مجتمعاتنا إذ تختفي من لغتنا

حجم الخط
0

تحيل اللغة التحليلية اليومية التي تستخدم في مقالات الرأي والتقارير الإخبارية، والمداخلات التلفزيونية، إلى استبعاد المجتمعات، وتعمد إخفائها وراء كم هائل من المفردات، التي تتكرر بابتذال بذريعة فهم طبيعة الصراعات وخريطة المصالح وسط تداخل مع أجندات موجهة تطوع كل حدث لمصالحها. وإذا ما تم التطرق إلى البشر المنسيين، في ذروة الحماس التحليلي يأتي ذلك عرضياً انطلاقاً من واقع إنساني يتعلق بمجزرة أو مجاعة أو حصار، بمعنى أن المجتمع يحضر كمأساة وليس فاعلا.

 واللافت أن هذا الاستبعاد للاجتماعي على حساب السياسي، أقله على صعيد اللغة السائدة، شمل مرحلة الربيع العربي، التي كان فيها المجتمع محركاً أساسياً للأحداث، فقد جرى تلبيس الناس الذين تظاهروا ضد الأنظمة صفات خرافية بعد أن كانوا يوصمون قبل زمن البوعزيزي بالشعوب الخانعة والمستثناة من موجات الديمقراطية التي ضربت العالم. والحال، فإن هذه الحدود القصوى بين الخنوع والشجاعة، الضعف والقوة، الثبات والتغيير، في توصيف المجتمع، ما قبل الربيع العربي وما بعده، يدل على أننا حيال محاولة لنفي المجتمعات عبر وضعها في صفات إطلاقية تتغافل عن تعقيداتها وتنتظر منها التحرك ككتلة واحدة صوب النجاح أو الفشل. وإذا كان المفهوم الحديث للمجتمع لا ينطبق على منطقتنا، لأسباب عديدة، فإن تعميمه معرفياً سيؤدي إلى إخفاء التناقضات، ويحول الوحدات التقليدية من طوائف وإثنيات وعشائر وعائلات، إلى ماهية واحدة، ما يفترض تفاعلها مع شرطها بشكل متسق. في حين، أن هذا الوحدات تتفاعل فرادة، وتنتج ظروفها بمعزل عن بعضها بعضا، بمعنى أن من الممكن أن تنتفض عشيرة هنا، وطائفة هناك، في المجتمع نفسه، لأسباب وظروف مختلفة. وإن صح هنا أن الأنظمة تتعامل مع الوحدات الاجتماعية بأسلوب قمعي واحد، فإن فهم هذه الوحدات يختلف وردود فعلها أيضاً.

توصيف المجتمع، ما قبل الربيع العربي وما بعده، يدل على أننا حيال محاولة لنفي المجتمعات عبر وضعها في صفات إطلاقية

 وهذا ما يفسر الارتباك المعرفي الذي يصيبنا بعد كل حراك للمجتمع، ذاك أن فهمنا للأخير لا يستوي مع النتائج التي يخرج بها، ما يدفعنا إلى تفسيرات قصوى تحوّل الفعل إلى “معجزة”، كما حصل عند اندلاع الربيع العربي، أو إلى “كارثة”، كما حصل مع دخولنا زمن الثورات المضادة. فلا ننظر إلى المجتمع كأجزاء ونتائج مبعثرة، بل ككل مطلق وبنتيجة واحدة. وبين “المعجزة” و”الكارثة” يغيب الاجتماعي ويحضر السياسي، لتفسير ما يحصل، ذاك أن الثاني يعفي من مشاق الأول وضرورة إعادة النظر فيه.

خلال السنوات الماضية حاجج عدد من المفكرين الغربيين بأن الاجتماعي في الغرب ينهار لصالح ما هو عولمي متحسرين على بنية المجتمع، التي ولدت عقب الثورة الصناعية، حيث بدأ الحديث عن طبقات ناجزة. هذا الانهيار لم يحدث عندنا ذاك أن مجتمعاتنا لم تتكون بالمفهوم الكلاسيكي، هي نتاج تفاوتات وانقطاعات تاريخية وتجارب ناقصة، تتأقلم بناها التقليدية مع التحديث بدون أن تتصدع، وتمتلك في الوقت نفسه حيوية دائمة لتغيير أوضاعها.

وعليه، فإن المجتمعات العربية تزول من لغتنا، ويستعاض عنها بالسياسة والتحليل العام، بسبب قصور مقاربتها بوصفها وحدات لها مصالح مستقلة، قد ترتبط ببعضها بعضا، وقد تنفصل.

كاتب سوري من أسرة “القدس العربي”

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية