رواية «مرآة واحدة لا تكفي» للكاتب الفلسطيني حسن أبو دية تستمد مادتها الحكائية من مرجعية تنهل من الواقع المأزوم، الذي اتخذ في تعقيداته إشكالات عدة، حيث تلخص جزءا من سيرته الذاتية المشكلة لعوالم عمله الفني في جوانيته، إذ لا يلبث هذا الأخير بما يحويه من مضامين ومشاهد غنية بالصور والمعاني، ملامسة الوجدان والمشاعر الإنسانية النابضة، في همساتها المتطلعة نحو غد أفضل، وهو المعنى المرتحل الذي يمثل ذاك الحضور القابع في الذوات مهما كان جنسها، ما دام العمل السردي يعالج قضية كبرى في تاريخ الإنسانية جمعاء، الحامل للمشاغل والهموم اليومية، والقضايا الشائكة، والمتطلع دوما لبزوغ فجر طال انتظاره. في هذا المعنى، شيد الكاتب الفلسطيني حسن أبو دية نصه الإبداعي الذي بين أيدينا، الصادرعن الآن ناشرون وموزعون ـ عمان ـ الأردن في طبعتها الأولى 2019.
الحقيقة بين المرئي واللامرئي
إن المجازر كما ذهبت إلى ذلك الرواية التي ترتكب في حق البشرية، لا تتسم دائما بمسحة مادية كمعطى يقيني، وإنما تطال أيضا الجوانب الأخرى المتعلقة بمسألة الهوية والثقافة والمعرفة والعادات والتقاليد، يقول «داخل كل مجزرة قصة، حالة إنسانية» وهي مجزرة من نوع ثان بالمفهوم الشامل، مهمتها تعطيل المشاريع النهضوية، التي تتم بموجبها عملية الفقد الذي يجتاح الكينونة، ويتعلق الأمر، بالرجات التي تهز التوازن النفسي، والاضطراب المقلص من بؤر الاندماج في الواقع تحت طائل الغربة والاغتراب. ولنا في هذا السياق، أن نميط اللثام عن التوظيف المستنجد بآليات القمع والذوبان والتهجين، في حزمته المفاهيمية المخاتلة، وحمولته المعرفية العميقة المضللة للآخر، أي أنه يحرص على إفساد الذات في رؤيتها لذاتها وللعالم والإنسان في الحياة، يقول أيضا الراوي في سياق مشابه للندا الطالبة الجامعية التي تدرس الحضارة الشرقية، وهي أحد أبرز الشخصيات الرئيسية على لسان سامي بطل الرواية « أتدرين يا لندا.. أعني (كفاح)، نحن شعب غريب، تقرأين سيرة الوطن في ملامح حياتنا، لا يمكنك أن تمري على سيرة أيّ منا، دون أن تتعثري بمحطات فاصلة لتاريخه، وكأننا حجارة فسيفساء تتجمع لترسم وطنا أزالوا اسمه عن الخريطة، ودفعوا بشعبه إلى أحضان المجهول، إلى الخيام، إلى أنياب الغول».
وهذا الأمر كما هو طالع من النص؛ يحيلنا في أي حال من الأحوال إلى عالمين، ونخص بالذكر، عالم الحقيقة وعالم المظهر، وبين هذين العالمين تتموضع إرادة القوة بالتعبير النتشوي، لتلعب لعبتها في تحديد الأدوار والمهام الثقافية والمعارف المنشودة، وهي الحقيقة التي أعلن عنها زرادشت، حينما خاطب الحكماء الذين يتلاعبون بالمعنى على الصعيد الأنطولوجي، إذ تعكس ذلك الحضور الذي يتمأسس على الأزواج المفهومية الطامحة للسيادة المغلفة بمشاعر التفوق، إذ يمارس فعل المحو للآخر، ويتعلق الأمر، بالتراتب في صيغه المتعددة، التي تتغذى عليها المقولات المركزية عبر تاريخها الضارب بجذوره في القدم، ولا تزال لحد الآن تشكل الإرث الفكري والثقافي إلى وقتنا الراهن، فتغدو الذوات في مسايرة الحياة، تعيش اغترابا موحشا وانسلاخا عن الهوية، وقد عبّر المقطع الآتي عن هذه الأزمة بقول السارد على لسان سامي «قلت سيري بهدوء، فالكاميرا هنا تشي بأننا غرباء عن المكان، ولا أريد لأحد أن يشعر بذلك. همست لكنك لست غريبا، أنت من هنا! فرددت بصوت منخفض: كنت، لكنني الآن غريب. وجرحتني كلمة غريب، آه! كم هي الحقائق التي تجرحنا عندما نقف أمامها وجها لوجه!».
وعلى ضوء هذه الحقيقة، يراهن المتن الحكائي كخطاب أو كنص إبداعي، تجاوز الخطية في إثارة مجموعة من الإشكالات، لعدة عوامل وأسباب، حتى يركب متخيل الذات قاطرة الأسئلة في استقراء الواقع المعيش، أي عن طريق البحث عن أجوبة للأسئلة القلقة التي تجتاح الكينونة، بالمعنى الذي يستجلي مكنونات الأشياء التي تتراوح بين الحضور والغياب، والانبعاث والاندثار، والظهور والتلاشي، انطلاقا من العودة إلى الأشياء في ذاتها بلغة الفيلسوف إدموند هوسرل. فمن خلال مواكبة الروائي لمستجدات العصر؛ يحاول استنطاق الجوانب اللامرئية من الحياة، لعلها تقدم له خدمة جليلة في ملء الفراغات والفجوات، التي من خلالها يتم خلق مرايا تضمد جراح الذاكرة والتاريخ، عبر بوح يعيد للأشياء نفسها الجديد، وشحنها لتبقى متقدة معلنة عن الوجود الحقيقي؛ لأن في اللامرئي كما قال سامي للندا «دروب متشابكة تجمعنا الأقدار على ظلالها في الأرض».
وهذا الحديث يجرنا إلى استحضار الإهداء الذي قال فيه الروائي الفلسطيني حسن عبد السلام أبو دية «إلى كل من يهدينا مرآة تكمل لنا الرؤية» وهي المساحة التي يغمرها الضوء في ظل الارتواء، الذي يتجنب الشك واللايقين، إلى المحطة التي تملأ الجوانب الدائرة بالكينونة في انفجاراتها، وفيها إرغام، كما أشار الناقد المغربي محمد معتصم للوقائع الصلبة على التحول إلى متخيل ممكن الفهم والاستيعاب، وهو تأوّل يعيد التعريف بالأشياء، وهو ما تجلى في نبرة السارد على لسان بطل الرواية «فليس غريبا أن يكون اسم زوجتي كفاح، هو وكثير من الأسماء نطلقها على الجنسين؛ أي ليس له هوية جنسية، هويته تكمن في الفعل المقاوم للواقع الزائف؛ وهو مطلوب من الجنسين».
الرواية تراهن على تقويض اللامعقول في المجالات التداولية بتغيير الوقائع والمشاهد، إذ يتيح للذوات تجاوز كثافة التجارب وتعديل علاقاتها بالأشياء، عن طريق إعادة رسم المصائر من خلال كسر القوالب المتزمتة أو الضيقة، بما هي ترتيب لأنظمة المعاني.
هذه الحقيقة المتفجرة من المقطع السردي، جاءت أصلا لتوخز كل صوت يعشش داخل الضمائر الحية حتى تتكلم أو تتفوه في هذا الوجود الرحب، مسمعة الكائنات الأسرار والخبايا التي لطالما تلفعت بكفن الصمت، واندست وراء الأستار والحياة الخفية، وهي مرآة لها قابلية التنزيل، ضمن فضاءات الممكن، من حيث استقلالية التفكير الذاتي الحر المتجاوز للإرادة المسلوبة، ونتحسس هذه التجربة، في ظل خلخلة الأنموذج لنظم الواقع الملغم؛ كتشخيص جواني يقيم تعارضا بين الثوابت الراسخة والطروحات أو الأحكام الجاهزة، فالموقف هنا يسعى جاهدا في كشف وجوه الدواليب، التي لم تعلن عن نفسها إلا في إطار المساحيق الزائفة، والحقائق الواهية المتوسلة ببنى الخطابات الرسمية المنضوية تحت شرفات الأبستيمي.
في هذا المعنى، فالرواية تراهن على تقويض اللامعقول في المجالات التداولية بتغيير الوقائع والمشاهد، إذ يتيح للذوات تجاوز كثافة التجارب وتعديل علاقاتها بالأشياء، عن طريق إعادة رسم المصائر من خلال كسر القوالب المتزمتة أو الضيقة، بما هي ترتيب لأنظمة المعاني، ولن يتأتى هذا إلا في ظل انكماش رقعة المجهول، والعمل على توسيع رقعة المعلوم، تطالعنا هذه المشروعية بأفكارها الخصبة والمنتجة في جمالية سردية تقمص فيها الراوي شخصيات أبطال القصة البارزين «لندا» مجاوزا بين ضمير المتكلم والمخاطب «ظللت صامتة رغم محاولات السائق لبدء حديث ما، كم مرآة نحتاج لرؤية الصورة كاملة؟ ما أروعك يا سامي عندما قلت ذات مساء: مرآة واحدة لا تكفي للرؤية!»، لأن الحقيقة كما يقول الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، تحب دائما أن تتخفى، وهذا هو حال العالم اليوم، كما يراه الروائي حسن أبو دية، كون مسألة الحقيقة تعبر عن أزمة تزعزع القناعات، وتهز الثوابت وتعمل على استزراع هويات جديدة ترسخ الحيرة والتوتر، وبالتالي، تقضي على السؤال المصيري، وهي حقيقة حاملة لنزعة أكثر راديكالية تشرعن لأيديولوجيات معينة داخل حلبة الصراع الفعلي، وهو ما عبر عنه سيغموند فرويد في أعماله بفطرة الموت، نتيجة «الدوافع اللاشعورية والغامضة في إلحاق هذه النهاية بالآخر، كتعبير عن مضامين العنف وإرادات الانتقام والحرب والتصفية والإعدام التي تقبع في كل ذات» بتعبير محمد شوقي الزين.
الكتابة عند حسن أبودية هي البحث عن المعنى الذي يعد من أكثر المعضلات في الوقت المعاصر، فثراء التجربة يعكس بشكل كبير معرفة الذات في أفضل الحالات، من أجل تبديد الأوهام وتعرية الواقع بإزالة الأقنعة، فحقائق الأشياء لا تأتينا بشكل مباشر، بل بطريقة غير مباشرة، لأننا أمام تأويلات، وليست حقائق كما ذهب إلى ذلك نيتشه، وعلى هذا الأساس، فالكتابة كما أشار الروائي حسن أبو دية في إحدى حواراته هي ممارسة الحياة، لذا، يقول إن في أعماقه طفلاً يحب الخربشة، وهذا الطفل يهدي خربشاته لكل أولئك الذين لا يزالون يحتفظون بأطفال في أعماقهم. أكتب للرصيف.. للبحر.. للفقراء.. للأنقياء .. للأزقة.. لذرات العتمة.. للمطر والريح وقوس قزح، أكتب للفجر الذي طال انتظاره.
كاتب من الجزائر
كلّ الامتنان لهذه القراءة العميقة لروايتي..