تبدو الصورة من الأعلى وكأنها صورة سريالية لم تَرسُمها ريشةُ فنانٍ أو يلتقطها مُصوِّرٌ بارع، بل أُحيلت وفق التدخّل والمعالجة الإلكترونية، لتكون باتّساعٍ لونَي الرمادي والأسود. صورةٌ لم يُرِدْها مَن التقطها من السماء، أن يقترب أكثر حتى لا تظهر المعالم؛ فربما حين يقترب يخرج له رأسٌ ينظر بعينين غاضبتين، أو يدٌ تُلوِّح لمن غادر المكان، وربما لعبةٌ تمسكها يدُ طفلةٍ صغيرة، أو حتى كرةُ قدمٍ ملتصقةٌ بحذاءٍ رياضي، وإلى جانبها نصفُ قدمٍ لشاب. وربما ضفيرةُ شابةٍ تأجّل عُرسها، وثمةَ مِشطٌ بيد امرأةٍ لم يزل لونُه أسودَ، وإن كان مُغطّى بالرُّكام.
ربما المصوّر تخيّل أشياء بالمئات، وربما بالآلاف من الصور أو المشاهد، لذا ظلّ بعيدا بعدسة كاميرته، ليرى المنطقة كلَّها، وهو يكتب في أعلى الصورة «غزّة». لكنها، أيّ الصورة، لم تكُن قد أخذت كلَّ القطاع بعين العدسة. فغزّة التي تبلغ مساحتها الإجمالية 360 كيلومترا مربعا، عبارة عن شريطٍ ساحليّ على طول البحر الأبيض المتوسط، وتحدّه جمهورية مصر العربية من الجنوب الغربي، ويبلغ طوله حوالي 41 كيلومترا، وعرضه يتراوح بين ستة كيلومترات وصولا إلى 12 كيلومترا. كانت غزّة مسرحا لمعارك إبادة طاحنة استمرت ما يزيد على العام ونصف العام، خلّفت لأهالي غزّة خسائر بشرية وصلت إلى أكثر من 48 ألفا بين امرأةٍ ورجلٍ وطفلٍ، و110 آلاف جريح، ودُمّر ما يصل إلى أكثر من 90% من المباني والبُنى التحتية. والأكثر رعبا. لم يزل أكثر من 10 آلاف تحت الأنقاض، لم تزل ملامحهم تغطيها الأتربة وأصواتهم يخنقها الركام.
وبعيدا عن الحرب وأرباحها وخسائرها، وعاطفتها وعقلانية تحليلها، فإن الصورة المُلتقطة من الأعلى تبقى هي الحزام الناري الذي يُطوِّق البصر. وربما لو تخيّلها المشاهد، وراح يُحرِّك عينيه كما تتحرّك طائرة الدرون، فإنه سيجد ليس الدماء فحسب، بل الكراهية الكامنة في نفوس قادة الكيان الصهيوني. كما يرى ذلك الغِلّ وتلك المأساة. فـ»درون العيون» لا تكذب، وهي تلتقط حتى بقايا الدخان من تحت الركام. وربما تلتقط أصوات نحيبٍ لأمهاتٍ فقدن الأبناء، أو لصبايا بقين في العراء، وربما تلتقط أيضا الأبَ الذي يبحث بين الأنقاض عن شيءٍ يُذكِّره ببيته.
لكن ثمّة واحدا ربما يقف بعيدا عن المكان ويتأمّل حالَ القطاع كلّه، أو ربما يتأمّل حالَ منطقته أو بيته، ويسمع السؤال الذي يأتيه من تحت الأنقاض: كيف السبيل لإعادة الحياة في مكانٍ محترقٍ ومُدمَّرٍ ومُنتهَكٍ وفيه رسائلُ الكراهية الصهيونية؟ ما الذي ستفعله لتُعيد الوجهَ المُحترقَ للقطاع؟ وربما يأتي سؤالٌ آخر من جارٍ له، بعيدا عن أفواه السياسيين والمتبرّعين، الذين تناخوا لإعمار القطاع من دول العالم، على أن يكون الإعمار مشروطا بالاستسلام، أو مشروطا بقضم خبزةٍ منقوعةٍ بالحسرة والألم.
أسئلة الدمار
يصعد المشهد إلى أعلى بنايةٍ لم تزل واقفة على عمودين إسمنتيَّين، كأن نحاتا قد نسي أن يُكمل العمودين الباقيين، أو أنه مات قبل إكمال نصبه المنزلي لشُققٍ عديدة. فيرى أن الأمر لا يبدو صعبا. وسيتخيّل: ثمّة مهندسون بلباسٍ سياسيّ سيأتون بصدرياتٍ صفراء، أو حمراء، أو حتى زرقاء، ينظرون بشاشاتٍ صغيرةٍ، لرؤية ما تلتقطه طائرة الدرون، لتحديد مسالك بدء الإعمار. ثم بعد يومين أو أسبوعين أو شهرين، وربما بعد عامين، حيث يبدأ ضخُّ أعمال الإعمار، يُشيرون إلى الجرافات لتأتي وترفع الأنقاض تماما، وترفعها إلى سيارات حملٍ كبيرةٍ لنقل الأنقاض إلى منطقةٍ فارغةٍ، ربما تشبه منطقة الطمر الصحي. فيما الأطفال والعوائل كلها تنام في خِيمٍ مزّقتها ريح الشتاء، وأحرقتها شمس الصيف، التي ستأتي ولم يكتمل الإعمار، أو ربما هناك مَن عاد لبقايا شقةٍ، وأحاطها بقطع قماشٍ أو بطانياتٍ، لينام سترا عن نظر الرجال إلى النساء، وهنَّ نائمات في شبه العراء؛ لأن الريح لا تستحي أن تُزيل جدران الأقمشة. لكن السؤال الآخر الذي لم يكن واضحا أو يخطر على بال أحد: ماذا بعد رفع الأنقاض وإعادة البناء؟ كيف للذاكرة أن تبقى ريانة وتُحيط رؤوس الجميع بالأسئلة التي لن يجرؤ أحد على الإجابة عنها أو التلويح بها؟ كيف للفلسطينيين عامة، والغزّاويين خاصة، أن يتذكّروا المأساة، بل أن يُذكّروا العالمَ أجمع؟
طائرة الدرون وأصوات غزة المدفونة
تلتقط كاميرات الدرون مجموعة من الأدباء والمؤرّخين والشعراء، وهم يتوزّعون حول محيط القطاع، وبعضهم انسلّ إلى الداخل ليسجّل ما يراه، لعلّه يستطيع أن يكتب أدبا واقعيا. وثمّة صراعٌ بين الكلمات، التي تتقاطع وكأنها تتقاتل، كلٌّ لمن يريد، وأيّ جهةٍ يسعى، لكنهم يكتبون عن أشهِر الحرب.
فهناك بعض الأدباء العرب الذين كتبوا عن غزّة، وأصدروا كتبا مشتركة أو روايات صدرت، أو تنتظر الصدور، بشكلٍ طوعي تضامنا مع الحرب والحقّ الفلسطيني.. مثلما هناك أدباء من الكيان، ربما بأمرٍ من ساسته، كتبوا عن الحرب باعتبارها إرهابا أو نصرا لهم، بهدف «إعادة تشكيل المشهد الثقافي والأدبي داخل الكيان». حتى إن المكتبة الوطنية للكيان الصهيوني، نشرت تقريرها السنوي بمناسبة أسبوع الكتاب السنوي الذي يُقام في شهر يونيو/حزيران من كل عام، وبيّنت فيه أنه «صدر ما لا يقل عن 82 كتابا نُشرت حول موضوع عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول والحرب على غزة، وذلك حتى نهاية مايو/ أيار 2024». وربما، وهو الأمر الأكثر مرارة، لم يتم تسجيل حتى نصف هذا العدد من الروائيين الفلسطينيين، وربما مثل العدد بالنسبة للروائيين العرب وحتى المسلمين. حينها، ستبقى وجهة النظر الواحدة التي تُترجم وتطوف العالم، وهي قد بدأت فعلا بترويج الأدب الصهيوني، مقابل انتصارهم الذي صوّروه أنه ليس إبادة جماعية.
درون تحكي واقع الأرض
تعود طائرة الدرون من جديد، لتلتقط أماكن فارغة، ربما كانت زراعية أو صحراوية أو أماكنَ لم يكن أحدٌ يفكّر أن يعيش فيها، لمنع البناء وتوسّع القطاع. تنفرش أمام الكاميرا خريطة بناءٍ جديدة، مثل ألعابٍ كرتونيةٍ، أو دعايةٍ لشركات الإعمار، وهي تصعد بالأبنية الملوّنة والشوارع المحاذية، والطرق الحولية، والأرصفة المرصوفة، والأسواق الجديدة. يظهر على جانب الشاشة العريضة التي أُلصقت في مبنى كبير، كأن يكون الأمم المتحدة أو حتى الكونغرس، أو أبنية غرف المسؤولين حول العالم، حيث تتصارع الألسن بأن يتم فورا الانتهاء من رفع الأنقاض، وإعادة الأحياء إلى ما كانت عليه، والشوارع يُعاد لها أسفلتها، لتغطية ما فعلته مجنزرات الدبابات الصهيونية والكاسحات وحتى الشفلات السود.
يغمض أحد الأشخاص عينيه ويتخيّل الصورة الجديدة، وهو يقرأ في صحيفةٍ أو يتابع الأخبار عبر منصّات وسائل التواصل الاجتماعي، أو ربما عبر شاشةٍ كبيرةٍ، وضعت عند تقاطع الغلاف الغزّاوي. وثمّة أطفالٌ يلعبون، وثمّة مدارسٌ تضجّ بالتلاميذ والطلبة، وثمّة باعةٌ ينادون على بضاعتهم. يعيشون فوق أرضٍ تعرّضت للاحتراق. لكن الرجل الذي أغمض عينيه، تخرج له صورٌ مرعبة، حين تصرخ الأرض، ويسمع الصوت كأنه زلزالٌ في رأسه. صوت صرخات لم تأتِ من الآخرة، بل من أفواه أناس لم تُستخرج جثثهم، وتحوّلت الأنقاض وحفرها إلى مقابر. وثمّة نسيان سيقال عنه نعمة، لأن الحياة، كما رسمها القاعدون في الأبراج السياسية العالية، لا بد أن تستمر وفق السلام الذي خُطّط له.
متحف الأرض: ذاكرة لا تُمحى
ربما كلّ شيءٍ سيعود كما في الانتفاضات السابقة. وإن كان طوفان الأقصى هو الأعنف والأكثر دمارا.. وحتى لا يتم النسيان، ليس في طريقة عرض الحرب وأسبابها، بل بما آلت إليه آلة الحرب. وقبل أن يتم رفع أوّل (كيلة) من الأنقاض الغزّاوية، تبرز المساحات الفارغة الأخرى من الأرض، ليتم فيها بناء مدن ٍجديدة. في كلّ محافظة من القطاع، ثمّة أرضٌ فارغةٌ دائما، ليست زراعية. يتم فيها بناء مدنٍ جديدة، بأحياءٍ جديدة. ليس لكونها أقلّ كلفة اقتصاديا، فدمار 90% من القطاع يعني الدمار الكلّي، وليس لأن عجلة الإعمار هي الأسرع من عملية إخلاء المكان كليا ومن ثم البناء، وليس فقط لنقل المكان أو تغيير الخريطة، بل لكي لا ينسى أحدٌ ما حصل من دمار. وأن يبقى المكان متحفا أرضيا مفتوحا للعالم، سواء بالزيارات المجانية للوفود، أو تكون نقطة لاستقبال المسؤولين من كل العالم. يُعزف فيها السلام الوطني للدول، وليبقى المكان شاخصا لكتاباتٍ أدبيةٍ واقعية، وحتى يبقى صوت من دُفنوا هناك ـ تحت الأنقاض ـ مسموعا حتى قيام الساعة.
كاتب عراقي