ماما نجوى: الطفل في دنيا الفن والجمال

ماما نجوى اسم يعرفه كل مصري، هو اللقب الذي اشتهرت به المذيعة والفنانة نجوى إبراهيم، ذات التاريخ التلفزيوني والسينمائي الحافل، والتي لا نزال نسعد بسماعها ورؤيتها من خلال برنامجها الإذاعي المصور «بيت العز»، وهو برنامج عام غير مخصص للأطفال، يبث عبر إذاعة نجوم أف. أم. لا نزال نستمتع بما تقدمه نجوى إبراهيم من خلال هذا البرنامج، وإن كانت إطلالة قصيرة ومحدودة، لكنها تقدم من خلالها كل ما هو جميل من أفكار وتأملات وقيم، لم يعد هناك من يتحدث عنها كثيراً، تخاطبنا ماما نجوى بلغة نفهمها جيداً، نحن الجيل الذي تربى على برامجها، ونسعد أن يستمع إلى تلك اللغة من لم يعاصر نجوى إبراهيم في طفولته.
على مدى عقود قدمت نجوى إبراهيم برامج تلفزيونية مخصصة وموجهة للأطفال، وكانت البداية عندما كان التلفزيون لا تزال صورته بالأبيض والأسود. بوجه جميل صبوح وابتسامة مشرقة وصوت موسيقي عذب هادئ، كانت ماما نجوى تطل على أطفال مصر، وتخاطب كل طفل وهو جالس أمام شاشة التلفزيون، يستمع إلى غنائها الجميل ويضحك معها ويتلقى منها المعاني والأفكار المفيدة، ويشعر بمتعة كبيرة ويحصل على جرعة من السعادة، يحرص على أن ينالها وهو يتابع كل حلقة من حلقات برامجها المختلفة، سواء برنامج «صباح الخير» أو برنامج «مساء الخير» أو برنامج «أجمل الزهور» وغيرها من البرامج.
لم تكن نجوى إبراهيم وحدها في هذا الميدان، فالاهتمام بالطفل كان كبيراً، خصوصاً في فترة الثمانينيات والتسعينيات، وتزخر القائمة المصرية بالعديد من المبدعين الذين وهبوا أنفسهم للعمل من أجل الطفل فقط، أو الذين خصصوا جزءاً من موهبتهم ووجهوها نحو الطفل، وكان ذلك في المجالات الفنية والثقافية والمعرفية كافة. وكان الإنتاج للطفل مستمراً، يقدم الجديد دائماً من أغنيات وبرامج ومسلسلات ومسرحيات وأفلام، بالإضافة إلى الكتب والكتاب الذين تخصصوا في الكتابة للطفل، وإصدار المؤلفات الموجهة إليه من كتب خيالية قصصية، أو كتب معرفية. في ذلك الزمن كانت المادة الفنية متوفرة، بل شديدة الوفرة، ومتاحة للطفل المصري بلغته الأم ولهجته المصرية الجميلة، وكانت أي مواد أجنبية بالإنكليزية أو الفرنسية تمثل إضافة، ومعرفة جديدة وإطلاع أوسع ومتعة زائدة. وكان الطفل المصري يستطيع أن يتذوق الفن والجمال، ويسبح في بحور الخيال من خلال لهجته المصرية، التي هي عنصر أساسي في تكوين وتشكيل وجدانه، وكان التلفزيون المصري حريصاً على الانفتاح في الثمانينيات والتسعينيات، وعلى تقديم ما يجب أن يطلع عليه الطفل المصري من فنون الغرب وكلاسيكياته وتحفه الخالدة، وعلى أشهر الأعمال التي كانت رائجة في ذلك الوقت أيضاً.
أما الإنتاج المصري للطفل فكان يتسم بالجودة والمتعة والإتقان الفني، وهناك الكثير من الأسماء التي عملت بجد وإخلاص من أجل الطفل المصري، الذي يجب ألا يترك في الفراغ وينشأ في الخواء، ويجب أن يحاط بالجمال والمعرفة والرعاية التثقيفية والأخلاقية، وأن ينمى لديه الحس الفني والقدرة على تذوق الإبداع واحترام الفن، حتى تكتمل شروط الحياة الإنسانية ولكي يكون الإنسان إنساناً بحق، فالفن يقضي على الوحوش الكامنة في داخل البشر، تلك الوحوش الرابضة، ذات القابلية للانقضاض والافتراس إذا ما تمت تغذيتها وإثارتها، وتشريسها بكل ما هو بشع وقبيح وفاسد ودنيء. ونعلم من خلال التاريخ الإنساني أنه من الممكن تحويل البشر إلى وحوش فتاكة، ومن الممكن أيضاً قتل تلك الوحوش، أو جعلها كامنة على الأقل، لا تجد البيئة التي تستطيع أن تحيا فيها. وكما يقول الكاتب المسرحي المصري الراحل ألفريد فرج، إن الطبيب يتعلم الطب في الجامعة، لكن المسرح سوف يعلمه الرحمة.

