القاهرة ـ «القدس العربي»: «سهير يوسف أصيبت بالشلل منذ 5 أشهر، صممت على رؤية موكب الرئيس جمال عبد الناصر يوم الأربعاء الماضي، دفعتها زميلاتها على الكرسي ذي العجل، وسط الزحام.. صاحت.. فسحوا لي، عاوزة أشوف (الريس).. ضاع صوتها وسط الزحام.. ودون أن تدري وجدت نفسها تقف على قدميها، وهي ترى عبد الناصر وتهتف باسمه.. وعادت إلى المستشفى سليمة». (خبر من إحدى صحف الزعيم الخالد أبو خالد، بعنوان.. رأت جمال عبد الناصر فشفيت من الشلل).
«عالم المثقفين المصريين الحقيقي هو فصائل منفصلة بلا اتصال.. وما حدث ويحدث على الجبهة الثقافية في مصر، ليس غريباً على مَن يتابعون تطورها، ذلك أن المثقف المصري المنتكس هو نمطها الغالب والسائد». (مثقفون وعسكر)
مرّت منذ أيام الذكرى الـ(72) لانقلاب يوليو/تموز 1952. وكعادة كل عام خرج المهللون وأنصار عبد الناصر ليعيدوا ترتيل البطولات والزعامة الوهمية، وكذا عقد المقارنات المتهافتة ـ دون أي منهج علمي ـ ما بين زمن أبو خالد وزمن المَلَكية. من ناحية أخرى يبدو الترويج للماضي والتغني بأمجاده أيسر وأأمن من محاولة انتقاد الوضع الراهن، لكن ـ رغم الفارق ـ سنجد أن الراهن ما هو إلا امتداد لانقلاب يوليو وتبعاته. وسنستند إلى كتاب «مثقفون وعسكر» للكاتب الراحل صلاح عيسى (1939 ـ 2017) وهو محاولة لتأريخ تلك الفترة من خلال تجربته الذاتية.
هيّ ثورة
لتكن البداية مع هذه الفقرة المناسبة والدالة للحال وقتها، وبما حتى الآن. يقول صلاح عيسى.. «كان وصف ثورة يوليو بـ(ظاهرة يوليو) أحد الموضوعات التي دار معي حولها تحقيق مرهق، انطلاقاً من تفسير يرى أن استخدام هذا التوصيف يعني أنني أنكر صفة الثورة عنها.. وقد عرفت في ما بعد أن استخدام هذا المصطلح كان مصدر استفزاز لا حد له في دوائر الحُكم»..
الشعب
حاولت حركة يوليو 52 أن يكون لها ظهيرها الشعبي، المختلف بالطبع عن الفئات التي كانت موجودة وقت العهد الملكي، فالبورجوازية وتكوينها الفكري والعقلي لم تكن هي المناسبة للحشد خلف رجل عسكري لا يحتمل الجدل أو حتى المناقشة، وكانت السخرية على أشدها من هؤلاء الذين كان يُطلق عليهم (الأفندية). يذكر عيسى.. «تقدمت يوليو لتنتمي إلى العمال والفلاحين، فلم تجد أمامها تنظيمات طبقية واضحة.. وهي صعوبة واجهت اللجنة التحضيرية التي أنيط بها تحديد الفئات التي يمكن أن تُدعى لانتخابات ممثلين لها في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، إذ فشلت اللجنة في تحديد أعداء الشعب.. ولأنها لم تكن تحمل أي مفهوم طبقي واضح، فقد فشلت أيضاً في تحديد مَن هو الشعب».
فكرة التحديد هذه طالت كل شيء في فكر الرجل، سواء هو أو أتباعه أو الأجهزة التي اختلقها في محاولاته التي لا تهدأ لاحتواء الجميع، فلم يكن من المسموح سماع أي صوت معارض، فقط.. ما يقوله الرجل وأجهزته.. «من الأفكار التلفيقية التي سادت في هذا الوقت في إعداد كوادر الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب والتظيم الطليعي، تعريف (الاستغلال) بأنه ما تحدد القيادة السياسية أنه كذلك».
الميثاق
جاء ميثاق عبد الناصر، الذي يضم رؤيته وفلسفته ـ قرأ الرجل ميثاقه كلمة كلمة في جلسة استمرت ست ساعات ـ ليتلقفه الصحافيون وأساتذة الجامعة، ولتدور المناقشات حوله، وقد سوّدَت آلاف إن لم يكن ملايين الصفحات ومضابط الجلسات، لتفسيره، ووضع شروحات قانونية واقتصادية واجتماعية على المتن المقدس، وكأنه (رأس المال) لكارل ماركس مثلاً، لنعيب بعدها على «الكتاب الأخضر» الذي خطّه القذافي وقد ضمّنه الهلاوس نفسها ولو بشكل آخر، خاصة أن أبا خالد كان مثاله الأوحد. ولك أن تراجع هذه الفقرة لتغرق في الضحك من أفكار زعيم الفلاسفة، «كانت حالة تقديس الميثاق هي السائدة، وكان عبد الناصر شديد المباهاة بوثيقته الفكرية، فلا يوجد مسير ثوري إلا من خلال الميثاق، فصيغة انتقال السلطة إلى الطبقات الشعبية تتضمن رافدين أساسيين.. قيام المجالس الشعبية المنتخبة التي يجب أن تتأكد سلطتها فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية، ثم الحكم المحلي الذي يجب أن ينقل باستمرار، وبإلحاح سلطة الدولة تدريجياً إلى أيدي السلطة الشعبية، ويعلق عبد الناصر نفسه.. (وبهذا ما يبقاش فيه ديكتاتورية الحزب، يبقى توجيه الحزب وقيادة الحزب).
الطبقة الجديدة
لكن هل انتفت ديكتاتورية الحزب ـ حسب ميثاق الزعيم ونواياه السياسية ـ وهل انتقلت السلطة إلى الشعب؟ الأمر لا يعدو كلمات جوفاء تلعب على مشاعر الجماهير الغفيرة، والتي تريد سماع ما ترجوه، وتعيش حالة من الفصام مع واقعها، لتتخلق فئة جديدة أو طبقة جديدة تملك زمام الأمور، وتتحكم في كل شيء.. «كانت مصر الخمسينيات والستينيات هي مصر تكوين الطبقة الجديدة.. أصبح المنظم لا يملك ولا يدير ملكيته، لكنه يسيطر على الملكية، التي وصفت في ما بعد بأنها ملكية الشعب، أصله في الغالب من العسكريتاريا، ثقافته صفر، أفقه لا يتسع لأبعد من أقدامه، التي تعودت أن تصطك مع ارتفاع كفه إلى جبهته، مؤكدة شعار السمع والطاعة ونفذ الأوامر دون مناقشة، نفذها ثم تظلم بعد ذلك».. هذا السلوك ـ السمع والطاعة وسرعة التنفيذ ـ انتقل من الثكنات إلى أروقة الدولة ومؤسساتها، دون حتى أن تنعم بحالة (التظلم بعد ذلك).
طفولة مزمنة
كأي طفل لم يعقل بعد، أو كأي مصاب بمرض عقلي في ما بعد يشعر بأنه مركز الكون، وأن العالم ينتظر دوماً حركة أو إشارة أو حتى مجرد الإيماء ليدرك كيف سيكون، ويبدو أن الانقلاب المبارك لم يتجاوز طوال حياته مرحلة الطفولة، فـ»على امتداد خمسة عشر عاماً سابقة على يونيو/حزيران 67 تورمت الذات القومية وانتفخت… في صحف تلك السنوات ستقرأ دعاية نظام يحرك العالم ويصنع كل شيء فيه، نظام أنهى كل مشاكله وفرغ لتخطيط مستقبل المعمورة».
الناصريون
ونأتي إلى مجاذيب ودراويش الصنم، رواد حفل كل عام ـ سواء في يوليو أو سبتمبر/أيلول ـ وهو للمفارقة ما يُشبه تماماً إعلام هذه الأيام وكُتّاب الصحف، إلا ما رحمه ربه ـ يعني.. نموذج مصطفى بكري ومَن هم على شاكلته ـ يقول عيسى.. «هذا النموذج افتقد تماماً لأي شجاعة للنقد والنقد الذاتي، لهذا كان يُغيّر آراءه بطريقة تدعو للدهشة الشديدة، فقبل قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز، سارع منظرو الناصرية يهاجمون المقترحات ويرفضونها، ثم فوجئوا بعبد الناصر يقبلها ويربك لهم غزلهم، فلم يصمتوا لكنهم سارعوا يناقشون المقترحات، ويكتشفون الوجاهة في قبولها دون أن ينقدوا أنفسهم أو يعلنوا بشجاعة أنهم اخطأوا الفهم».. فلا نستغرب مما يحدث وسيحدث طالما أن الحال لم يتغيّر، بل يمضي للأسوأ.
المثقف
ولم يختلف حال المثقف عن جموع الجماهير الغفيرة، وهو بالطبع في موقف أصعب، فهو المراقَب دوماً لما سيقول ويفعل، فصمته سيُترجم على أنه رفض لشخص أو قرار ـ السكوت هنا مش علامة الرضا ـ فلا بد أن يهلل ويجعجع لأفعال زعيمه، وحتى لخواطره التي لم يفعلها، وفي كل الأحوال لن ينول الرضا السامي.. «كان هناك العسكر ضيقي الأفق والجهلة أصلاً، والذين يرضي غروهم ويخفف من عقد النقص لديهم أن يصبح المثقف موضع سخريتهم بكلماته التي لا معنى لها، وعزلته عن الحياة». هذا الآفة لم يتخلص منها أغلب المثقفين، وحتى بعد يونيو 67 كان التبرير هو السمة الغالبة التي يجيدون لغتها.. «وأثبت المثقفون من النمط اليساري المنتكس أنهم إثر عمليات البسترة، استمرأوا الشعور بالتدني تجاه الزعيم المنزه عن الخطأ، وهو شعور أشاع في معظم أعمال الستينيات النفس اليساري ذاته رؤية تنزه الزعيم عن الخطأ وتجعله ضحية للحاشية الفاسدة التي ترتكب ـ دون علمه وعلى عكس ما يريد ـ كل المعاصي والجرائم».
الهزيمة
وكان لا بد ونتيجة المسيرة الثورية أن تصحو مصر على الحقيقة، رغم البيانات الإذاعية الفضائحية، التي توضح إلى أي مدى كانت تعيش مصر على الأكاذيب، فسقط (الظافر) و(القاهر) ومعهما النظام الهش الذي لا يرهب ويرعب سوى شعبه.. «وبينما كانت المخابرات الإسرائيلية تجمع أدق وأوفى المعلومات عن مصر عسكرياً واقتصادياً، كانت المخابرات المصرية مشغولة بجمع أوفى المعلومات عن فسيولوجيا الأعضاء الجنسية لكل المهتمين بالعمل العام… ويذكر (مصطفى أمين) أن هذه الأجهزة كانت تعلم بالموعد الأسبوعي الذي يلم فيه الجنرال (موشي ديان) بعشيقته، في الوقت الذي جهلت فيه تماماً بخطته لضرب المطارات المصرية في 5 يونيو 67».