ملاك دنينز، أو زدمير هي لغة الشاعر، ذلك باعتراف خطّي منه، وكما هو مستوضح في مقدمة الديوان «ما لم أستطع قولهُ لأحدهم بلغةٍ أخرى»، الصادر حديثاً عن دار النهضة العربية في بيروت، ذي العنوانٍ المُثير للجدل، إذ جاء بـصيغة استفهامية ذات معنى مبطن يضع القارئ بين فكي كماشة الحيرة. التعبير ليس مجازياً. لماذا لم يستطع قولهُ بلغة أخرى؟ إذن، بأي لغة قال؟ ماذا يقصد بلغة أخرى مؤكدا ومُصّرا على ذلك كمن يبرئ ذمتهِ من فعل متوقع حدوثه، كأن شيئاً ما سيُلتبس به مستقبلاً إذا كتب بلغتهم. أضع تلك «أُخرى»، والمقصود بها لغة معلومة في حال نطق بها ستجلب له الفضيحة، بعيدا عن المعنى الظاهري للكلمة وقريباً جدا من معناه الخفي بين مزدوجين، آخذا الأمر على محمل فلسفي كحالة وجودية، فاللغة تعريفاً هي قاموس الشعوب الذين هم أفراد من ذكور وإناث، وهم الجحيم بالنسبة إليهِ وفقاً للعقل السارتري؛ أي أن الآخرين سيحاسبونك على كلماتك/ أفعالك في حال كتبتها بلغتهم، لذا لجأ إلى لغة ابتكرها هو وليس لغة معتادة لدى الكل يستفهم بها، بذلك يخفي سراً ما ليدفع القارئ إلى متاهات الأسئلة والأجوبةِ.
وربما لأن (ملاك دنيز أو زدمير) هي ملهمته فـوصفها بلغتهِ الأم كـرغبة منه في تكريم نفسه بنفسه من خلالها، إذ بها شعر، وخاطب ودوَّن، ما التفت نظرهُ إليه في مكان إقامتهِ التركية؛ أي هي كانت بوابته لتدوين هذهَ الباكورة من القصائد لذا جاء في مقدمة الديوان
«إلى لغتي الأمِّ
ملاك دنييز أوز دمير».
وربما تكون تلك مصيدة كي يلفت نظر القارئ إليها، أو مكراً صحافياً كما فعل غابريل غارسيا ماركيز، حين سمّى روايته «مئة عام من العزلة»، أو ربما اللغة التي كتب بها دون إشارة إلى هويتها، ملامحها، لون بشرتها، جنسها، سواءً كان ذكرا أو أنثى هي صومعة التعبير، بذلك يكون أطلق لنفسه حرية ابتكار لغة جديدة تخصه وحده؛ لغة تليق بروح قصائدهِ وكينونتها، لكنني أحرر تلك الأخرى من المزدوجين، فأقع في حيرة التساؤل من أمر هذهِ الأخرى عائدة إلى مَن؟ فآخذ العبارة «لأحدهم بلغة أُخرى» على محمل التورية الثقافية، إذ يكون المورى القريب هي «لأحدهم» ذلك مجرد إشارة بسيطة، ويكون المورى البعيد هو «الإخفاء»، ويقصد به فئة من البشر التائهين غير الناطقين بالعربية لغة، في بلد أجنبي، ضالتي «اللغة الأخرى» عثرتُ عليها في قصيدة عنوانها «في اللغة الأخرى»، يُقصد بها اللغة التركية كون الشاعر عربي النطق والأصل، فيها يحاور نفسه (مونولوغ داخلي)، مفكراً في كلمة «سرير، حائط ، شارع، حي، مدينة»، وهي ليست مجرد كلمات عادية لأشياءٍ مادية لا معنى لها بالنسبة لشاعر يحلق ذقنه في حمام بيته في إسطنبول، صب فكره في كلمة المدينة، فالمدينة بالنسبة إليه ليست مجرد كتل إسمنتية متراصفة بجانب بعضها بعضا، تفصلها شوارع متناقضة، وأحياء ليلية، ومحافظة، وأغاني المهاجرين إليها؛ بل هي كلمة فضفاضة كأحلام الغزاة ومعقَّدة كالنقوش الحجرية.
