انتابني شعوران متناقضان وأنا أشارك بصفتي مقدمةً لحفل الافتتاح ومتحدثةً في إحدى الندوات قبل أيام في «مؤتمر جائزة الملتقى الأول للقصة القصيرة العربية» في الكويت. شعور بالإعجاب لهذا التصميم من الأديب طالب الرفاعي، على السير عكس اتجاه الريح بتبني فن القصة القصيرة وإنشاء جائزة لها تدخل دورتها السادسة، وإقامة مؤتمر ناجح بكل المقاييس العلمية والتنظيمية، بتمويل من جامعة الشرق الأوسط الأمريكية في الكويت (AUM) لمؤسسها فهد العثمان، وهي مبادرة تستحق التثمين، حين يهتم صرح أكاديمي للتخصصات العلمية بمواصفاتٍ عالمية برعايةِ جائزةِ للقصة القصيرة ومؤتمرٍ يدور حولها.
أما الشعور الثاني فكان شعور التقصير تجاه فنٍّ شكّلَ الذائقة الفنية لأجيال تربينا على أدبها، فكانت القصة القصيرة سيدة متوجة تتقاسم إمارة الأدب مع الشعر طيلة القرن العشرين، إلى أن أزاحتهما الرواية عن عرشهما، بل يندر أن تجد روائيا أو كاتبا مسرحيا، حتى شاعرا لم يُجْرِ قلمَه في كتابة القصة القصيرة، وتفاقم شعور التقصير عندي، وأنا التي أجريت مئات اللقاءات التلفزيونية مع أغلب مبدعي العالم العربي، كان نصيب كتاب القصة القصيرة فيها ضئيلا جدا، أمام سيطرة الروائيين. فكان لا بد من حضور هذا المؤتمر للانتباه لحجم الإهمال لفن أدبي هو أصل الحكاية كلها. وسعدت كثيرا بالتعرف على تجارب جديدة تكتب القصة القصيرة باحتراف مثل المغربيين أنيس الرافعي وإسماعيل غزالي، أو الأديب المصري سمير الفيل الفائز بجائزة الملتقى لهذه السنة، وهو الموجود في ساحة الكتابة الشعرية والنثرية منذ ستينيات القرن الماضي. وقد اصطحبت معي عدة مجموعات قصصية لإعادة اكتشاف هذا الجنس الأدبي المظلوم، ومنها مجموعة مميزة للقاص الكويتي عبد الهادي الجميل.
حضور هذا المؤتمر أثار لديّ كثيرا من التساؤلات، خاصة عن سبب إعراض الناشرين عن هذا الفن، وقد كانت هذه التساؤلات محورَ مداخلتي إذ أصبحت جملة «نحن نعيش في زمن الرواية» كليشيه تتناقله الألسنة ونستخرجه كما يستخرج الساحر الأرنب من القبعة، كلما اشتكى أحد أمامنا تراجع مقروئية الشعر، أو إعراض الناشرين عن القصة القصيرة أو إهمال المسرح المكتوب. ولكن أليست هناك أسباب موضوعية أدت إلى هذه المسلَّمة، وحولتها إلى أمر واقع؟ ثم نتساءل ثانية هل هي فعلا حقيقة مطلقة لا استثناءات لها؟ وأخيرا سؤال ثالث مشروع: هل هو قدر مؤبد لا أمل في تغييره؟
الملاحظة الأولى التي يجب أن لا تغيب عن بالنا ونحن نتناول موضوع «القصة القصيرة وقضايا النشر» أن أغلب الروائيين الكبار هم كذلك كتاب قصة قصيرة، سواء تعلق الأمر بالعرب أو بالأجانب، فنجيب محفوظ الأديب العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل كتب خمس عشرة مجموعة قصصية، أي ما يعادل ثلث إبداعه الأدبي، بل آخر ما كتبه «أحلام فترة النقاهة» يدخل ضمن الفن القصصي. ولواسيني الأعرج الروائي الجزائري المكثر، ست مجموعات قصصية، ويصح الأمر عكسا أيضا فحتى الذين أخلصوا للقصة القصيرة كتبوا الرواية، ويكفي أن نذكر أن ليوسف إدريس ست روايات. وعدد الروايات التي كتبها طالب الرفاعي تعادل عدد مجموعاته القصصية.
فلماذا طغت الرواية إذن على باقي الفنون الأدبية وعلى القصة القصيرة تحديدا؟ قد يخالفني الكثير الرأي، ولكني مقتنعة بأن مملكة القصة القصيرة هي المجلات الأدبية والملاحق الثقافية في الجرائد. وهذا تقليد عُرف منذ عهد الآباء الثلاثة المؤسسين للقصة القصيرة وصانعي مجدها: الأمريكي إدغار ألان بو، والفرنسي غي دي موباسان، والروسي أنطوان تشيخوف. فأغلب نتاج القصة القصيرة، سواء عند العرب أو عند الغرب كان ينشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعد ذلك في مجموعات قصصية. وغياب المجلات الثقافية وانطفاؤها واحدة بعد الأخرى، قلص المساحة التي تتحرك فيها القصة القصيرة، ودفعها لمحاولة افتكاك حصة من مجال شغلته الرواية وهو النشر في كتاب، لأن الرواية لكبر حجمها تجد مجالها الطبيعي في كتاب لا في مجلة أو جريدة.
المطّلع على حركة النشر يرى أن اسم الكاتب هو الذي يروّج للمجموعة القصصية، وقليل من يرغب في شرائها لاهتمامه بهذا الفن سوى الشغوف به. فالقارئ يشتري مجموعات قصصية لأن كاتبها كافكا أو بورخيس أو همنغواي من الأجانب، أو نجيب محفوظ وغسان كنفاني من العرب، لأن سطوة الاسم تفرض نفسها. ولكُمْ أن تتخيلوا فرصة كاتب جديد يريد نشر مجموعة قصصية حتى إن كانت جيدة. إنها ببساطة أقرب إلى الصفر.
ثم هناك عامل أساسي في تسيّد الرواية على المشهد الثقافي، وتحوّلها إلى الابنة المدللة للناشرين وهو طفرة الجوائز المرصودة لها منذ بداية الألفية الثالثة. ولو طلبنا من أي مهتم بالأدب أن يعدد لنا أول ما يخطر بباله من جوائز مخصصة للنثر لذكر جائزة الشيخ زايد وجائزة كاتارا وجائزة البوكر العربية، فالمبالغ المرصودة لها تسيل لعاب الكتاب والناشرين على السواء، بل شاعت بدعة في السنوات الأخيرة وهي أن يضيف الناشر في عقده مادة تسمح له باقتطاع نسبة مئوية معتبرة من جائزة مخصصة للكاتب حصرا، وإلا لن ينشر الكتاب. فأصبح الناشر التاجر يضرب عصفورين بحجر: زيادة نسبة مبيعاته إن اشتهرت الرواية أو فازت بجائزة، ونصيبُه المفروض من الجائزة نفسها. في حين أن جوائز القصة القصيرة تعيش في الظل، رغم المصداقية العالية التي اكتسبها بعضها، وما جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية إلا دليل على ذلك.
وأضيف أن للرواية أيضا إمكانات لا تمتلكها القصة القصيرة، تغري الناشرين بتفضيلها، منها إمكانية تحويلها إلى فيلم مع ما يعنيه ذلك من انتشار إضافي وزيادة مبيعات ترفع الرصيد أيضا. وهذا أغرى بعض كتاب القصة القصيرة المميزين، ولا أعمم بنفخ قصتهم لتصبح في حجم ما اصطلح على تسميته نوفيلا، حتى تدخل ضمن الرواية ويسمح لها بالتنافس للحصول على جائزة.
ولعل اللغط الذي أثير قبل سنوات حين فازت رواية «بريد الليل» لهدى بركات بالبوكر سنة 2019، يشير تلميحا إلى هذا الأمر فبعض النقاد الثقافيين ذهب إلى أنها مجموعة قصصية ربطت بخيط متعسف لتصبح رواية. وكم من رواية قرأناها تعطينا انطباعا صادقا أنها قصص قصيرة فرض عليها أن تتزوج عرفيا ليضمها بيت الزوجية المدعو رواية. وحين نسأل الناشرين: لماذا التركيز على نشر الرواية وإهمال المجموعات القصصية، لا يخرج جوابهم للأسف عن أمرين: الأول أن المجموعة القصصية لا تُباع، ويتغافل الناشر عن دوره في الترويج لكتابه وتعريف المتلقّي به، وصنع حالة ثقافية ولا يتبع فكرة «الجمهور عاوز كده» التي أفسدت الفن، وهي الآن تنخر عظام الإبداع الأدبي أيضا. والجواب الثاني أن ما يعرض على الناشر من الروايات أكثر بكثير مما يعرض عليه من المجموعات القصصية، وهي حجة أشبه بالسؤال/الأحجية أيهما ولد قبل الآخر البيضة أو الدجاجة؟ ويمكن رد هذه الحجة بأن تفضيل الناشر للرواية هو ما جعل الروائيين يتقدمون وينكفئ الآخرون وليس العكس، بل دفع بعض المجيدين في كتابة القصة القصيرة ليجربوا حظهم في كتابة الروايات لعل ما يكتبونه ينشر وإلا سيكونون كمن يُحدِّث نفسه فقط.
والمطّلع على حركة النشر يرى أن اسم الكاتب هو الذي يروّج للمجموعة القصصية، وقليل من يرغب في شرائها لاهتمامه بهذا الفن سوى الشغوف به. فالقارئ يشتري مجموعات قصصية لأن كاتبها كافكا أو بورخيس أو همنغواي من الأجانب، أو نجيب محفوظ وغسان كنفاني من العرب، لأن سطوة الاسم تفرض نفسها. ولكُمْ أن تتخيلوا فرصة كاتب جديد يريد نشر مجموعة قصصية حتى إن كانت جيدة. إنها ببساطة أقرب إلى الصفر.
إذن في ظل هذا الواقع الذي فرضته ظروف موضوعية مثل غياب المجال الحيوي للقصة القصيرة وأعني الجرائد والمجلات، وظروف غير موضوعية مثل تحيز الجوائز للرواية على حساب المسرح المكتوب والقصة القصيرة، هل على كاتب القصة القصيرة أن يبقى يندب حظه فيعرض عن هذا الفن الجميل الذي شهد رواجا كبيرا في القرن العشرين، وكان له كباره مثل يحيى حقي ويوسف إدريس ومحمد المخزنجي وزكريا تامر وقبلهم إبراهيم المازني؟ أم يتحول إلى الرواية وهي مضمونة النشر، بإغراء الجوائز وكثرتها وسخائها؟
أرى رغم هذه القتامة التي تحيط بالقصة القصيرة وهذا الحصار الظالم من الناشرين، أن ما أتاحته التكنولوجيا ووسائل التواصل الحديثة فرصةٌ كبيرة لاسترجاع أمجاد هذا الفن المكثف الجميل، وإعادة الاعتبار له، وكسب قراء جدد لا صبر لهم على ساعات القراءة الطويلة. إذن يجب على كتاب القصة القصيرة أن يجترحوا سبل نشر جديدة تستغل ميل القارئ المعاصر الذي يقرأ على هاتفه الذكي ولوحه الإلكتروني، وتعوّد على أن لا يقف طويلا أمام النصوص الكبيرة وهو ابن الريلز وتتابع الفيديوهات على التيكتوك والتسلسل اللانهائي للمَشاهد في الإنستغرام والفيسبوك، بل هي فرصة ملائمة أكثر للقصة القصيرة جدا لترويجها كما تروج مقولات واقتباسات فلان وفلان. القارئ الجديد إن صحت التسمية تلائمه القصص القصيرة التي لا تستغرق منه دقائق معدودة لقراءتها، ولا تأخذ حيزا كبيرا في جهازه. فلعلها فرصة لكتّاب هذا الصنف الأدبي أن يستغنوا عن سلطة الناشر في ما يوافق على نشره وما لا يوافق، ويستفيدوا إعلاميا وإعلانيا مما تتيحه لهم التكنولوجيا من وسائل الذيوع. لعلّنا نخرج من عباءة «نحن نعيش في زمن الرواية» إلى «المجد للإبداع الحقيقي تحت أيّ شكلٍ فنيٍّ جاء».
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين