«محادثة مع بورمان»: درس في التواضع الفكري

كل حديث عن إبستمولوجيا الفضائل، إلاَّ ويقتضي تَصَوُّر الإبستمولوجيا، بوصفها ضربا من الأخلاقيَّات، ونقصد الأخلاق التي تنهم بضروب الحياة الفكرية. فليس قوام هذه الأخيرة جُماع معايير (قواعد، ومبادئ) حسب، بل جماع قيم أيضا (الفضيلة، والميل، والانجذاب، والمحبة، والحكمة). لاسيما أن الإبستمولوجيا هي في الأساس، كما يقول روجِه بويفِه (1958) Roger Pouivet «ضرب من أخلاقيَّات الحياة الفكرية» (Roger Pouivet, L’éthique intellectuelle vrin 2020, p.15). فالفضائل الأخلاقية والفكرية، هي بالنسبة للإنسان بمثابة سُبُل من شأنها أن توجهه صوب كينونته، بما هو كائن عقلاني. ومع ذلك، فإن الحياة الفكرية لا تكون طيبة إلا بانجذابنا للخيرات الإبستيمية: الحقيقة، والمعرفة، والعقلانية؛ إذ يجدر بنا أن ننجذب، ومن ثم، أن نحب كل ما يحظى بقيمة عظيمة. ليس في مكنة الحياة الفكرية أن تكون حياة طيبة، إلاَّ إذا شيَّدناها على محبة منتظمة غاية التنظيم؛ إذ يتعلق الأمر بضرب من الهوى يرمي إلى تحقيق الخير المعرفي الذي دونه لا تكون حياتنا الفكرية حياة طيبة هنية، ومسؤولة. إنها مسألة عدالة بالدرجة الأولى، فضلًا عن كونها مسألة حكمة، ومن ثم، يجدر بنا إعادة الاعتبار لمفهوم الحقيقة بمنحه ما يستحقه من عناية وتقدير (المصدر نفسه).
تنزع إبستمولوجيا الفضائل إلى الحكم على قدرات الأفراد ومؤهلاتهم، بعد تشكيل اعتقاداتهم وأحكامهم، دون أن تحكم على المهنة أو الوظيفة التي يُمَارِسُونها، وما هذه القدرات والمؤهلات سوى تلك التي وسمتها التقاليد الأرسطيَّة، والمسيحيّة، والإسلامية، بالفضائل الفكريَّة من قبيل: الشجاعة الفكرية، والتواضع الفكري، والانفتاح الفكري، والقدرة على الحكم، والحكمة، وتوخي الحذر، وتجنب التعجل، وإبداء الرغبة في الإقبال على العمل المضني، والتؤدة، والنزاهة، والنظر في الجوهر، وتحاشي القشور، والانهمام القصي، والواقعية (القابلية للتحقق) والحياد الفكري، والانفتاح على الآخر، إلخ. وحين تغيب هذه الفضائل تنبجس رذائل من قبيل: الكسل، والشلل، والجبن، والتعجل، والعجز عن إصدار الحكم على النحو المأمول، وضيق الأفق، والانغلاق، والوثوقية، والتحيز، والتعصب، والحمق، والتفاهة، والهراء، إلخ. الرذائل والفضائل درجات، لذا يجدر بنا معرفة درجات كسلنا، وشجاعتنا (المصدر نفسه).
«ويزعم البعض أنَّ التواضع الفكري هو من بين أهم الفضائل الفكرية المركزية. ومن ثم، فبالإمكان اعتبار التواضع الفكري ركيزة أساسية للمعرفة ذاتها. وعلاوة على ذلك، يبدو أن التواضع الفكري غير متسق مع الفكرة التي مفادها أنَّ المرء قد يتشبث بآرائه وأفكاره عندما يواجه أفرادا يماثلونه في الذكاء والاطلاع، لكنهم يحملون آراءً معارضة، بل مناقضة لآرائه. وعلى الرغم ممّا يبدو من أنّ تمسك الفرد بآرائه يتعارض مع كونه متواضعا فكريّا، بل حتى الأفراد الذين يمثلون نموذجا للتواضع الفكري هم في بعض الأحيان (وبصورة مبررة تماما) يظلون على مواقفهم في وجه خلاف كهذا. كما أنَّ المغزى المعرفي لاختلاف النظراء يعد موضوعا حيويّا ومهمّا في نظرية المعرفة المعاصرة، وذا صلة مباشرة بالتواضع الفكري (والعكس صحيح)». (إيان م.تشرتش وبيترل. صامويلسون، ترجمة منى الشدي، معنى، 2022).
وعيا منه بضرورة العمل على ترسيخ فضيلة التواضع الفكري، وشجب رذيلة الغطرسة الفكرية، انكب الباحث اللبناني باسل بديع الزين على ترجمة محادثة أجراها باحث ناشئ لم يتجاوز عمره العشرين سنة، يدعى فرونسوا بورمان François burman، مع الفيلسوف رونيه ديكارت (1596-1650).(محادثة مع بورمان، ترجمة باسل بديع الزين، دار الرافدين، 2021)؛ إذ تضمنت مخطوطة المحادثة – التي توجد اليوم في مكتبة جامعة Gottingen ـ ردود رونيه ديكارت على مجموعة من الصعوبات والتساؤلات النقدية، والتعليقات الاستنكارية والاعتراضات المنهجية المستخلصة من تضاعيف مؤلفاته. ما الذي حفز ديكارت على إجراء هذه المحادثة مع الشاب «بورمان»؟