طاقات فنية متعددة
التحقت نجوى إبراهيم بالتلفزيون المصري وهي في التاسعة عشرة من عمرها، وقد اكتملت فيها شروط العمل كمذيعة تلفزيونية، من وجه جميل صبوح، وحضور وجاذبية وذكاء ولماحية شديدة، وصوت تحبه الأذن وتطمئن إليه. لم تقتصر نجوى إبراهيم على العمل للأطفال، حيث قدمت العديد من البرامج الحوارية وبرامج المسابقات كبرنامج «فكر ثواني واكسب دقايق»، وبرامج المنوعات كبرنامج «اخترنا لك»، وهي برامج محفورة في ذاكرة المصريين كبرامجها للأطفال أيضاً. ونظراّ لتعدد الطاقات الفنية لدى نجوى إبراهيم وهي الوجه التلفزيوني البارز، تطلعت السينما إليها وأرادت أن تحظى بهذا الوجه الجميل على شاشتها، فكانت نجوى إبراهيم بطلة لمجموعة من الأفلام السينمائية المهمة، العاطفية والدرامية والحربية، وجسدت شخصيات لا تنسى في أفلام مثل «فجر الإسلام»، «العذاب فوق شفاه تبتسم»، «المدمن»، «الأرض»، «خائفة من شيء ما»، «السادة المرتشون»، بالإضافة إلى أفلام حرب أكتوبر المجيدة، التي باتت طقساً من طقوس احتفالنا بالنصر في كل عام، ومنها فيلم «حتى آخر العمر» وفيلم «الرصاصة لا تزال في جيبي»، وقد تعاونت نجوى إبراهيم في هذه الأفلام مع كبار الكتاب والمخرجين والنجوم مثل محمود ياسين وأحمد زكي.
تعاونت ماما نجوى في برامجها للأطفال مع رائد فن العرائس الفنان رحمي، وظهرت مع مجموعة من العرائس لم يستمر منها سوى «بقلظ»، الذي صار رفيق رحلتها ورحلتنا بصوت الفنان سيد عزمي. ونتعجب كيف تنتهي شخصية مثل «بقلظ»، وكيف يتوقف العمل للأطفال، وكيف يترك الطفل المصري هكذا في الفراغ، ويحرم من أن يحصل على مادة فنية ترفيهية تثقيفية بلهجته الأم، وإلى متى ستظل الأجيال السابقة واللاحقة تعتمد على رصيد إبداعي أنتج في فترة معينة.
كانت نجوى إبراهيم نموذجاً مثالياً لا للمذيعة التلفزيونية فحسب، وإنما للفنان التلفزيوني المؤهل تماماً لتقديم الفنون التلفزيونية، وللتلفزيون فنون واسعة ومتعددة، لها أثر فعال يفوق أي تصور. ومن دون الفنون التلفزيونية يصبح التلفزيون جمادا لا روح فيه، وقد يتحول إلى وسيلة للتكدير والتنغيص. كانت ماما نجوى تستطيع أن تملأ الشاشة بالبهجة والمرح والنشاط، مع الاحتفاظ بالهدوء الكامل، تستطيع أن تؤدي بعض الحركات الرشيقة الخفيفة على أنغام الموسيقى الهادئة أيضاً، تستطيع أن تغني، بل أن تجيد الغناء في نطاق صوتي محدود، لكنه غناء جميل رائع، ومنا من يهرع أحياناً إلى صوت ماما نجوى ليستمع إلى أغنية «صباح الخير» أو أغنية «فتحي يا زهور فتحي»، فيشعر بأن ضجيج العالم كله قد انمحى، وأن هذا الصوت واحة آمنة وادعة لا يريد أن يغادرها. وخصوصاً من جيلنا الذي يستبد ويعصف به الحنين، كما لو أننا تجاوزنا المئة من عمرنا، نظراً لما شهدناه من عنف التحول والاختلاف، والمسافة الشاسعة الهائلة بين ما كان وما هو كائن. تمثل ماما نجوى نقطة عميقة في هذا الحنين، فنعود إلى أعمالها وحلقات برامجها لنجلس أمامها، ونستمع إلى كل كلمة من كلماتها كما كنا نفعل، لكن من أين لنا بالطفل الذي ذهب ولن يعود. ثم نكتشف أن الحنين وحده ليس هو الذي يعيدنا إلى ماما نجوى، وإنما الرغبة في مراجعة الماضي ومراجعة كل شيء، فالماضي لم يكن كله جميلاً، وهناك أخطاء ومساوئ تكتشف عند التمعن في الماضي.

