ما قيمة الرأي العام العالمي؟

كلما اندلعت قضية كبرى في العالم يعود إلى الأضواء مصطلح «الرأي العام الدولي» فيفرح به بعض البسطاء، لا بل يطبلون ويزمرون له وكأنه انتصار عظيم لقضيتهم، دون أن يتعلموا من التاريخ شيئاً. حتى لو كان هناك تيار عالمي جارف مؤيد لهذه القضية أو تلك، ماذا يمكن أن يقدم على أرض الواقع يا ترى؟ إن هذا المصطلح الهلامي المطاطي السريالي يذكرني بجملة قالها البطل في إحدى روايات (توماس هاردي) قال: «ليس لدي ما أقدمه للفقراء والمنكوبين سوى الدموع». وماذا يستفيد المسحوقون والمقهورون والمظلومون من الدموع يا ترى؟ أليست مجرد صك بلا رصيد؟ هل يحتاج الضحايا في أي قضية لمن يبكي عليهم، أم لمن يدعمهم ويأخذ بيدهم؟ دعكم من العواطف المهترئة، فهي لا تُطعم خبزاً. وحتى الحناجر التي تصدح في الشوارع دفاعاً عن هذه القضية أو تلك لا تفيد المعذبين في الأرض أكثر مما تفيدهم دموع توماس هاردي.
وكي لا تظنوا أننا نتكلم في العموميات، تعالوا ننظر إلى تاريخ التعاطف الشعبي الغربي مع بعض القضايا العربية. نحن هنا لا نتحدث عن دول عربية ديكتاتورية لا يساوي فيها الرأي العام قشرة بصل، ولا يُسمح له أصلاً بالتعبير عن نفسه لا في وسائل الإعلام ولا في الشارع، بل نتحدث عن دول تسمح بحرية التعبير والتظاهر. هل تتذكرون الضجة العالمية التي رافقت التحضيرات الأمريكية والبريطانية لغزو العراق؟ أتذكر وقتها أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير واجه في برامج تلفزيوني جمهوراً بريطانياً كبيراً، وكانت الأغلبية الساحقة ممن وجهوا الأسئلة لرئيس الوزراء رافضة لأي مشاركة بريطانية في الغزو. وقد بدا بلير وقتها وكأنه مُحاصر شعبياً. ثم أطلت علينا صحيفة (الديلي ميل) بعد ذلك بنتيجة استفتاء صاعقة، إذ عبر أكثر من أربعة وثمانين بالمائة من البريطانيين عن رفضهم للغزو الأنكلو أمريكي للعراق. لكن هل اتعظت الحكومة البريطانية، أو غيرت رأيها؟ لا أبداً، فقد تجاهلت الرأي العام تماماً، وشاركت في الغزو وما نتج عنه من كوارث تاريخية. لا بل إن رئيس الوزراء توني بلير الذي ضرب عرض الحائط برأي الشارع، حصل فيما بعد على وسام الفروسية من الملكة.
ولا ننسى أيضاً أن حتى الإضرابات والمظاهرات قلما تحقق مطالبها على الصعيد الداخلي في الغرب. ولعلنا نتذكر أن شوارع بريطانيا تحولت قبل عقود إلى ما يشبه ساحة حرب عندما فرضت رئيسة الوزراء وقتها مارغريت ثاتشر (الضريبة الشخصية) فثارت ثائرة الشعب لشهور وشهور، وفي النهاية لم تلغ الحكومة الضريبة، بل فقط غيرت اسمها.

أعظم المظاهرات الشعبية المؤيدة للقضية الفلسطينية خرجت في الغرب، لكن وماذا بعد؟ هل أوقفت العدوان على غزة؟ هل أثرت على المواقف الرسمية لحكوماتها؟

وكيف لا نتذكر إضرابات عمال المناجم بقيادة آرثر سكارغل التي هزت بريطانيا لفترة طويلة في ثمانينيات القرن الماضي، ثم أخمدتها الحكومة بشيطنة سكارغل وتصويره على أنه شيوعي أزعر. وهذا مجرد مثال بسيط على أن قيمة الرأي العام على الصعيد الداخلي حتى في البلدان الديمقراطية لا تساوي قرشاً في بعض الأحيان، فما بالك على الصعيد الخارجي، حيث لا تتردد الحكومات الغربية في أن تتصرف كوحوش كاسرة، فتمارس كل أنواع الهمجية والوحشية والسلب والنهب بحق الآخرين. ولا داعي للتذكير بما فعلته الديمقراطيات الغربية أثناء استعمارها لأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، لهذا لا تتوقعوا أبداً أن يكون الرأي العام في الغرب صاحب قرار عندما يتعلق الأمر بقضية خارجية، وكل ما يستطيع فعله التعبير عن تضامنه وتعاطفه مع هذه القضية أو تلك بدموعه وعواطفه فقط.
لاحظوا اليوم أن الشعوب الأوروبية والأمريكية في واد وحكوماتها في واد آخر. لا أحد ينكر أن أعظم المظاهرات الشعبية المؤيدة للقضية الفلسطينية خرجت في الغرب، لكن وماذا بعد؟ هل أوقفت العدوان على غزة؟ هل أثرت على المواقف الرسمية لحكوماتها؟ أم إن القيادات الغربية تزداد تصلباً وانحيازاً لإسرائيل على عكس رغبة شعوبها تماماً، حتى أنها أوقفت معونات (الأونروا) القديمة في أحلك وأصعب وقت بالنسبة للشعب الفلسطيني، ليس فقط لأنها تنصاع انصياعاً أعمى للحركة الصهيونية، ولا تتجرأ على معارضتها، بل أيضاً لأنها تعتبر إسرائيل قاعدة متقدمة للغرب في الشرق الأوسط، يجب حمايتها والحفاظ عليها بكل الوسائل، وليذهب الرأي العام إلى الجحيم. ولا ننسى أن وسائل الإعلام الغربية تخضع للمشيئة الإسرائيلية أصلاً، مما يزيد في تهميش الرأي العام الغربي وتقزيمه.
أما الرأي العام في الديكتاتوريات العربية والإسلامية فهو أصلاً في محل مجرور، وانظروا فقط ما حصل للمطاعم والمحلات التجارية التي حاولت التضامن مع غزة بوضع اسم (السابع من أكتوبر) على واجهاتها، فقد أزالتها السلطات بلمح البصر بضغط إسرائيلي. وبالتالي، إذا كان الرأي العام الحر في الغرب لا يقدم ولا يؤخر، فما فما بالك في البلدان التي تتحكم فيها الأنظمة العربية بكل ما يصدر عن الشارع. هل أعارت إسرائيل في تاريخها أي اهتمام لما يسمى بالرأي العام العربي؟ وكذلك إيران، فبالرغم من أن هناك تياراً عريضاً ضدها في الشارع العربي، إلا أنه يبقى مجرد عويل. هل تأثر النظام السوري أو غيره من الأنظمة العربية المكروهة برأي الشارع؟ طبعاً لا.
ولعل أفضل مثال على عبثية ما يسمى بالرأي العام الدولي كان (بان كي مون) الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة التي تمثل الدول المغلوبة على أمرها في العالم، أو ما يُسمى (الشارع الدولي) بينما مجلس الأمن يمثل القوة الحقيقية التي تدير العالم. وكان أقصى ما بإمكانه أن يفعله ذلك المسكين (بان كي مون) على الدوام هو التعبير عن القلق حيال القضايا الدولية.
إن التعاطف والتضامن الشعبيين الدوليين مع قضايانا لا يذكرني إلا بلايكات فيسبوك وتويتر.

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ما حكَّ جلدَكَ مثلُ ظفرِكْ فتـولَّ أنتَ جميعَ أمرِكْ
    وإذا قصدتَ لحـاجــةٍ فاقصدْ لمعترفٍ بفضلِكْ
    – الإمام الشافعي –

  2. يقول زياد:

    الرأي العالمي مجرد كلام عند لا يغني ولا يستم من جوع عند ضباع البشر الذين رسموا خطوط حمراء لاهدافهم السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تؤثر علي وضعنا السياسي

  3. يقول تيسير خرما:

