متحف نجيب محفوظ… الذاكرة الروائية للأديب في تكية أبو الدهب

وسط الحواري الشعبية وأجواء القاهرة التاريخية، التي استلهم منها الأديب نجيب محفوظ رواياته وشخصياته، وقع الاختيار على تكية أبو الدهب لتكون متحفاً لمقتنيات ومؤلفات صاحب نوبل، بموجب القرار رقم 804 لسنة 2006 الذي اتخذه وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني نزولاً عند رغبة المثقفين المصريين، ولأن التكية واحدة من المباني الأثرية المهمة، فقد تأخر تنفيذ قرار إقامة المتحف طوال السنوات الماضية، لحين الحصول على التصريحات اللازمة من الجهات الأثرية المختصة.
وترجع أهمية الفكرة الثقافية التنويرية التي أضحت واقعاً مشيداً على الأرض إلى القيمة الإنسانية والأدبية والتاريخية التي يعكسها المتحف، بوجوده الراسخ في بقعة حضارية تترجم الكثير من المعاني ذات الصلة بالتاريخ الفني والجغرافي والمعماري، وهي ذاتها المعاني التي تأسس عليها أدب نجيب محفوظ، وانطلق منها الأديب ليسجل ملامح المكان والزمان في روايات اعتنت بحفظ الذاكرة السياسية والوطنية، وقدمت عبر رؤى فلسفية عميقة تفسيرات مهمة للصراعات الكونية وطبائع البشر، واختلاف المراحل، وانتصارات وإخفاقات الإنسان على اختلاف درجات وعيه وثقافته وسمات عصره .
بدأ محفوظ مشواره الإبداعي الطويل بالرواية التاريخية، متمثلة في أولى تجاربه «عبث الأقدار»، ثم مضى في المضمار نفسه، فكتب «كفاح طيبة» و«رادوبيس» و«أمام العرش» و«العائش في الحقيقة»، أي أن التاريخ كان محركاً أساسياً للأحداث وخلفية ضرورية أثرت كثيراً في إبداع الأديب الكبير، إذ استوحى منه ما يعينه على رسم ملامح الشخصية المصرية بتطوراتها الفكرية والمعرفية وتجاربها الحياتية، ولو أنه انتهج بعد ذلك نهجاً اجتماعياً سياسياً ، لكنه لم يهجر تماماً المنطقة التاريخية وظل على صلة وطيدة بها، بيد أنه غاير في مسألة التوظيف فكتب «الحرافيش» من منظور شعبي ليحيطنا بالمفهوم العام للقوة في مواجهة القانون الذي تصنعه القوة نفسها أحياناً. وأبرز كذلك تأثرات وتأثيرات البيئة الشعبية في التكوينات الإنسانية لأبطال رواياته، ورسم من بنات أفكاره صوراً لأنماط الحياة المختلفة في الأحياء الشعبية بخصوصياتها ودلائلها، كما في روايات «خان الخليلي» والثلاثية الشهيرة «بين القصرين قصر الشوق السكرية»، ولهذا كان مشروع المتحف الذي يشمل أقساماً متعددة تضم مقتنياته الشخصية، الملابس والأحذية والنظارة وأدوات الحلاقة، ومكتبته وأوراقه وأقلامه وجناحاً خاصاً لرواياته، استحقاقاً يجذر به قلمه وموهبته وإسهامه الروائي والقصصي، بعيداً عن امتياز نوبل، الجائزة التي وضعته في المشهد العالمي فصار يقيم إعلامياً بمقتضاها.
ونعود للمتحف وطبيعته ومكوناته فهو يضم قاعة ندوات وقاعة عرض سينمائي ومكتبة سمعية وبصرية ومكتبة عامة تشمل الدراسات النقدية والأبحاث التي تناولت أدبه بالتحليل والتفنيد، إضافة إلى الطبعات والترجمات القديمة والحديثة لرواياته وكتاباته، بما فيها المسودات التي كتبها محفوظ بخط يده. وتم تخصيص جناح يحمل اسم الحارة يشير إلى كل ما كتبة الروائي الراحل عن الحارة المصرية، التي تميز بها أدبه، وما كتبه في مراحله الأخيرة، كأصداء السيرة الذاتية وصدى النسيان وأحلام فترة النقاهة، والمدونات، والخواطر الشخصية وبعض التسجيلات، ويضم ركن الجوائز والأوسمة شهادة نوبل الأصلية وقلادة النيل، ويتوسط بهو المتحف التمثال رقم 68 للفنان أسامة السروي.
وفي مبادرة تشجيعية فتحت وزارة الثقافة أبواب المتحف بالمجان لعدة أسابيع لحث الشباب والمهتمين على الزيارة كنوع من دعم الصلة بين الجماهير وفروع الثقافة المختلفة، ومن ناحية أخرى تنشيط السياحة في منطقة القاهرة التاريخية التي شهدت مولد ونشأة نجيب محفوظ، وكانت عاملاً من عوامل تكوين موهبته وثراء إبداعه الذي بدأ من تصويره للبيئة المحلية ووصل إلى العالمية ليصبح علامة دالة على عبقرية روائية وقصصية نادرة.

٭ كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية