوزراء الكندي، وبعضها مثل بلجيكا مارس فعليا قناعته في التمييز بين حرية الرأي من جهة وإهانة معتقدات ومقدسات الآخرين واستفزازهم من جهة عندما طرد مدرس من عمله بعد محاولته عرض الرسوم المسيئة للرسول الكريم على تلاميذه.
بل أن الحادث المأساوي المُدان في فيينا نفسه، أعطى ماكرون وكل رموز «الإسلاموفوبيا» في الغرب مثالا على وجوب عدم الانجرار في موجة التحريض ضد المسلمين واستهدافهم بالجملة وعدم التمييز بينهم كحالة عامة في المجتمع وبين من تصرفات البعض ممن يُحسب عليهم وعلى دينهم.
ففي الوقت الذي كان مطلق النار يقوم بفعلته على خلفية تعصبه الديني كما قيل، برز أبطال في هذه القصة جرى تكريمهم على المستوى الرسمي النمساوي هم ثلاثة شبان مسلمين تصادف وجودهم أو أماكن عملهم في منطقة الهجوم ولم يترددوا بالمخاطرة في حياتهم للمساعدة في عمليات إنقاذ وإجلاء وتقديم إسعافات أولية للمصابين ومن بينهم أحد رجال الشرطة.
كاتب فلسطيني