ما تبقى من صورة الدولة وما يُختزن في وعي الشعب!

حجم الخط
2

ملثما اضطرتها أزمة التوافق الداخلي، من أجل تعيين خليفة لبوتفليقة، اضطرت أزمة معادلة الشارع الجديدة المطالبة بعدم القبول العهدة الخامسة، عُصب النظام إلى التمرد الحقيقي، ليس على إرادة الشعب، فهي لم تكن مطلقا يوما ما شغل النظام الشغال، إلا ما تعلق منها بالجانب الديكوري الفولكلوري، كالمشاركة العالية في الاقتراعات، والسير في مهرجانات وأعراس التصفيق والمشيدة بحنكة وحكمة الزعيم، بل التمرد على قوانين ومؤسسات الدولة التي رسمتها هي بجد ذاتها، وذلك بأن قرر المجلس الدستوري تسلم ملف المترشح مما يُسمى بمدير الحملة الانتخابية عبد الغني زعلان، في الوقت الذي يؤكد قانون الانتخابات على ضرورة أن يسلم المترشح بنفسه الملف ويتسلم وصل استلام من رئيس المجلس الدستوري، في مشهد كان له أكثر من دلالة تختزل حقائق كرونولوجية ما هو حاصل في أعلى هرم السلطة مذ اعتلاه بوتفليقة قبل 20 سنة بثقافة الدولة التي نشأ عليها مذ استولت عصابة وجدة على الحكم بعد الاستقلال بقوة السلاح، ثقافة، عند قدمي الزعيم يتوقف التاريخ وينحسر مد الزمن وتنهار كل المؤسسات والفلسفات والأفكار والآراء.
ما طبيعة ما حدث الأحد المنصرم بباحة المجلس الدستوري؟ هل بقي شيء من بُنى الدولة بالجزائر؟ من يسير الجزائر الرسمية؟ ومن يرسم الجزائر الموازية للشعب؟
مشهد الأحد الأوحد في تاريخ السياسة وثقافة الحكم في الجزائر، سيظل خالدا بغرائبيته وخطورته، كونه كشف مستوى التضعضع الذي بلغته آليات الحكم ونمط سيرها وجريانها قانونيا وسياسيا، ما طعن في طبيعة الدولة ذاتها وجعلها نشازا فيما بين القوانين التي ترسمها والذهنية التي تحكمها وتسيرها.
لكن هل هاته الطبيعة الغريبة في تعامل مع سير الدولة ظهرت فقط يوم الأحد أمام عتبة المجلس الدستوري؟
الأكيد لا، تكشف تجربة الجزائر ما بعد الحزب الواحد، أن النظام المستمر مذ دفن مسار نضال الحركة الوطنية وما أنتجه من وعي متعلق بطبيعة الدولة والمجتمع، كالقيادة الجماعية للبلد وطابع الدولة الاجتماعي، لم يكن لا مستعدا ولا قادرا على أن يتحول إلى الفضاء التعددي، ومعنى ذلك أن ثورة أكتوبر 1988 لم تكمل مراحلها الهامة وهي كسر العظم المنحرف في هيكل النظام ليستقيم ظله، ما مكن هذا الأخير من دوس كل المؤسسات وخلق الفراغات في القوانين وهدم البنى الجديدة لمنطق وشاكلة دولة تعددية في واقع كما لي وعي الناس، بحسبانها ليست دولته، واستمر في ذلك إلى أن جاء ببوتفليقة لقيادة البلاد سنة 1999، هذا الأخير، وبالإضافة إلى كونه ينتمي وعيا وعضويا لجماعة هدم ودفن مواثيق الحركة الوطنية الناصة على القيادة الجماعية والمتمردة على التفرد بالحكم من خلال إزاحتها من الصدارة لأب الوطنية مصالي الحاج بسبب سعيه لفرض شخصه وشخصيته على القرار والرأي الجمعي والجماعي ـ بالاضافة إلى ذلك ـ تشير كل الآراء أن هذا البوتفليقة يضمر نزعة نفسية ملكية من حيث الشكل وجمهورية استبدادية من حيث الممارسة، جامعا بين صورتي التجربة العربية الغريبة في الحكم، الأسرية والقبلية في الخليج حيث عمل كمستشار سياسي هنالك، والجمهورية على شاكلة البورقيبية «استبداد المثقف».

الأزمة الحالية التي تمر بها الجزائر، استنادا لما ذكرنا، لا تتوقف عند حد رفض العهدة الخامسة من قبولها، بل في أزمة نظام حكم خارج عن سياقات التطور الطبيعي في التاريخ، نظام ليست ثقافة التعددية والديمقراطية، من خصائص جيناته، لكونه استقام على عوج تأسيسي منطلقه القوة والاغتنام المسلح لكل ما يجثم على أرض الوطن وما يكتنز في باطنها، فليس يعنيه وعي متجدد ولا مصلحة عامة

بين هذين النموذجين العربيين تنتحر فلسفة الحكم ويتهاوى منطق الدولة الحديثة ويظل ألق ركام الوجود الوطني يسطع ويتوهج تحت ريع النفط وحبر الصحافة المتزلف المندلق بلا توقف على الورق يصنع المجد الكاذب، بنيات المؤسسات مشتعلة أضواؤها في الجزائر لكنها غير مشتغلة، الاقتراعات الموسمية تمر كرنفالاتها مسموعة من غير متبوعة بفعالية، التغييرات الحكومية تتوالى ووضع البلاد يتهاوى، ومع ذلك نجم الزعيم يظل يتعالى!
فالأزمة الحالية التي تمر بها بالجزائر، استنادا لما ذكرنا، لا تتوقف عند حد رفض العهدة الخامسة من قبولها، بل في أزمة نظام حكم خارج عن سياقات التطور الطبيعي في التاريخ، نظام ليست ثقافة التعددية والديمقراطية، من خصائص جيناته، لكونه استقام على عوج تأسيسي منطلقه القوة والاغتنام المسلح لكل ما يجثم على أرض الوطن وما يكتنز في باطنها، فليس يعنيه وعي متجدد ولا مصلحة عامة، فشقيق الرئيس هو أستاذ جامعي سابق للرياضيات ونقابي، والمؤكد أن رأيه في شاكلة سير الأجهزة المتحكمة في الدولة قبل مجيء شقيقه على رأس الحكم كانت على غير ما يقود به هو الدولة اليوم، فهل عاد وعيه النقدي النقابي للدولة القهقرى؟ مؤكد لا ولكن منطق الغنيمة الذي تأسست عليه ثقافة الدولة في الجزائر هو الذي دفع به والزمرة التي تحوطه إلى التصرف بذات شاكلة شقيقه الرئيس أحد أفراد مجموعة «الاغتنام الوطني»
هكذا إشكال يتعلق ويلتصق بمفهوم الحكم في الجزائر وفق النسق التأسيسي الأول أي الذي لا يرى الحكم سوى وسيلة للاغتناء والاغتنام، هو الذي حاد بالسياسة عن مساقها ومسارها التعددي الأول وجعلها تهوي من أفئدة المواطن وتغدو أقذر ما يمكن أن يمارسه الإنسان من نشاط فتقلص نطاق المشاركة السياسية وتلاشت الدولة والحكم في جدول اهتمامات الناس واستراح الانتهازيون والمارقون السارقون لسيادة الشعب على مصيره.
فالجزائر، إذن، تعيش أزمة دولة تاريخية تسبب في إجهاض برمجتها في الوعي جهاز حكم مختطف يمرق به أصحابه عن كل محاولات الضبط التي حدثت قبل وبعد انقشاع وميض التعددية، أزمة دولة جثمت على واقع البلد وحالت دون تطور سياسي ينتج نخب قادرة على وضع المجتمع على سكة الأمم المتطورة في مسارات تجاربها الوطنية وفق منتوج المعرفة المتجددة التي مكنتها من الخلاص من ثقل ماضيها الوطني المثخن بالخلافات والتطاحنات الأهلية.
وبما أن أزمة الدولة الحالية بالجزائر في الوعي كما في السلوك طالت كل هاته العقود، قد أوصلت بالمجتمع إلى هذا الباب المسدود في الممارسة السياسية السيادية والمؤسسية للمجتمع، فكان لا بد من أن تبرز خلائق ومخلوقات سياسية غريبة تملأ الفراغ الحتمي الناتج عن غياب أو تغييب المجتمع عن سير التاريخ، فظهر أصحاب المال الذين تكاثروا كالجرذان تحت أقبية البنوك العمومية، في سنوات الدم، وجعلهم نظام بوتفليقة، كما جعل نظام بومدين ضباط فرنسا عماد الجيش الجزائري ظهيرا له لمواجهة ضباط جيش التحرير الوطني، عماد حكمه في مواجهة نخب العقل والقناعات التغييرية الحقة، حتى صاروا اليوم الحزب الأول في الجزائر، يأمرون فيطاعوا ويضغطون فينالوا ويعينون من شاؤوا عبر كامل مستويات المسؤولية من الوزراء إلى الحقراء بالدوائر والبلديات، في أبرز مشهد لمنتوج نظام الحكم المتهالك بالجزائر، المنزاح عن تاريخ السياسة وسياسة التاريخ، هي أوليغارشية هجينة تستولي على كل ما يتصل أو ينفصل عن نشاطها، وهي التي صارت بالمال الجاهل القذر ترسم الحلم الوطني كابوسا للناس وتؤول القوانين لأساتذة وفقهاء القانون الدستوري بالمجلس الدستوري نفسه. الآن وقد اتضح أن فلسفة نظام الحكم الناشز النازح عن التاريخ، ستستمر في المضي بشكل متواز مع وعي الشعب المتطور وإرادته في استعادة سيادته على دولته بكل أجهزتها، ماذا تبقى عمله؟ هل على الشعب استعادة المبادرة والإجهاز على هذا النظام؟ هل يمتلك القدرة على ذلك، أمام جماعات ثبت أنها تستمد قوتها من جهات داخلية وخارجية ما مناوئة لإرادة الشعب؟ أسئلة لها مدلول ثوري، في زمن تواضع وضاع وهج هذا النهج في التغيير ولفظته التي كانت مشرقة في تاريخ الإنسانية التحرري، فالثورة لم تعد موضة عصر، تكتسيها شعوب بخطابات نخبها الثائرة على بعضها البعض، وباتت لفظة تثير الاستهابة في نفوس الناس بسبب تقلص وسائل الحسم السيادي الثوري وتواطؤ المنتظم العولمي بمؤسساته البنكية وشركاته متعددة الجنسيات لدحر الشعوب وإرادتها عبر مضادات الثورات والثورات المضادة وجعلها مرتبطة بإرادتهم وهذا وفق جديد منطق الدولة الوطنية، تأكيدا لمرحلة جديدة من مراحل تطور مفهوم الاستعمار، ذاك الذي يسرق الشعوب بأيدي نخبها الحاكمة.
فالكسر الثوري للنظم والجبر بترياق الثورة ذاتها أضحى أخطر وأدق من الجراحة الطبية، لكن المد الشعبي الأخير لي كامل ربوع الجزائر ودقة تعامله مع أسلوب الحكم في استثارة توظيف غضب الشارع لسنوات طوال أوحى بأن هذا الشعب صار يسبق النخب في الوعي وأسلوب التغيير!