    لم يستوعب عرب ومسلمون انهيار نظام دولي بغزو روسي إيراني همجي لسوريا وأوكرانيا بدعم صيني ففوجئوا بدعم غير مشروط بكل مجال لإسرائيل من كل أركان العالم الحر فور حدوث غزوة حماس كما حصل مع أوكرانيا حيث يعتبر العالم الحر أوكرانيا وإسرائيل قواعد متقدمة للغرب أمام عقيدة روسية توسعية بشرق أوروبا وعقيدة إيرانية توسعية بالشرق الأوسط مع استعداد شعوب أوكرانيا وإسرائيل لتقديم جهود وتضحيات بل وتحظى إسرائيل بميزة أكبر مع حاجة سياسيي الغرب لأصوات اليهود الإنتخابية وماكناتهم الإعلامية الضخمة ونفوذهم المالي الكبير

  4. يقول معاذ العبود:

    مع هذا يبقى الرأي العام ضروريا، عسى أن يصحو ضمير أحدهم فيستخدمه كذريعة للإصلاح.

  5. يقول سرمد عبد الكريم:

    الحقيقة دكتور الرأي العام العالمي هو جزء من اللعبة لا أكثر

  6. يقول د الهادي شلوف:

    لقد تعلمنا لكي ينجح الراي العام لابد ان يكون معه الجانب الذي يمتلك القوة والمال و هو ما نجده دائما في الجامع السعودي بصفة عامة في العالم

  7. يقول وليد السمور:

    صباح الخير يا دكتور فيصل ،،،
    لو كان الرأي العام الدولي يحرك السكون والساكن وينهي غمامات الشعوب المسكينة لكانت الكرة الأرضية عاشت بأمان وسلام …
    لكن ما تخطط له الحكومة العميقة في بريطانيا وتتولى الولايات المتحدة تنفيذه بالرغم من غضب شعوب الأمبراطوريتين المتحكمين بمصائر الشعوب …
    فكم من قرار دولي واجتماعات لمجلس الأمن ومجالس حقوق الإنسان لم تبدل شيئآ من الواقع الدولي ،، اللهم سوى تبادل الأدوار في الفيتو الأمريكي الروسي في مسرحية غزلية وهزلية في آن بين الجبارين وفق ما تقتضيه مصالح البلدين …
    أما الشعوب العربية المسكينة والمسحوقة وحتى المغلوب على أمرها فهي رهينة لأنظمة ديكتاتورية لا تعبأ بمطالب شعوبها رغم بساطتها بعيش كريم فقط ،،فهي لا تلقى من الجلادين وجلاوذة الأنظمة سوى البطش والقتل وغياهب السجون والأدلة والأمثلة ما زالت حاضرة حتى يومنا هذا ،، والموالون للأنظمة في بعض دولنا العربية باتوا خارج الحسابات ونالهم قسط من الإهانة والسجن ومغادرة البلاد طمعآ في البقاء على قيد الحياة ،،كل ذلك سببه المشغل الغربي الداعم لتلك الأنظمة البائدة …

  8. يقول ممدوح محمود الحناوي:

    لا زال العالم الغربي المتقدم تقنيا بعيد جدا عن الحضارة والقيم الإنسانية.
    ليس في مفردات عالم السياسة اي مفردة انسانية .
    الشارع تحكمه القيم الانسانية .وهو نقيض قيم عالم الساسة.

    الشيوعية كمبدأ بعيدا عن فشل تطبيقها على ارض الواقع.تحمل كثيرا من القيم الانسانية وحتى والروحية ايضا.كما أكده لي المرحوم المعلم الروحاني ندرة اليازجي.حيث قال
    (الشيوعية قريبة جدا من الإنسانية وحتى الروحية).
    بينما الرأسمالية التي تحكم العالم لا تملك اي قيم انسانية فما بالك بالروحية.
    تحياتي لك دكتور دائما تضرب على الوتر الحساس وتصيب الهدف في المنتصف .
    وتسلط الضوء على مصائب نعيشها ولكن نجهل حقيقتها وخطورتها وضرورة إعادة تسليط الضوءعليها.لتنبيه القطيع الذي لا يسلك الا الدروب الواسعة والسهلة .ويبتعد عن طريق الحقيقة الضيقة والصعبة.

  9. يقول Jaouad Chair:

    في احدى خطب سيدنا عثمان رضي الله عنه المختصرة والموجزة التي القاها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نريد قوما فعالين لا قوالين )

  10. يقول مجتهد:

    كلام صحيح وفي الصميم، إذا كان الرأي العام في الغرب

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية