لندن ـ «القدس العربي»: تشهد الملاعب الأوروبية، بداية أقل ما يُقال عنها نارية لعدد لا بأس به من الأندية المتوسطة والطامحة في استعادة الماضي البعيد والقريب، وفي مقدمتها الحصان الأسود الأكثر وضوحا في القارة العجوز بوجه عام والدوري الإنكليزي الممتاز على وجه الخصوص أستون فيلا، بحفاظه على مكانه ضمن الأربعة الكبار للموسم الثاني على التوالي، والأهم تصدره جدول ترتيب الأندية في دوري أبطال أوروبا بنظامه الجديد. وفي جنة كرة القدم في ثمانيات وتسعينات القرن الماضي، بدأت تظهر بصمة الميستر أنطونيو كونتي مع ناديه الجديد نابولي، الذي يعتلي صدارة الدوري الإيطالي بعد مرور ثماني جولات، بينما في فرنسا، فلا صوت يعلو فوق عروض مارسيليا السينمائية تحت قيادة العراّب الإيطالي روبرتو دي زيربي، وبالمثل يبصم آينتراخت فرانكفورت على موسم أقل ما يُقال عنه استثنائي تحت قيادة دينو توبمولر، بوقوفه على بعد ثلاث نقاط فقط من صاحب المركز الرابع المؤهل لدوري أبطال أوروبا، وفي هذا التقرير سنسلط الضوء معا على أسرار وأسباب التألق اللافت لأبرز الأحصنة السوداء في الدوريات الأوروبية مع بدء العد التنازلي لانتهاء الربع الأول للموسم.
درس إيمري
كان المدرب أوناي إيمري، قد مر بفترة معقدة بعد طرده من آرسنال بعد أقل من موسم ونصف الموسم من توليه منصبه في ملعب «الإمارات» خلفا للأستاذ آرسين فينغر عام 2018، رغم أنه جاء من أجل العمل على بناء مشروع للمستقبل، مثلما حدث مع كارلو أنشيلوتي وجوزيه مورينيو في مرحلة ما مع إيفرتون وتوتنهام، بفشل ذريع لفكرة الاكتفاء بالتوقيع مع مدرب كبير، من دون دعمه بصفقات من العيار الثقيل، أو حتى منحه الوقت الكافي لتدشين المشروع بالطريقة التي يريدها على المدى المتوسط والبعيد، علما أن بطل اليوروبا ليغ 4 مرات من قبل، كان قد أعطى مؤشرات الى دمج الجيل الجديد بأصحاب الخبرات، بمنح الفرصة لمن تحولوا إلى نجوم الفريق في ما بعد، والإشارة إلى بوكايو ساكا وغابريل مارتينيلي ولاعب الفريق السابق إيدي نيكيتاه، لكنه تفاجأ بقرار إقالته بعد أشهر قليلة من نجاحه في الوصول إلى المباراة النهائية لبطولة اليوروبا ليغ، التي خسرها آنذاك أمام تشلسي ماوريتسيو ساري، والسبب لضعف الأداء وتراجع النتائج في بداية موسمه الثاني في الجزء الأحمر في شمال العاصمة لندن، ليعود إلى بلاده عبر بوابة غواصات فياريال الزرقاء، التي كانت بوابته لاستعادة ثقته بنفسه وسمعته في سوق المدربين، حيث قاد غريم فالنسيا في الإقليم، للفوز ببطولة الدوري الأوروبي على حساب مانشستر يونايتد، وفي الموسم التالي قاد الفريق للوصول إلى نصف نهائي دوري أبطال اوروبا على حساب أندية بحجم بايرن ميونيخ ويوفنتوس، قبل أن ينهي عقده مع النادي، ليبدأ عهده مع الفيلانز، في ما كانت أشبه بمهمة إنقاذ أصحاب «الفيلا بارك»، بعدما تركه المدرب السابق ستيفن جيرارد وهو في المركز السادس عشر، وحسنا فعل بجمع 49 نقطة من أصل 75 في المباريات المتبقية في موسم 2022-2023، منها 45 عبر الفوز في 15 من 25 مباراة، ما ساعده على إنهاء الموسم في المرتبة السابعة برصيد 61 نقطة، بفارق 10 نقاط عن نيوكاسل الذي أنهى نفس الموسم في المركز الرابع في جدول ترتيب أندية البريميرليغ.
