العلاقة بين عالم النوم واليقظة شائكةٌ ومعقدةٌ، ورغم مئات أو آلاف البحوث التي أُجريت، بقي هذا السؤال دون إجابة وافية: مم تتكون مادة الحلم: من ذكرياتنا أم من صور مرّت أمام أعين أسلافنا (أو أحفادنا)؟ من ناحيتي أعتبر الحلم سلسلة من صور أدبية نعيشها أثناء رُقادنا، مجموعة خيالات تناقض الواقع تماما، وتقاطعه وتنفيه بعيدا، و»تحظى بسلطة تفوق قوانين الطبيعة شدة» بتعبير عالم الاجتماع روجيه كايو. يمكّننا المنام من أن نعيش حياة أخرى لا نجترئ عليها، ونكون عندها غير ما نحن فيه. نحن لا نتحكم في أحلامنا أو نملكها، بل هي التي تتحكم فينا وتملكنا. نستطيع أن نكذب على أنفسنا وعلى غيرنا ما نشاء، غير أن أحلامنا لا تفعل ذلك معنا. ننام وتظل قلوبنا يقْظى تحدق في السماء والنجوم، وفي عجلة الزمان كيف تدور، كما أن كل إنسان يطمح إلى وجود أحفل بالمعنى، وإن كان ذلك في المنام. هل نستطيع القول إن الحُلُم مرآة فنية نرى فيها أنفسنا؟ كأن رؤى المنام ترمز إلى النعيم، واليقظة تدل على نقيضه، أي أسفل الجحيم. يقول الشاعر هولدرلين: «الإنسان إلهٌ حين يحلم، ولا يكاد يكون شحاذا حين يفكر». الحلُم الذي لا يتغذى على حلُم آخر يتبدد. ويحدث أن تدخل أحداث اليوم القياسية نومي، وكل في حقله، وكل بحسْب قلبه. فترى نفسك في الحلم تعاين مريضا وتكتب له وصفة علاج، أو تعود بك السنين طالبا في الصف، وتصير شاشة الحلُم قاعة امتحان عسير على الأغلب، وينقضي الكابوس وأنت تفتش دون فائدة عن جواب لسؤال أو مسألة رياضية.
ومن أعمالنا القياسية اليومية الأخرى، بالإضافة إلى الكدح لكسب ثمن العيش، القراءة والتأليف، وتجد نفسك في بعض الليالي في سابع حلُم وأنت تكتب قصة ومقالة، وفي أحايينَ تفيقُ من نومك على البيت الأخير من قصيدة بلهجتنا أو بالفصحى فيها العذاب واللوعة، وتظل تستمرئ الكلمات واللحن في القصيدة في ذلك اليوم لساعات، تذوب حتما مع انصرام النهار. المشكلة أن الآخر الذي ينام فينا شاعر رديء الصنعة على الأغلب، فلا تحتفظ النفسُ بما يمليه عليها، وترميه شيئا فشيئا في سلة النسيان، ولهذا جاءت أعمال الشعراء الدادائيين والسرياليين بتقليعات شعرية بددتها رياح الزمان سريعا، لأنها كانت من تأليف شخصنا الآخر، الغافي في لا وعينا. أو تنهض في بعض الليالي على حوار احتدم بينك وبين أحد تعرفه أو لا تعرفه من العامة، يطغى صوته على صوتك، في النوم كما في الواقع، ولم تبلغ في أي من أيامك أنك أقنعت برأيك في الحقيقة أو في أثناء الحلم أحدا من الهمج والرعاع والأوباش والأوناش والسقاط من الناس. يعلو صوتُ التفاهة ولا يُعلى عليه، ذلك أن «أسوأ دولاب في العربة يصدر أقوى صرير»، كما يقول المثل الفرنسي، فتصحو عندها بقلب غاضب ونفس مضطربة، ولا يوجد غير حل واحد لديك؛ أن تَجِد في السير في الشوارع القريبة من محل سكنك، وإن كان الليل في أوله، أو في ثانيه أو في ثالثه، وأنت تتجرع في الأثناء الغيظ من البهتان الذي فيه الآخر سادر، وتحمد الله كثيرا أن ما جرى كان حلُما.
مرّ الشاعر الألماني فريدريش ريكرت بتجربة معاكسة، عندما كان يتعلم اللغة السنسكريتية، ورأى في المنام كاهنا هنديا أقنعه برأيه، فتخلى الشاعر عما كان يعتقد به، وكتب هذه الأبيات: «مع كاهن هندي دار حديث في المنام/ بالسنسكريتية عن حكاية الأسرار/ فسرعان ما تخليتُ عن رأيي». يمكن مجيء شخصيات في الحلُم تقوم بدور المعلم، وهناك روايات مبثوثة في كتب الدين والأدب تروي كيف تسهم الأحلام في تزويدنا بمعلومات عن قضايا دينية ودنيوية. لو سألتَ الجميع عن أحلامهم وكيف تكون لأخبروك أنها تمتلئ بالرغبة وبالعالم الأفضل، وبالفوضى والتناقضات أحيانا، أو بالكوابيس والهلوسات. فإذا كانت هذه رؤانا في المنام فكيف تكون تلك التي يراها المجانين؟ لم يتوصل الطب النفسي حسب علمي إلى جواب لهذا اللغز إلى الآن، وأحاول هنا الخوض في هذا اليم، لعلي أستطيع السباحة إلى الضفة الأخرى.
الخيالات المنفلتة في عالم المجانين عند اليقظة تكاد تتماثل مع أحلام العقلاء عند النوم. هنالك البهجة تسير يدا بيد مع الآلام الدفينة، ويتصاحب الضحكُ مع البكاءَ في عالم المجانين اليقظين والحالمين العقلاء على حد سواء، وكذلك الخوف والرعدة مع الشعور بالطمأنينة والأمان، إضافة إلى جميع المشاعر المختلفة بين المجانين في ساعة اليقظة، والعقلاء في ساعة الحلم. بكلام آخر نحن نجرب حالة الجنون في أثناء الحلم، والمجنون يعيش مثل الشخص السوي في عقله عند المنام.
المعروف عن بعض الناس أنهم يستهجنون أحلامهم، والبعض يضحك عليها، وقسم منا يفعل الأمرين معا، وقيل قديما «من رأى رؤيا واستحى من ذكرها، فقد يذكره بها عارف، أو يستقيها عنه فنان»، فكيف إذا كنتُ أنا صاحب الرؤيا، والعارف، والفنان؟ غرقتُ مرةً في نوم عميق جدا، ومن نفاية أحلامي طلعت لوحة فيها مثلث وردي على مستطيل أسود. هل هو رمز قديم للأنوثة والخصوبة، وبالتالي، السلام؟ لا أعرف كيف فسرتُ الأمرَ ساعتها واقتنعتُ بهذا الشرح، ووقعتُ سريعا في حب المرأة التي تمثلها اللوحة، وصرعتني عبادة وجهها البدري والشفتين اللاهجتين بأرق الكلمات، ورحتُ أعوم في غمرات انفعال وفرح، نتيجتهما أن الثقل الباهظ في بدني، والأهم من ذلك في روحي، طفقا يخفان تدريجيا، إلى أن صرتُ بخفة ريشة. حدثت لي بعد ذلك فانتازيا مشابهة لتلك التي جرت بفعل الأفيون لكولريدج، عندما حَلُم بأنه يجتاز الفردوس وأُعطي زهرة، ثم صحا من نومه ووجد الزهرة في يده. استيقظتُ وكانت المرأة راقدة بقربي، ويدها مشبوكة في يدي.
كنت ما أزال في الحقيقة في تيه النوم، وفي لحظة تبخر الحلُم وغادرتني فتاتي، لأُقذَف بعدها إلى مرارة الحياة التي أعيشها في بلدي، ويتلقف امرأتي أحد المجانين الذي صحا توا من نومه – حسب النظرية التي توصلتُ إليها قبل قليل – ويظل يهنأ بمعبودتي في ساعات يقظته كلها. المحزن في الأمر أني تناولتُ منه، كأنما باليدين، كوابيسه في ساعات جنونه الأشد، وعليّ أن أعيشها بكل تفاصيلها وجحيمها، وهي ليست سوى العالمِ المُرعبِ والجائرِ الذي ندعوه «الواقع».
كاتب عراقي