استغرقت المحادثة – التي تمت بلسان لاتيني رفيع- أربع ساعات، وقد عمل صديق برورمان، كلوبرج Clauberg ، البالغ من العمر 26 سنة، على صوغ تفاصيل المحادثة – التي انكب فيها بورمان على عرض تساؤلاته إزاء 42 نصا من كتاب التأملات، و22 مادة من كتاب المبادئ، و7 مقاطع من حديث الطريقة – صياغة فلسفية رشيقة. من أين تستمد هذه المحادثة قيمتها؟

يجيب باسل الزين: «الحق أنَّ بورمان كان ابن كاهن هولندي تربطه علاقة وثيقة بديكارت، ومع ذلك لم تكن بالطبع علاقة الصداقة هي السبب الوحيد وراء موافقة ديكارت على إجراء هذه المحادثة. فمن المعروف عن فيلسوفنا تواضعه الكبير، وسعيه الدائم إلى مساعدة الطلاب الشباب، وتلقينهم علومه الرياضية، والوقوف على أسئلتهم، والاستماع إلى هواجسهم، وتفسير ما التبس عليهم. لكن الأمر يتعلق هنا، والحق يقال، بشاب لم يدخر جهدا في قراءة نصوص ديكارت، والانكباب عليها انكبابا صادقا، والغوص في تفاصيل أحكامها غوصا عميقا. كلُّ هذا سمح له بتسجيل اعتراضات تنم عن رغبة رصينة في المعرفة، وتندر بميلاد فيلسوف كبير. من جهته، أبدى ديكارت لطفا وكياسة وتواضعا في الإجابة عن الأسئلة الموجهة إليه، فلم يتذمر أو يعترض، بل استغرق في تفصيل الاعتراضات وتوضيح نقاط الالتباس التي قد تطوف في ذهن قارئه، فكانت المحادثة هذه فرصة له كي يستشرف الأسئلة المستقبلية التي سيطرحها دارسو فلسفته، لذا لم يأل جهدا في توضيحها».(المصدر نفسه)
استغرقت المحادثة – التي تمت بلسان لاتيني رفيع- أربع ساعات، وقد عمل صديق برورمان، كلوبرج Clauberg ، البالغ من العمر 26 سنة، على صوغ تفاصيل المحادثة – التي انكب فيها بورمان على عرض تساؤلاته إزاء 42 نصا من كتاب التأملات، و22 مادة من كتاب المبادئ، و7 مقاطع من حديث الطريقة – صياغة فلسفية رشيقة. من أين تستمد هذه المحادثة قيمتها؟
من شأن هذه المخطوطة بلا ريب أن تبدد بعض مناحي اللبس الذي يكتنف المسرى الفلسفي الديكارتي؛ إذ تسلط الضوء على جوانبه المعتمة، وتقف عند عوارض اضطرابه. وقد عمل ديكارت على بسط تفسيراته تأويلاته كما وردت في مؤلفاته بأسلوب سلس. الأمر الذي أحال المحادثة إلى موجز في فلسفة ديكارت؛ إذ أحاطت بمعظم إشكالات المسرى الفلسفي الديكارتي، بحيث كانت اعتراضات الباحث الناشئ بمثابة مرآة تعكس مسالك هذا المسرى، وهو ما مكن «ديكارت» من إعادة قراءة نفسه من جديد، يقول باسل الزين: «لا نغالي إذا قلنا بأن ديكارت يقرأ نفسه من خلال هذه الاعتراضات، فيوضح ما التبس، ويفصح ما احتجب. بعبارة أخرى يكفي أن نلقي نظرة سريعة على العناوين المطروحة في المحادثة هذه كي نعي أهميتها، وندرك الصعوبات التي جرى تفحصها أو الإشكالية التي تم استجلاء مضامينها وتوضيح مندرجاتها: من الشك المنهجي إلى الكوجيطو مرورا بالأدلة على وجود الله، وفكرة الكمال، والأحكام الرياضية، ومساءلة الفاهمة البشرية، وتبيان علاقتها بالفاهمة الإلهية، وتوضيح الفرق وتبيين الفرق بين الفهم والتخيل والشعور، ناهيك بوحدة الروح والجسد، والأسئلة المتعلقة بتمييز المتناهي من اللامتناهي، وإدراكنا ماهية أجسادنا، ومعرفة ما إذا كان الإنسان هو غاية الخلق من عدمه، وما إذا كان الله يضمن بداهة أفكارنا أم لا يضمنها. ولم يفت برومان الحديث عن الفيزياء والطب والهندسة والرياضيات، فراح يسائل ديكارت عن حدود العلم، وعن اللامتناهي ببعديه الزماني والمكاني، وعن طبيعة المثلثات الرياضية والضوء والنجوم، والجاذبية وكيفية إطالة عمر الإنسان، والمرض والشفاء، والأطعمة التي ينبغي لنا أن نتناولها وغيرها الكثير».

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية