«مايو ديسمبر» لتود هينز: سطح هادئ يخفي الكثير من التوتر والشهوات المحبطة

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
1

لندن ـ «القدس العربي»: «مايو ديسمبر» تعبير بليغ في اللغة الإنكليزية، يعني علاقة عاطفية بين شخص في ريعان الشباب وآخر في خريف العمر، وهو تعبير يحمل في طياته ضمنا حكما أخلاقيا أو مجتمعيا على هذه العلاقة. هو تعبير يعني في الكثير من الأحيان الاستهجان لهذه العلاقة، لكن المخرج الأمريكي تود هينز، الذي قدّم لنا من قبل أفلاما فائقة العذوبة والتفهم لعلاقات الحب، التي قد يدينها المجتمع ويستهجنها مثل «بعيدا عن الجنة» و»كارول» ليس بصدد إصدار أحكام أخلاقية أو إدانات، بل تصبح هذه العلاقة السبيل الذي ينفذ من خلاله إلى أعماق امرأتين، ويلمس جوهرهما وهشاشتهما وأحلامهما ورغباتهما الدفينة.
في أحد مشاهد الفيلم تقول غريسي أثيرتون ـ يو (جوليان مور) في أداء مرهف، إن الأشخاص الذين لا يشعرون بالأمان والاكتمال في ذواتهم أشخاص خطرون، وهو ما يمكن أن يكون مفتاحا لفهم شخصيتها، ليس هي فحسب، بل المرأة الأخرى في الفيلم إليزابيث بيري (نتالي بورتمان) في أداء متميز. الفيلم إذن يقدم صراعا غير مرئي على السطح، ويعتمل في الداخل بين امرأتين، كما أنه مبارزة في الأداء بين ممثلتين كبيرتين. وكما قدم لنا السويدي إنغمار بيرغمان تلك العلاقة الشائكة بين امرأتين في فيلمه «بيرسونا» يقدم لنا هينز ما يختلج في نفس امرأتين جمعت بينهما الأقدار على خلفية علاقة حب استهجنها المجتمع، وكانت مثارا للقيل والقال والفضائح والشائعات.

تلعب مور دور غريسي أثرتون – يو وهي امرأة خمسينية ذات صوت خفيض وملامح يرتسم عليها الحزن والشجن. نراها تعد قوالب الحلوى الفاخرة التي تبيعها لجيرانها في مطبخ منزلها الأنيق، ولا نتصور بالمرة أن هذه المرأة كانت ذات يوم طرفا في فضيحة تصدرت عناوين الصحف. جمعت غريسي في اسمها بين اسم عائلتها أثيرتون، واسم يو، عائلة زوجها جو (تشارلز ميلتون) المنحدر من أصول آسيوية. نرى زوجها الشاب، ذا الوجه الآسيوي الوسيم، فيخال لنا في بداية الأمر أنه صديق ابنتها، أو ما شابه، ففارق السن كبير ويصيبنا بالدهشة. تبدو لنا أسرة غريسي وجو أسرة عادية هادئة ميسورة الحال، إلا أن فارق السن بين الزوجين صادم للغاية. لكننا نكتشف أن زواج غريسي وجو لم يكن زواجا عاديا بالمرة، بل جاء إثر فضيحة جنسية كانت مرتعا للصحف والشائعات، وأثارت حفيظة المجتمع. فقد أغوت غريسي جو وهو صبي في 13 من العمر بينما كانت هي امرأة متزوجة في الثلاثينيات من العمر. وحملت غريسي جراء إغوائها لجو، وأمضت فترة عقوبة في السجن لإقامة علاقة جنسية مع قاصر. لكنهما تزوجا بعد خروجها من السجن ولديهما ثلاثة أبناء في سن الصبا والشباب. ولغريسي ابن رابع من زيجتها الأولى، لكنه لم ينج من آثار الفضيحة التي أصابته بألم نفسي بالغ. تلك الفضيحة ليست محور الفيلم، بل خلفية أحداثه. أما جوهر الفيلم فهو العلاقة بين غريسي والممثلة الهوليوودية الشهيرة إليزابيث بيري (نتالي بورتمان) التي بصدد لعب دور البطولة في فيلم يتناول أحداث قصة غريسي وجو. تبدي غريسي حماسا كبيرا للفيلم، فهي تثق في إليزابيت كممثلة وتثق في أن الفيلم لن يتخذ منحى فضائحيا، بل سيحاول فهمها وتفهم شخصيتها وأسبابها.
تأتي إليزابيث إلى منزل غريسي للتعرف إليها وللتعرف على زوجها وعائلتها حتى تتمكن من لعب دورها بمصداقية وفهم. تأتي لتحاول الانغماس في الدور ولتتقمص شخصية غريسي وحركاتها وسكناتها ونبرة صوتها وذوقها في الثياب والزينة. لكن هل سيعني تقمص إليزابيث لشخصية غريسي تقمصها أيضا للافتتان بجو واشتهائه؟ ترى هل سيبقى الأمر عند حيز التمثيل، أم هل ستفتن إليزابيث حقا بهذا الرجل الوسيم صاحب القوام الممشوق والجسد الرياضي الذي يقاربها في السن؟ هل ستتمنى في قرارة نفسها أن تصبح هي من يحظى بحب هذا الرجل الفتي الجذاب صاحب الشخصية الخجولة الجادة الناجحة الذي يقاربها في العمر؟ يتحول الفيلم من ممثلة تحاول النفاذ إلى أعماق صاحبة الشخصية التي ستلعب دورها، إلى محاولة من تود هينز، مخرج الفيلم، للتسلل إلى أعماق تلك الممثلة الشابة، التي تبدو للوهلة الأولى تحظى بالنجاح والشهرة والنجومية، لكنها في واقع الحال هشة ومعطوبة، وتحمل الكثير من الرغبات المكبوتة وتسعى إلى حب غير موجود في حياتها.
في «مايو ديسمبر» الذي يعرض حاليا في دور العرض في لندن، والذي شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان كان لهذا العام، يقدم تود هينز فيلما مرهفا كتب له السيناريو بذكاء شديد، إنه فيلم يتفهم ولا يدين ويتغلغل إلى أعماق المرأة وما تصبو إليه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سليمة النوباني:

    مع تقديري للرومانس والعرض الشيق غهذا الفيلم هو مجرد تسويق غربي جديد لموضة المثلية النسائية ولا شيء غير ذلك والحمد لله ان مجتمعاتنا العربية والاسلامية ما زالت بعيدة نسبيا عن هذه الصرعات والعلاقات المحرمة؟

اشترك في قائمتنا البريدية