محكي الذات والجسد أو الكتابة المحرمة في رواية «جراح الروح والجسد»

تتوخى هذه القراءة تسليط الضوء على اشتغال محكي الذات والجسد في رواية «جراح الروح والجسد» للكاتبة المغربية الراحلة مليكة مستظرف، باعتبارها رواية تسعى من خلالها إلى كشف المخبوء في علاقة الذكر بالأنثى، جسده المأمول والمشتهى، وتعرية تناقضات المجتمع الذكوري، الذي يتأسس على نسق ثقافي يعلي من قيمة الذات الذكورية على حساب الذات الأنثوية. فالذات الأولى هي الفاعل والمسيطر، منحها المجتمع أحقية التحكم في المرأة وقراراتها، ووهبها سلطة إرغامها والاستيلاء عليها، وقَمْع انطلاقها وتقييد حريتها وكبحها، بفرض قوانينها عليها، التي عادت ما تلجأ – هي نفسها – إلى اختراقها، انسجاما مع المثل القائل «واضع القانون مخترقه».
وقد حُبكت السلطة الذكورية في المجتمع بواسطة أنساق ثقافية منحازة للذكر، وملغية لكينونة الذات الأنثوية، وماحية وجودها. أما الذات الثانية فهي منفعلة وخاضعة وتابعة، ولا يجوز لها أن ترفع صوتها منددة ومطالبة بحقها، وحينما تتجرأ على ذلك يتم نبذها واعتبارها فاسقة ومنحلة. ولعل هذا الموقف من الأنثى هو ما يصدق أساسا على مليكة مستظرف، إذ بإمكاننا أن نقارن بين ما حققته روايتها وما حققته رواية محمد شكري «الخبز الحافي»، التي لا تختلف عنها في خرق المحظور، لندرك أن صوت الأنثى صوت مكبوح وغير مسموع، وأن ما يجوز للذكر لا يجوز للأنثى، فقد صارت الرواية الأولى لعنة على صاحبتها، بينما غدت الثانية موضوعا للتبجيل والاحتفاء. وذلك عائد في نظرنا إلى أن صاحب الطرح في «جراح الروح والجسد» هو المرأة، التي تعد في حد ذاتها محور هذا الموضوع، فالمتلقي يستسيغ أن يكتب الرجل رواية جنسية، لكنه لا يستسيغ ذلك من المرأة، فما هو مباح له محرم عليها، لذلك عمدت الروائيات العربيات على طرق موضوع الجنس بنوع من الحذر والتخفي، واكتفين في حديثهن عن الجنس بالرمز والتلميح والتستر. أما مليكة مستظرف فهي تتمرد على ما هو مجتمعي، لتعرض الجنس مكشوفا وبدون أقنعة أو لثام، وتقتحم المسكوت عنه والمحرم، بجرأة افتقدتها الروايات النسائية، سعيا منها إلى فضح أسرارٍ لطالما أحجمت عنها هذه الروايات. فقد كتبت روايتها متوخية تعرية الواقع الذكوري الحافل بالمتناقضات والاختلالات، الذي يَعُدُّ المرأة ملاذا للمتعة، وجسدا مشتهى، يسعى جاهدا إلى تملكه بشتى الطرق، حتى إن كان في ذلك إلحاق للضرر بها.
تقوم رواية «جراح الروح والجسد» على البوح، الذي يعد فيها دينامية محركة لعملية الحكي. فالساردة تبوح بأسرار قلما تجرأت النساء على البوح والاعتراف بها. هي أسرار مرتبطة أساسا بالجسد الذي يتم تشييئه، فيغدو مطلبا يريده الرجل. ويتجلى البوح من خلال استناد الرواية إلى ضمير المتكلم «أنا» باعتباره تقنية سردية، تتوخى من خلالها تعميق الفهم بمشاعر الساردة، واستبطان مكنوناتها وما يختلج في داخلها. فالكاتبة اختارت الكتابة عن الذات/ الكتابة بضمير المتكلم تقنية لتقدم من خلالها موقفها من المجتمع، رغم ما يفرزه هذا النوع من الكتابة من عواقب وخيمة على المرأة، فإلى وقت قريب كانت المرأة تتجنب الكتابة بضمير المتكلم «أنا» خوفا على نفسها من مواجهة عنف السلطة المجتمعية، لهذا عدت الكتابة عن الذات «خطوة جريئة تقدمت بها المرأة الكاتبة فوق جثة الخوف، الذي يبعثه «ضمير المتكلم» في المجتمعات المحافظة والتقليدية عامة، وخوف المرأة من الرقيب وسوط العادات والتقاليد خاصة» (محمد معتصم، المرأة وتطوير السرد)، فمن خلالها استطاعت أن تخترق الصمت، وتتجاوز الحواجز والقيود التي فرضها عليها المجتمع الذكوري.
تقدم لنا الساردة ذاتها باعتبارها ضحية مجتمع ذكوري مكبوت ومتسلط، ينساق وراء شهواته واستيهاماته، رغبة في تملك جسد الأنثى وإخضاعه لشهوته، ما جعله يعكس مظاهر الهيمنة والاستبداد، وسلب قيمة الأنثى، وتجريدها من حقوقها. بناء على ذلك، تسعى الساردة إلى تصفية حساباتها مع مغتصبيها (الرجل الأسود، قدور، صاحب الدكان) وتحطيم أصنام العادات والتقاليد، والتمرد على السلطة الذكورية، فانبرت لتكشف عن زيف القيم، وتفضح المسكوت عنه في علاقة الذكر بالأنثى، رغبة في إعادة الاعتبار المفقود إلى المرأة، وتثأر لها من كيد القامعين والمغتصبين. إن «جراح الروح والجسد» هي سيرة فتاة متمردة على عادات المجتمع، حولت خضوعها إلى مقاومة ومواجهة، فتاة تصرخ في وجه الظلم، وتواجه سلطة الأب رافضة متمردة بعدما كانت خاضعة مهانة.

تقدم لنا الساردة ذاتها باعتبارها ضحية مجتمع ذكوري مكبوت ومتسلط، ينساق وراء شهواته واستيهاماته، رغبة في تملك جسد الأنثى وإخضاعه لشهوته، ما جعله يعكس مظاهر الهيمنة والاستبداد، وسلب قيمة الأنثى، وتجريدها من حقوقها.

بهذا الاعتبار، تنحاز الرواية نحو المرأة، من موقع الدفاع عنها واتهام الرجل، الذي أعمت الشهوة بصره، فأصبحت غايته، بدون أن يراعي النظم والأخلاق المجتمعية، مقدمة لنا صورة متناقضة له، تنفصل فيها أقواله عن أفعاله، ولعل أبرز من يمثل ذلك في الرواية أبو الساردة، الذي تكشف عن تناقضات أقواله وأفعاله، فبينما يتحدث في البيت عن الطهر والفضيلة والأخلاق الحميدة، لا يتوانى عن ممارسة الجنس خارج مؤسسة الزواج، وارتياد بيت الدعارة، الذي كانت ترتاده ابنته الكبرى خديجة. لكن الرواية لا تنخرط فقط في نقد العالم الذكوري، بل اهتمت أيضا بنقد عالم المرأة، بدءا من الأم والأخت وزوجة الأب، إذ صورت سلوكات المرأة وتصرفاتها الطائشة (الفساد، الخيانة، القسوة، الكذب، الجهل..)، وانتقدت خضوع الأم واستسلامها لسلطة الأب، واختيارها الصمت وسيلة تقيها آلاما جساما، وتحميها من غضب الزوج، لتقدم وعيا بديلا لهذا الوعي الزائف، الذي يتسم بانفلاتاته وانزلاقاته الأخلاقية والإنسانية، وقيامه على التناقض وعدم الاتفاق، فبينما ـ مثلا- تدعي أخت الساردة خديجة الفضيلة وملازمتها لحضور تجمعات الأخوات المسلمات، تمتهن الرذيلة وتنخرط في عالم الوقاحة والفساد، سعيا وراء تحقيق ملذات الجسد ومتطلباته، وبينما تعد الرقة واللين من صفات الأمومة، تتصف أم الساردة بالقسوة والعدوانية، ولا أدل على ذلك من لجوئها إلى كَيِّ فخذ ابنتها لما أخبرتها باغتصاب الرجل الأسود لها، إذ على الرغم من حداثة سنها (لم تكن تتجاوز الرابعة بعد) إلا أنها حمّلتها مسؤولية ما وقع لها، وبينما تنتقد زوجة الأب سلوك الساردة الشاذ، لما وجدتها تدخن، تغوص في عالم الخيانة والعهر، وتستغل غياب زوجها عن البيت وسفرياته لتنهمك في لياليها الحمر، ولا تعود إلى البيت إلا حينما توشك عودته.
بهذا، تكون الرواية قد صورت المجتمع، من خلال التركيز أساسا على محكي الذات والجسد، بأنه عالم مفتقد للقيم الأخلاقية والإنسانية، تنخرط فيه المرأة والرجل على حد سواء. وقدمته مفرغا من أي قيم أخلاقية ووعي إيجابي، لأنها تصوره ذاتا ينفصل فيها جانب الممارسة الأخلاقية عن تصوراته، يسجن المرأة في سجن العادات والتقاليد المجتمعية، بينما يمنح الرجل حرية التصرف كما يريد. وقد أدى ذلك إلى رغبة الساردة في التحرر من هذه القيود، والانطلاق حرة، نحو عالم آخر، ترتاده رغبة في الخلاص من لعنة ماضيها، وتكسيرا للطوق الذي فرض عليها في مجتمع لا يرحم. وهو ما تأتى لها في الأخير، حينما وقفت في وجه أبيها متحدية سلطته، متجاوزة خضوعها واستسلامها، مقررة السفر إلى فرنسا رغما عنه، للالتحاق بزوجة قدور/ مغتصبها الذي اغتصب أولاده وانتحر، لتنشئا معا جمعية تعنى بضحايا التحرش الجنسي، لكنه سيأتي إلى المطار ليودعها، وكأنها تريد أن تخبرنا أن تحقيق الأنثى لهدفها رهين التمرد والثورة على السلطة البطريركية التي تقف سدا منيعا أمام رغبات المرأة. حينئذ لا يمكن للأب إلا أن يذعن ويوافق، فيتحول من فاعل إلى منفعل، وتغدو الأنثى متحكمة في زمام أمورها، بعدما كانت خاضعة ومستسلمة…

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سناء:

    جيد صديقي الأستاذ ياسين . دمت مجدا ومعطاء .

    1. يقول yassin chaari:

      أستاذة سناء أشكرك على تشجيعك ودعائك، دمت سالمة
      مودتي وتقديري.

اشترك في قائمتنا البريدية