العودة إلى ماما نجوى
نعود إلى ماما نجوى لنرى ماذا كنا نتلقى ونحن أطفال، أي قيم وأي مبادئ؟ أي أفكار ومعان؟ نحو أي شيء كان يتم توجيهنا؟ وماذا كان يتم غرسه في وجداننا وأذهاننا؟ نراجع كل كلمة ونضعها تحت مجهر اليأس والحزن العميق والحسرة الأليمة، فإذا بنا نندهش دهشة تفوق دهشة الطفولة، ويملأ نفوسنا إعجاب يتخطى إعجاب الطفولة بمراحل. ونقول كم كان جيلنا محظوظاً، وكم هو تعيس جيل ينشأ في غربة نفسية عن لهجته المصرية، فلا يتلقى الجمال والفن والخيال من خلالها، جيل ينشأ في فراغ مخيف، وخواء يمثل بيئة خصبة لكل ما هو مؤذ وخطر. نعيد اكتشاف ماما نجوى بالقلب المحب ذاته الذي لا يزال متعلقاً بها، لكن مع عقل نضج وخبرات اكتسبناها، وتجارب خاصة وعامة مررنا بها، فيكتمل في أعيننا جمال النموذج وروعة الفن وبهاء الموهبة، وننحني احتراماً وتقديراً للجدية المطلقة والإخلاص الشديد في العمل للأطفال، والإدراك العميق لأهمية تربية الطفل التي لا تخفى على أحد، وأن روافد التربية يجب أن تتعدد وألا تقتصر على البيت أو المدرسة. وكذلك نعيد اكتشاف الكاتب شنودة جرجس الذي كتب أجمل وأهم البرامج التلفزيونية للأطفال، بأسلوب جميل بالغ المهارة، حيث كان يستطيع أن يقدم جرعة فنية وثقافية وأدبية عالية ومركزة، لكن في إطار يناسب الطفل ويجذبه، كما أنه كان يتمتع بحس تربوي وأخلاقي ووطني، جعله يريد أن يغرس في أطفال مصر كل القيم السامية والمعاني النبيلة، ويتجلى ذلك في الكثير من أعماله، وعلى رأسها برنامج «أجمل الزهور» لماما نجوى، حيث حوّل كل خلق وقيمة ومبدأ إلى زهرة تدور حولها الحلقة، ونثر من خلال حلقات البرنامج زهور الإحسان والشهامة والكرم، والعدل والحكمة والتواضع، وغيرها الكثير من الزهور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ALI ALI:

    * * مقال جميل ، قدمتينه إلينا يا دكتوره ، بأسلوب جميل و شيّق ، عن أهمية أدب الطفل ، ممُثلاً في جانب منه بأعمال السيدة: نجوي إبراهيم ، عبر أثير الإذاعة و شاشات التلفاز ، التي كنا نتابعها زمان الصبا و الشباب و ما بعدها ، لتصدق مقولة رواد هذا الأدب ، أن طفولة كامنة في أعماقنا تراود خيالنا ، و منها حلم العودة لهاتيك الطفولة .
    * * و تميزت أعمال السيدة: نجوي إبراهيم ، بإختيار الموضوعات الملائمة لحاجات الطفل و تنمية حب الإستكشاف لديه ، و خفة الأسلوب ، بالفكرة ، و الإبتسامة ، و الصور الخيالية البسيطة ، التي توسع خيال الطفل ، و تهذب و جدانه .
    * * مقالك يا دكتوره مروه يعرض لنا فكرة – غاية في الأهمية – ألا و هي أدب الطفل ، و ضرورته القصوي ، في عصر لم تعد فيه الأسرة هي المبرمج الوحيد لشخصية الطفل و فكره .
    * * سلم يراعك يا دكتوره .. و لا إنقطع مدادك .. و شكراً .

    1. يقول مروة صلاح متولي:

      شكرا جزيلا يا فندم 💕
      ماما نجوى من أجمل ذكريات الطفولة كنا محظوظين جدا بها.

اشترك في قائمتنا البريدية