إذن، هناك بُعد حميمي روحاني آخر للكلمة؛ مثلاً السرير كناية عن الراحة، والحائط كناية عن الأمان، والسند والشارع كناية عن الحرية، والحي كناية عن التجمع السكاني، ثم المدينة التي هي عبارة عن مجموعات حية. إذن التقاء تلك الكلمات في نص واحد كأنه يطالب بالراحة والأمان والحرية في المدينة التي هي جزء من البلاد أو الوطن. يغلب على القصائد مناخ اليوميات بلغة نثرية مكثفة أقرب إلى المحكية، بها وثّق ما أراده، وما رغب فيه، فالقصيدة بالنسبة إليه بوابة مشرعة يطل منها على الحياة، يغلب عليها طابع النستولوجيا، التي هي محرك الشعر بالنسبة إليه، كأنه بذلك يريد أن يحيي في نفسه ذكرى ميتة، كما هو مستوضح في قصيدة (شواهد منسية)، وفي المقطع الثاني من قصيدة (ما لم أستطع قوله لأحدهم ذاك الصباح) مشيراً إلى ولادته المتكررة؛ ولادة جانب نهر النيل، وولادة جانب قلعة صلاح الدين، الولادة الثانية ذكرته بحنينه إلى ولادته الأولى.
ولدتُ أكثر من مرَّةٍ
لكنني في كلِّ مرَّةٍ أُولدُ في أبريل
ولدت بجوار النيل والبوسفور
وقلعة صلاح الدين وبرج جَلَطة
في قصيدة (يوميات) التي هي ثلاث صور شعرية، مأخوذة فكرتها من الواقع الحي، استخدم في كتابتها صيغة الفلاش باك كضرورة شعرية ليعبر بها عن حجم المأساة فيها ساخرا من مفهوم الوطن. في الصورة الأولى هناك الحيرة، وفي الثانية هناك السخرية وألمٌ حاد لا يُستهان بهِ، وفي الثالثة هناك الصراع ـ صراع الوقت مع الكتابة لكثرة الأحداث.
1- هل كانت صدفةً
أن أبدأ تدوين يومياتي
في الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة؟
في مأزق كهذا
كيف أفصلُ العام عن الخاصّ؟
2- لم أجد شيئاً لأدوِّنهُ
بالأمس زارني صديقي
وكعادتهِ كان يتجنب الحديث عن المحاصرين
الخارجين من الميدان
وهم يضعون أيديهم خلف رؤوسهم كالأسرى
ولكن في بلادهم.
3- الوقت أضيق دائماً من أن نسمَّي الأسماء بمسمَّياتها
كل يومٍ
ونحن نخلط العرق بالنبيذ
ونشاهد أيامنا وهي تفلتُ من بين أيدينا.
الانتقال من مكان لآخر رغبة أو عنوة يترك شيئاً أليماً على هيئة ذكرى في أثر المتنقل، ذلك يساعد في استحضار أفكارٍ جديدة، فالألم هو مصدر الإبداع؛ ذلك ما أشار اليه ألفريد دي موسيه، كما إن التقدم في العمر أيضاً يُعتبر انتقالاً روحياً. نرى الجدة أو الجد يرويان للأحفاد سيرة طفولتهما ويفاعتهما بفرح، وكأن الحدث في صبيحة اليوم، والإنسان روحانياً كتلة من المشاعر، لذا وبطبيعته الفطرية، يحن إلى مكانه الأول مهما كانت المسافة الفاصلة بين المكانين. في هذهِ الباقة الشعرية، القصائد أشبه بالزهور التي نضعها على قبور من نزورهم كرغبة نابعة من الذات في إحياء المكان الأول، إذ دائماً إسطنبول مكاناً يذكرهُ بمصر مكاناً وروحاً.
سليم بركات هو الآخر حين انتقل من مكانه الأول؛ مدينته عامودا في سوريا إلى بيروت عاصمة لبنان؛ هناك كان مكانه الثاني الذي حرَّك في ذاته حنينه إلى مكانه الأول فكتب سيرته الذاتية؛ سيرة الطفولة والصبا، وهو لا يزال في مقتبل عمره الأدبي. المكان أصابه بوعكة حنين قاتلة، فحرّضه على الكتابة والتمرد في كتابة جنس أدبي يُكتب عادة حين يكتسب الكاتب خبرة وتجربة حياتية. ثم كتب رواية «ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟»، متكئاً على ذاكرته الأولى في مكانه الأول وهو في مكانه الثاني السويد. كما إن المكان الأول يساعد في سقاية الشخصية وتغذيتها فيُكسبها صفات وملامح خاصة تميّزه عن غيره وتظهر عليه، ثم تظهر في كتاباته شعرياً وروائياً وتلفزيونياً، كما في شخصية أبي صالح في مسلسل «التغريبة الفلسطينية» الذي اعتمد المخرج الراحل حاتم علي في إخراجه على ذاكرة الطفولة أي مكانه الأول، فالمكان شعرياً هو المحرِّض الرئيسي للكتابة.
يتضمن الديوان عشرين قصيدةً، في 56صفحة.
كاتب سوري