وعلى الرغم من بداية إيمري الصادمة في أول اختبار في الموسم الثاني، بالتجرع من مرارة الهزيمة أمام نيوكاسل بخماسية مقابل هدف في الجولة الافتتاحية للموسم الماضي للبريميرليغ، إلا أنه سرعان ما أثبت أن الإدارة كانت على صواب، بالإبقاء عليه وتجديد الثقة فيه حتى إشعار آخر، بتحقيق سلسلة من العروض والنتائج المذهلة، منها انتصارات مدوية خارج القواعد، مثل افتراس إيفرتون بالأربعة، وإسقاط تشلسي في «ستامفورد بريدج» بهدف أولي واتكينز، وتوتنهام في عقر داره «توتنهام هوتسبر» بهدفين مقابل هدف، حتى برايتون، الذي كان يعيش أفضل لحظاته تحت قيادة دي زيربي، نجح في سحقه بسداسية نكراء مقابل هدف، واكتملت المفاجآت المدوية بضم مانشستر سيتي وآرسنال الى قائمة ضحاياه في الجولتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة، ما مهد الطريق أمام الفيلانز لخطف المركز الرابع المؤهل لدوري أبطال أوروبا، كأول مرة يظهر فيها بطل أوروبا عام 1982 في البطولة منذ الخروج من يوفنتوس في الموسم التالي من الدور ربع النهائي، وها هو يجني الآن ثمار إيمان الإدارة في مشروع ايمري الطويل الأجل، بالبناء على نجاحات الموسم الماضي، ولو أن هذا النجاح، جاء بعدما تعلم أوناي من أخطاء الماضي مع آرسنال، بالاعتماد على كنز مثل داميان فيداغاني، الذي يوصف بأنه العقل المدبر لنجاحات إيمري، والذي جاء أولا كمساعد له بهدف إدارة الأمور التي لا يحب المدرب الإسباني التركيز عليها والتي كانت سبباً لفشله في أرسنال قبل ذلك، ومع قدوم المدير الرياضي مونشي بعد ذلك، ذهب فيداغاني لمساعدته في الأمور البعيدة عن الملعب، وتحديدا سياسة العمل والتعاقدات والمفاوضات المباشرة مع اللاعبين، وغيرها من الصلاحيات التي ساعدته على تقديم أفضل ما لديه لأستون فيلا، مقارنة بالقيود التي كانت مفروضة عليه في تجربته العابرة مع مدفعجية آرسنال، فقط يبقى التحديد القادم والأكثر أهمية، هو أن يحافظ الفريق على هذا الاتجاه الصعودي على الصعيد المحلي والقاري، على أمل أن يحقق الهدف المنشود في «الفيلا بارك»، بإعادة الفريق إلى منصات التتويج للمرة الأولى منذ تسعينات القرن الماضي، وتحديدا منذ الفوز على ليدز يونايتد بنتيجة 3-0 في المباراة النهائية لكأس رابطة الأندية المحترفة عام 1996، أو على أقل تقدير يقاتل على مكانه ضمن الأربعة الأوائل لنهاية الموسم الثاني على التوالي.
ثورة كونتي
في عاصمة البيتزا في جنوب إيطاليا، كان الاعتقاد السائد أن ملك الغرينتا أنطونيو كونتي، سيواجه مصير أسلافه الذين تناوبوا على تدريب فريق الملعب «دييغو أرماندو مارادونا» منذ رحيل لوتشيانو سباليتي، آخرهم ضحايا الموسم الماضي رودي غارسيا ووالتر ماتزاري، وما ضاعف هذا الاعتقاد، البداية المثيرة للجدل للفريق، التي أسفرت عن انتصار باهت على مودينا في الدور الأول لكوبا إيطاليا، في مباراة انتهى وقتاها الأصلي والإضافي بالتعادل السلبي، قبل أن تبتسم ركلات الجزاء الترجيحية لأبطال السيريا آه الموسم قبل الماضي، وتبعها بسقوط حر أمام هيلانس فيرونا، في المباراة الافتتاحية لموسم الكالتشيو الحالي، التي انتهت بفوز المنافس بثلاثية نظيفة، لكن ما حدث بعد ذلك فاق كل التوقعات، بسلسلة من الانتصارات والعروض الرائعة، التي ساهمت في صعود النابوليتانو إلى صدارة الدوري، برصيد 19 نقطة في أول ثمانية أسابيع، بفارق نقطتين عن حامل اللقب الإنتر وثلاث نقاط عن بطل العقد الماضي يوفنتوس، وبإلقاء نظرة على السبب الجوهري وراء الطفرة التي يعيشها الفريق الجنوبي تحت قيادة كونتي، مقارنة بوضعه المأساوي في فترة ما بعد سباليتي، سنجد أنه يكمن في استجابة الإدارة لمطالبه، التي تعكس ثقة الرئيس أوريليو دي لورينتيس في المدرب، وذلك بطبيعة الحال، بعد الموافقة على ضم الاسماء التي حددها بالاسم في سوق الانتقالات الصيفية، في مقدمتهم العائد للتوهج روميلو لوكاكو، بمشاركته في تسجيل سبعة أهداف من مشاركته في أول خمس مباريات، بواقع 3 أهداف من توقيعه بالإضافة إلى 4 تمريرات حاسمة، إذ يقوم المدرب بتوظيفه في مركز «المحطة» التي يرتكز عليها الفريق في إستراتيجيته الأساسية، بالاعتماد على الهجوم المضاد بأقل عدد ممكن من التمريرات، في ما تعرف بمدرسة الواقعية، التي ترفع شعار «خير الكلام ما قل ودل»، بعيدا عن الإمتاع البصري ومحاولات الاستعراض بالكرة، والدليل على ذلك أن نسبة استحواذ نابولي على الكرة لم تتجاوز الـ47% في أول ثماني مباريات في الدوري، وفي الوقت نفسه، يعتبر الفريق الأكثر نجاحا في التحولات والمرتدات بشكل واضح، بما مجموعه 15 محاولة هجومية صحيحة من التحولات والمرتدات حتى نهاية موقعة كومو في الجولة السابعة، هذا ولم نتحدث عن تأثير القادم من مانشستر يونايتد سكوت مكتومني على وسط الملعب، ومعه أيضا منافس الأمس في برايتون الإنكليزي بيلي غيلمور في الأدوار المركبة على دائرة المنتصف، و أليساندرو بونجورنو في الخط الخلفي، وبدرجة أقل ديفيد نيريس، القادم من بنفيكا البرتغالي مقابل رسوم لامست الـ30 مليون يورو، كرابع أغلى توقيع للنادي هذا الصيف بعد بونجورنو (35 مليونا)، ولوكاكو ومكتومني (30 مليونا لكل لاعب)، ولهذا تظهر المؤشرات، أن كونتي يسير بشكل صحيح مع نابولي، على عكس وضعه مع ناديه السابق توتنهام الإنكليزي، الذي لم يمنحه هذه الأريحية والحرية في بناء المشروع بالطريقة التي يريدها، فقط يتبقى السؤال الأهم: هل سيحافظ نابولي كونتي على هذه الانطلاقة النارية، تمهيدا لملامسة الألقاب من جديد، في ظل انشغال باقي المنافسين بالمشاركة في البطولات الأوروبية الطاحنة هذا الموسم.
وهناك نماذج أخرى تسير بخطى ثابتة على طريق النجاح، ريثما تبدأ في دخول مفكرة كبار البريميرليغ وأوروبا، والحديث عن أسماء من نوعية مدرب آينتراخت فرانكفورت دينو توبماير، الذي حول فريقه من مجرد منافس تقليدي هدفه الرئيسي البقاء في نطاق المنطقة الدافئة في جدول ترتيب أندية البوندسليغا، إلى منظومة جماعية لا يتمنى أحد مواجهتها، بقيادة الفرعون المصري الجديد عمر مرموش والجزائري فارسي شايبي وباقي الأسماء التي أحرجت بايرن ميونيخ في آخر ملحمة قبل عطلة أكتوبر / تشرين الأول الحالي، والتي انتهت بالتعادل الإيجابي بثلاثة أهداف في كل شبكة، ونفس الأمر ينطبق على قائد ثورة شتوتغارت الجديدة سيباستيان هونيس، الذي يثبت من مباراة لأخرى، أن نجاحه في قيادة الفريق للعودة إلى دوري أبطال أوروبا هذا الموسم، لم تكن ضربة حظ أو من قبيل الصدفة، آخرها الفوز التاريخي الذي تحقق خارج القواعد على حساب يوفنتوس بثوبه الجديد تحت قيادة تياغو موتا، في ما كانت أول هزيمة لفريق السيدة العجوز مع مدربه الجديد، وكذلك الأمر بالنسبة لمدرب برايتون فابيان هورزلر ونظيره في إيبسويتش تاون كيران ماكينا، اللذين يسيران في خطى ثابتة على نهج يوليان ناغلزمان وروبرتو دي زيربي وباقي الأسماء التي أعطت دفعة معنوية هائلة للمدربين الشباب والطامحين في طرق باب تدريب الأندية العالمية، بصرف النظر عن السيرة الذاتية وما تُعرف في الوسط بـ«الخلفية الكروية» قبل التوجه إلى مهنة البحث عن الشقاء والمتاعب. وعلى سيرة دي زيربي، تظهر المؤشرات أنه عازم على مضايقة باريس سان جيرمان وموناكو هذا الموسم، وهذا ليس فقط لوقوفه مع ناديه مارسيليا على بعد 3 نقاط من المتصدر، بل لعروضه المذهلة، التي كان آخرها اكتساح مونبيلييه بخماسية نظيفة، كدلالة على أن أمراء الجنوب الفرنسي يتقدمون خطوات عملاقة في طريق العودة إلى منصات التتويج والمنافسة بشكل حقيقي على لقب الدوري الفرنسي الغائب عن خزائن «فيلودروم» منذ عام 2010، وأيضا ناغلزمان يكافح لإعادة منتخب بلاده الألماني إلى سابق عهده، كقوة عظمى بين منتخبات الصفوة في أوروبا والعالم.