متى يستجاب لأي حراك شعبي في الوطن العربي؟

حجم الخط
12

العراق، وما أدراك ما العراق، ما كان ليتم إغفال ذكره في مقال الأسبوع الماضي عن الحراك الشعبي الواسع ما بعد موجة «الربيع العربي» مطلع 2011، فقد تم تناول كل من لبنان والجزائر والسودان دون التطرق إلى العراق.
في لبنان خمد الحراك السلمي بعد أن اصطدم بنظام طائفي تكلّس ونخره الفساد، أما في الجزائر فاكتفى ببعض المكاسب، التي تبقى رغم أهميتها، أقل بكثير من الطموح الذي أخرج الآلاف أسبوعيا في تظاهرات عارمة، فيما انتهى في السودان إلى حرب بين الأجهزة العسكرية نفسها التي أحكمت قبضتها على البلاد لعقود مع الرئيس البشير، ثم خنقت توق شعبها إلى حكم مدني ديمقراطي.
أما العراق، الذي سيحيي قريبا الذكرى الرابعة لحراكه الجماهيري الغاضب فالحديث عنه معقّد تعقد المشهد كله هناك منذ عشرين عاما على الأقل. التظاهرات التي اندلعت في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019، لتشمل بغداد ومحافظات وسط البلاد وجنوبها، بدأت بالتنديد بتردي الخدمات وتفاقم البطالة، لكنها سرعان ما امتدت لاحقا لتعبّر عن الغضب من كل الطبقة السياسية وفسادها والمحاصصة الطائفية التي دمّرت الوطن.
لم يكن سهلا على «حراك تشرين» أن يغيّر واقع البلاد رغم سقوط قتلى بالمئات والجرحى بالآلاف بين أبنائه فقد كانت أصابت أغلب الأمراض كل مفاصل الدولة ثم استفحلت بالهيمنة الإيرانية والارتهان المختلف الأوجه للخارج ما جعل تغيير هذا المشهد بالكامل صعبا للغاية.
العام الماضي أصدر المتظاهرون الذين شاركوا في احتجاجات ساحة النسور، وسط العاصمة بغداد بياناً لخّص هذه المعضلة بالقول» طالبناكم بأبسط المطالب فلم تستجيبوا. انتفضنا عليكم فقتلتمونا. رفضنا حكمكم فلم تزدادوا إلا طغياناً وفساداً، والعراق من سيئ إلى أسوأ بسببكم».

المشكل لدينا في بلادنا العربية أن لا الحكومات تستجيب إلى مطالب الناس المشروعة والقديمة في الحرية والكرامة وحكم القانون، ولا طبيعة النظام السياسي تعطي أي أمل في إمكانية التغيير عبر التداول السلمي على السلطة

ليس أكثر إحباطا لأي شعب من أن تخرج مئات الآلاف منه غاضبة في مظاهرات سلمية، منظّمة وراقية، رافعة شعارات ومطالب مشروعة ومحدّدة فتواجهها السلطات بالقمع أو بالتجاهل الكامل، أو بكليهما، لأن من شأن ذلك، لاسيما إذا ما استمرّت الاحتجاجات لفترة طويلة، أو تكرّرت في مناسبات عديدة دون نتيجة، أن تكرّس تلك القناعة الخطيرة بألا فائدة ترتجى من التحرّكات السلمية وأن الواقع السياسي القائم بقوة وبطش أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية لا يمكن أن يواجه إلا بالعنف. هناك أيضا احتمال آخر، وهو أن تسود بين الناس، جرّاء عدم تجاوب السلطات مع مطالبها، حالة من الاستقالة العامة وعدم الاكتراث بالشأن العام، وهي وضعية لا تقل عدمية وخطورة عن الوضعية الأولى.
لا شك أن السلطات العراقية تتحرك بين فترة وأخرى لمعالجة هذه القضية أو تلك، ولكنها تظل في النهاية استجابات ظرفية ومحدودة لا تلبي الرغبة الجامحة لدى الرأي العام للمعالجة الشاملة والشفافة والجذرية لمشاكل تفاقمت بشكل مخيف طوال السنوات الماضية وخاصة الفساد المستشري. آخر مثال على ذلك، إحالة وزير النفط السابق إحسان عبد الجبار على القضاء بتهم فساد واستغلال المنصب وتلقي رشى من عدد من المستثمرين المرتبطين بعقود مع وزارته، وهو إجراء قد يلقى بعض الاستحسان من الرأي العام لكنه لن يلغي المطالبة المتواصلة منذ سنوات بضرورة وضع حد لفساد نخر كل الطبقة السياسية تقريبا مع ضرورة الابتعاد عن الانتقائية والظرفية عند الشروع في معالجة بعض حالاته.
طبعا يحدث أن تخرج تظاهرات في دول عدة في العالم رافعة مطالب محدّدة ومع ذلك لا تقع الاستجابة لها فصاحب القرار السياسي ليس ملزما دائما على التجاوب الحتمي مع مثل هذه التحركات الشعبية، ولكن هناك فرقا بين حدوث ذلك في تلك الدول وبين ما يحدث عندنا. آخر مثال يمكن أن يستحضر في هذا السياق ما جرى في فرنسا طوال الأشهر الماضية من مظاهرات معارضة لتمديد سن التقاعد إلى سبعة وستين، ومع ذلك لم يتراجع الرئيس ماكرون. ما يمكن أن يشفع في حالات كهذه، هو أن مختلف قنوات التعبير وكذلك الآليات الديمقراطية المتعارف عليها هناك ما زالت نشطة ولم تتخل عن وظيفتها، من برلمان ومحكمة دستورية وغير ذلك من المؤسسات، ما يعني أن قرارات أو سياسات غير شعبية قد تمر، طالما هي قانونية، لكن المواطن لم يفقد مع ذلك قدرته على معاقبة أصحابها مع أول موعد انتخابي مقبل. نفس الشيء حصل أخيرا مع دولة الاحتلال وتعديلات التحالف اليميني المتطرف الحاكم للنظام القضائي، فرغم كل المظاهرات العارمة والمتواصلة مضى هذا التحالف قدما في ما أراده، رغم أنه أخطر بكثير من مجرد رفع سن التقاعد في فرنسا، ولكن تظل هناك في النهاية إمكانية لإسقاط كل ذلك بمجرد صعود أغلبية جديدة إلى الحكم في أي انتخابات مقبلة.
المشكل لدينا في بلادنا العربية أن لا الحكومات تستجيب إلى مطالب الناس المشروعة والقديمة في الحرية والكرامة وحكم القانون، ولا طبيعة النظام السياسي تعطي أي أمل في إمكانية التغيير عبر التداول السلمي على السلطة، وهنا تكمن المعضلة القاتلة.

كاتب وإعلامي تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول قلم حر في زمن مر:

    للأسف الشديد حقيقة مرة وهي أن الشعوب العربية اكتوت بنيران ما يسمى اعتباطا ثورات ثورات عربية لذلك فهي لم تعد تثق لا في الحراك ولا في غير الحراك وفوضت أمرها لله الواحد الأحد الفرد الصمد 😏✌️

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    في الفساد , واللا أمن , والخراب !

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول عبد الكريم البيضاوي ( السويد ):

    الأخ محمد أعطى مثالين في طريقة تعامل المحتجين في قضيتين مختلفتين ( إسرائيل وفرنسا ) ثم مثال آخر عن العراق . في مشكل فرنسا وتمديد سن التقاعد , كانت الأحزاب السياسية ضمنيا مع التمديد لأنه ضرورة ملحة – عدا أصوات اليسار وبعض اليمين -وإلا وقعوا في مشكل حقيقي في ما يخص تعويضات المتقاعدين , هنا تعاطفت جهات سياسية رسمية مع المتظاهرين, لكنها ضعيفة, عامل أخر مهم هو أن الموظف والعامل الأوروبي اليوم أصبح يتمتع بصحة جيدة في غالبيته إلى سن ما بعد السبعين – على الأقل – بفضل العناية الصحية المتوفرة والمتقدمة إلخ …..

  4. يقول عبد الكريم البيضاوي ( السويد ):

    تتمة :
    في حال إسرائيل , استطاع المتظاهرون جلب أحزاب سياسية وعسكريين من ضباط احتياط إلخ …. إلى صفوفهم.
    إلى حالة العراق والدول العربية. عند انتفاضات العرب يرفع شعار ” ضد الفساد ” شعار جميل , لكن من سيتلقى الرسالة قد تكون فئة كبيرة جدا , بحسب المجتمعات طبعا, فالفساد أنواع , فساد كبير وآخر صغير . برأيي – هنا يتعقد المشكل فالجبهة الأخرى قد تكون قوية جدا بحكم المستفيد من الفساد, والتضامن السياسي من أحزاب سياسية وغيرها – تفتح هنا كراسة حساباتها السياسية من ربح وخسارة في مع أو ضد أو فعل لاشيء . تبح حناجر المتظاهرين , يجيء القمع فتتبعه الاستكانة والهدوء إلى ربما شوط آخر قادم.

  5. يقول عبد الكريم البيضاوي ( السويد ):

    تتمة :
    أظن – كي يحصل بعض التقدم في أي احتجاج يجب أن يكون مركزا على مشكل معين , قضية معينة – قد تتقاسم في فكرتها مع أحزاب سياسية وقد يتقمصها أشخاص على الأقل ينشرونها على الإعلام الرسمي وقد يحصل فيها نقاش.

    الخلاصة : تفكيك رزمة الفساد إلى جزيئاتها , كل يؤخذ منها على حدة وهكذا يمكن ربما تحييد جبهات لاترى الأمر يهمها. أما الفساد ككل فمتشعب حراسه وجنوده قد يكونوا أقوياء لذلك – برأيي – باءت كل التحركات العربية بالفشل والفوضى. كذلك تحديد الغاية من الاحتجاجات ؟ أهي إصلاحية تحت حكم الأنظمة القائمة أم هي ثورية وانقلابية ؟ هذه الأخيرة – برأيي – أكثر خطورة لأن المحترف السياسي أكثر دهاء من المواطن البسيط فتنقلب الآية , هو ماشاهدناه ولا نزال.

  6. يقول مسلم:

    عندما تتغير عقليات الشعوب. فالشعب الذي يثور في الصباح و يريد ان يقطف ثمار الثورة في المساء لا يسبب فهذا الشعب لا يعرف معنى الثورة. كما تكونوا يول عليكم

  7. يقول محمد الحسنات:

    شكرا للسيد محمد كريشان على المقالة الجادة والمعبرة، عن أشواق الحرية
    والعدالة والكرامة الإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تجابه بالقمع
    والعنف رغم سلميتها ومشروعية مطالبها، مشرقاً ومغربآ، وموجات تسونامي الربيع العربي في عقد وأكثر
    مثال

  8. يقول سامح //الأردن:

    *الوضع في معظم الدول العربية (مكانك سر)؟
    الأمل ف التغيير ضعيف جدا للأسف الشديد.
    حسبنا الله ونعم الوكيل في كل فاسد وظالم.

  9. يقول مجاهد:

    لم يهزم الإخوة في
    أفغانستان أمريكا ، ‏
    و روسيا من قبلها إلا
    من خلال قوة الإيمان
    و الحق و الإصرار على هزيمة الباطل ،
    فهو زهوقا..
    ‎ ‎

  10. يقول Abu anas:

    الغرب وما زالت لهذا الوقت تقوم على مبداء فرق تسد
    لنتذكر جميعا مقولة عهد اباما على ما اظن _ مجنون من يرسل قواته مباشرة الى ساحات الحرب وخاصة فيى بلادنا العربية المحكومة بالحديد والنار؟
    فقط نشر مصطلحين ثوارحرية ونظام ديكتاتوري وهذا يوفر عليهم ارسال قوات عسكرية

1 2

اشترك في قائمتنا البريدية