ضدّ لوجون
من المعروف عند دارسي السيرة الذاتية أنه داخل التعريف الذي أعطاه فيليب لوجون لها، يجسد الميثاق السيرذاتي شرطا ضروريّا لقيامها وانبناء عناصرها التكوينية، وهو غير قابل للفصل عن الميثاق المرجعي، لأنّه يُمثّل قصد المؤلف «لقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة»، بل يعد القارئ بأنّ «ذات التلفُّظ وذات الملفوظ» هما الشيء نفسه، مُلمِحا إلى أنّ الأمر يتعلق بالسيرة الذاتية وليس بالتخييل. هذا التشبُّث بـ«الحقيقي» تمّ التنصيص عليه في الصياغة المعدلة للتعريف الأصلي؛ حيث استبدل لوجون بعبارة «الشخص الحقيقي= une personne réelle» عبارة «أحدهم/ شخص ما= quelqu’ un»، وهو بذلك يرسي السيرة الذاتية في الواقع، مثلما يثبت طبيعتها المرجعية، ومن ثمة يريد أن ينفي أي تأويل مضاد ينزاح عن مبدأ الحقيقي، كما في التحليل النفسي ومبدأ الرغبة الذي يحركه ويتّفق مع الرواية بشكل أنسب.
لا يتفق هؤلاء الدارسون مع فرضية الحقيقة، أو الصدق التي يطرحها لوجون، حينما ذهبوا إلى أن الميثاق السيرذاتي يشكّل بالأحرى (إعادة) بناء الأنا انطلاقا من الذاكرة، وبالتالي فإن القول إنّ السيرة الذاتية تُشكّل تمثيلا دقيقا وأصيلا لحياة المؤلف يكشف عن كونه وَهْما. صحيحٌ أن الطابع الاسترجاعي للسيرة الذاتية يبدو بديهيّا: يستعيد المؤلف ماضيه. ومع هذه الواقعة الواضحة، ينكشف استرجاع وجوده كاملا عن كونه وَهْما: بين زمن الكتابة وزمن التاريخ علاقة ما فتئت تتغيّر. وأثناء الكتابة، تستمرّ الحياة. ولذا فإنّ نظرة صاحب السيرة الذاتية وهي تتجه نحو ماضي حياته، تفرض الماضي بوصفه زمنا مُهَيْمنا على حكيه. ولا يتردّد في أن يتدخّل فيه مباشرة، مُناوِبا بين التاريخ والخطاب، الماضي والحاضر، الصمت والكتابة.
وفي هذا السياق، أحبّ أن أستشهد برأي طريف ساقه ديديي كوست، إذ رأى أنّه داخل نص السيرة الذاتية توجد حركتان متعارضتان، لكنهما تتعايشان: «حركة لم تتمّ أبدا في اتجاه الصمت، اتجاه اللحظة التي سيكون فيها كل شيء قد قيل والكتابة قد استنفدت؛ وحركة تقترب عبرها الكتابة من نفسها على الدوام، دون أن تكون قادرة على اللحاق بالركب». فالوهم المرجعي الذي تنتجه السيرة الذاتية ـ كما أشرتُ إلى ذلك مرارا- ينبغي أن لا يُخفي عنّا حمولة التخييل المتضمَّنة فيه، إذ لا يمكن للمؤلِّف أن يأخذ بالاعتبار حياته كما جرت. إنّه يصنع منها حَكْيا، بمعنى أنّه يُكيّف هذه الحياة مع الإكراهات المرتبطة بالشكل السردي، أي يعيد تشييد حياته حتى يكون بوسعه أن يكتبها. فالميثاق لا يرفض مرونة النوع السيرذاتي وحسب، بل يسجن القارئ داخل عقد القراءة الذي يقيمه معه على اتفاق صريح مثلما يقترحه لوجون؛ بيد أن هذا العقد ينبغي أن يشتغل قرائيّا ويعمل بالفعل ضمن النص، وبالتالي يمكن تحديده باعتباره وظيفة جوهرية للنص، وليس باعتباره فقط وظيفة تتعيش على النص الموازي أو على المعطيات المرجعية للنص لا غير.
لم يكن فيليب لوجون يصمّ أذنيه عما كانت تواجهه نظريته من مآزق، عندما أخذ يعتنق منظورا أوسع للسيرة الذاتية، يتخلص من طابعه الدوغمائي، بقدر ما صار بوسعه أن ينتج نموذجا سيرذاتيّا أكثر مرونة وقادرا على أن يتضمّن التخييل نفسه، ويستوعب شهادة الناس الذين لا يكتبون، والوثائقي المعيش، واليوميات والسيرة، والمذكرات وغيرها من متون الكتابة الذاتية، التي تسعى وفق رغائبها لإعادة بناء الـ(أنا) الاجتماعي في تناغم مع الـ(أنا) الداخلي. ومن هذا المنظور، يعاودون النظر إلى الماضي، من أجل تحديد الأسباب والآثار المترتبة عليه في حاضرهم، بقدر ما يهمُّهم إعادة كتابة التاريخ الرسمي من خلال كتاباتهم الذاتية.
لا وجود لسيرة مكتملة
تعددت المقاربات التي اهتمت بدراسة نوع السيرة الذاتية، إلا أنها كانت تنأى بنفسها عن أيِّ تعريف تعميمي للكتابة السيرذاتية، لأن مثل هذا التعريف منذورٌ للفشل، إذ ليس بوسعه أن يأخذ بأشكال التفرّد والأصالة والسياقات المختلفة (الاجتماعية، التاريخية، الثقافية، السياسية والإثنية)، التي تكمن خلف إنتاج كلّ حكي ذي طابع سيرذاتي. بيد أنّ هذه المقاربات لا تخرج، رغم اختلافها الظاهر، عن التصوُّر المتعارف عليه بخصوص نوع السيرة الذاتية، الذي يرى أنّ الأنا الذي يحكي عن حياته في النص إنما يوجد في انسجامه ووحدته قبل أن يُعبّر عن نفسه داخل اللغة. وبالتالي، فالإمكانات المرجعية لا يطالها الشكّ، واللغة يمكن أن تُمثّل الأنا ووجوده، والسرد يتبع عادة النظام الكرونولوجي للحياة المروية.
تقف النظريات ما بعد البنيوية على النقيض من تلك المقاربات؛ إذ تعتبر الذّاتَ مُتشظّية ومنشطرة، والإحالة على الواقع الخارج- نصّي وَهْما، فيما تفقد اللغة وضعها كوسيطٍ شفّافٍ أو قناةٍ أقلّ إشكاليّة في ارتباطها بالمرجع الخارج- نصّي؛ إذ تدخل في لعب لا يتوقف من الكلمات التي تحيل، مثل المرايا، على بعضها البعض، بدلا من أن تسجن نفسها في دلالة وحيدة وقطعيّة. ولهذا التصوُّر الأخير تبعات خطرة تهدد وجود مفهوم السيرة الذاتية نفسه. فإذا كانت الإحالة وَهْما، فلن تكون السيرة الذاتية أكثر من شَكْلٍ تخييليٍّ، أو عملٍ مُتخيَّل لا يمكنه البتّة أن يُطلعنا على مؤلفها وهُويّته، طالما أنَّ الذات غير ثابتة ومنشطرة.
لقد اعترض مُفكّرو التفكيك وما بعد البنيوية ومُنظّرو التحليل النفسي على مفهوم الحقيقة، وأكّدوا أهمية دور اللغة والخطاب في بناء الذاتية، فيما شكّكوا في تصوُّر الإنسان المستقل، سيد العالم باللغة التي يستعملها. إن فكرة انسجام الأنا ووحدته ليس- من وجهة نظرهم- سوى وَهْـم. ولهذا، فإن الأنا النصّي، حسب النقاد من أمثال؛ جاك دريدا، ورولان بارت، وجاك لاكان وبول دي مان، ليس لها علاقة مع أنا المؤلف. وبما أنَّهما مرتبطتان بكيفية ضيقة ومعقدة، تنبثق الذات (autos) والحياة (bios) لتأخذا شكلا عبر الكتابة graphie)). وقد انتبه جورج غوسدورف إلى الوضع الذي أخذت تنحرف إليه السيرة الذاتية، مع مفارقة ما بعد الحداثة. فمن جهة، يُعلن عن موت الإنسان، وبالنتيجة عن موت المؤلف باعتباره كذلك: إن مفهوم الإنسان والشخصية والفرد المتمركز عليه في حد ذاته والمسؤول عن أفعاله وحركاته، لن يكون إلا شبحا.
تفترض المقاربة ما بعد البنيوية، عبر هذا التصور، أنَّ إشكالية التطابق هي، في المقام الأول، لسانية ونصّية. ويقوم الفهم النظري على استحالة المطابقة الكُلِّية، عبر اللغة وحدودها في الإمكان الفضائي- الزماني، بين «أنا» ذات التلفُّظ و«أنا» ذات الملفوظ. فالنص السيرذاتي يعرض الحياة ويبني الأنا، وهما معا يتطوران ولا يتشكّلان إلا عبر فعل الكتابة، من أجل تحقيق كيانيّة للنص لم تكن موجودة في بادئ الأمر. فالأنا ينبثق من هذا النص- الأنا الذي لم يكن واقعا في البداية- يكشف في آخر المطاف عن كونه بناء نصّيا، لا علاقة له مع مؤلف النص. وبالنتيجة، تصير كل كتابة للذات تخييلا، مثلما أنّ كل كتابة للحياة تصير تخييلا، ولا يبقى في المحصلة النهائية سوى الشخصيات تتراقص على أجناب الصفحة، بل يمكن بدورها أن تُفكَّك. فهل يجوز، بعد ذلك، أن نتحدث عن سيرة مكتملة؟
الكتابة خارج المركز
يُنْظر إلى نظرية رولان بارت (حول السيرة الذاتية بالأخصّ) ونظرية جاك دريدا، عموما، على أنّهما تشكلان أسس الإبستيمولوجيا ما بعد الحداثية، وأهمّ ميزاتها رفض التصوُّر الإنسي للذات كمصدر لدلالة الخطاب. فقد تمّت إزاحة الذات ما بعد الحداثية عن المركز، ما جعلها بلا مركز ثابت أو خارج نصّي تسند إليه دلالة النص، كاشفة عن أنّ الإمكانات المرجعية للغة هي في موضع شكّ.
لقد فقدت هذه الذات مركزها داخل المعنى الذي لم تعد قدراته المنطقية أكثر وضوحا، كما كان عليه الحال – مثلا – في القرن الثامن عشر. فلا يمكن للذات أن تسود العالم عبر عقلها، بل إنَّ الذات لم تعد تدرك نفسها كوحدة بعد أن استحالت إلى مُجرّد خطابات وشيفرات تتجاوزها وتحدُّها، ولم يعد لها بدوافع لا وعيها تلك السلطة المطلقة على تصرّفها. فهي مقطعيّة ومتشظّية ومُجرَّدة من وعيها الحاضر في حدّ ذاته، وباتت تخضع في الأخير للعبة «إرجاء» مستمرّة؛ أي أنّها ستكون بلا رسوّ، أو دون مرجع.
إنّ التأمُّل المناوئ للمرجع الذي يحصر النص في الاشتغال اللاشخصي للغة، قد وجد صداه كذلك عند جيل دولوز الذي يفضح «الأنا» المرجعي، وهو يقول: «ليست الكتابة أن يحكي ذكرياته، أسفاره، حبّه، حداده، أحلامه واستيهاماته، إذ لن يكون الضميران الأوّلان هما من يستفيد من شروط التلفُّظ الأدبي؛ فالأدب لا يبدأ إلا عندما يولد فينا ضمير الغائب الذي يرفع عنّا سلطة قول أنا». وفي هذه الحركة الواسعة نحو التفكيك واللاتحديد واللامرجع، فإن المُنظّرين الذين انخرطوا في ما صار يُصطلح عليه بـ«نقد الكتابة» La critique du graphe، رفضوا المظهر المرجعي للسيرة الذاتية وركّزوا على نصّية النوع. وقد تبنّى هذه المقاربة كلٌّ من بول دي مان، وروبرت إلباز، وميكائيل سبراينكر ولويز رينازا. فعلى سبيل المثال، يرى بول دي مان استحالة تعريف السيرة الذاتية بكيفية واضحة لا لبس فيها، بقدر صعوبة تعريف النوع تعريفا دقيقا، بعدما بات أمرا شائعا أن تخلق كلُّ سيرة ذاتية استثناءها عن المعيار، بقدر اختراقها الأنواع المجاورة لها، بله المتعارضة معها. وعلى هذا الاعتبار، فإن المقاربة التي بإمكانها أن تحيط بالذات – الإشكالية التي لم يتمّ الحسم فيها – هي تلك التي تدرس السيرة الذاتية في علاقتها بالتخييل، وتحاول أن تُميّزهما عن بعضهما بعضا؛ لأن السيرة الذاتية تمثّل، بالفعل، إعادة بناء ذاتي من منطلق الذاكرة، ومن عناصر الحياة وتجاربها المتباينة في الحكي المنظَّم والمنسجم إلى حد ما، عدا انحرافات الواقع التي تتخلّلها (استيهامات، أحلام، هواجس، انثيالات عاطفية..). وبما أنَّ السيرة الذاتية تثبت كتابة غياب الأنا، فإنه ينبغي أن تكشف عن نفسها بوصفها الأكثر ارتيابا من كل الأنواع، بسبب مشروعها من أجل كتابة ماهية الذات واكتشافها؛ وهذا يعني أمرين:
*إنّ التماهي بين كاتب السيرة الذاتية والشخصية، في اللحظة التي نتعرف فيها على القطيعة بين من يكتب، والذات التي صارت بدورها شخصيّة ثالثة يقوم عليها النص.
* إن ذات السيرة الذاتية ليس الأنا، بل الكتابة ذاتها؛ الكتابة التي تمثل البراديغم الذي يتجاوز كل تحديد أنواعي قبلي، ويشيد زمنيّته الخاصة.
فالمؤلفون إذ يكتبون الـ(أنا)، يوقفون الحاضر ويتحركون في اتجاه الماضي؛ فيبدو زمن الكتابة – والحال- كأنه زمنٌ عالقٌ يتمدَّدُ في كل سطر، يتقلَّصُ أو ينحرف. هذا الانزياح بين زمن الماضي والحاضر سيمَّحي عبر الذاتية السردية، بحيث سيكون من السخف أن يتطابق الزمن الواقعي مع زمن السيرة الذاتية، وأن يُطْلب من صاحب السيرة الذاتية أن يقول كلَّ شيء. فالتغير أو النسيان يسمح لكاتب سيرته الذاتية أن يعتبر بالحياة بطريقة مختلفة ميّزتها السنوات الماضية التي عاشها، وخلاصة التجارب التي حنّكت شخصيته ونظرته إلى العالم، وله في اللغة التي يكتب بها عزاء وسلوة.
كاتب مغربي