كاتب وصحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars.:

    المجلس الدستوري أجلس الدولة على أنغام ” لامارسيّاز ” وليس على ” قسما . . .” والقسم قسم ظهر الدولة الجزائرية على دُكَّانة ” متحركة تستخف بميزان العدل الذي جعل من الشعب صاحب الحق خارج إطار دستور على مقاس فرنسا التي عبثت بتطلعات شعب عظيم تجلت عظمته في فرض إرادته على مجلس لا دستوري الذي إن كان كذلك حل جميع المؤسسات التي في تفعيلها لم تخدم غير فرنسا بدلا من الشعب الجزائري.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    عنوان (ما تبقى من صورة الدولة وما يُختزن في وعي الشعب!) وما ورد أسفله من معلومات عن تكرار مخالفات الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة القانونية والدستورية في عام 2019،

    والتي بدأت ضد أول رئيس للجزائر (أحمد بن بلّة) عام 1962،

    ثم ضد قضية فلسطين في الأمم المتحدة، بعد فضيحة ما حصل في 5/6/1967، الذي حول قضية فلسطين من قضية إحتلال،

    إلى قضية إنسان وأسرة، لا يملك أوراق، صادرة من جهة/دولة يعترف بها نظام الأمم المتحدة؟!

اشترك في قائمتنا البريدية