محنّطات آدمية في متحف السوري أحمد م. أحمد

«الشعر لا غنى عنه، لكنني لا أعرف لأي شيء» جون كوكتو
في ديوانه «أحرق سفنه إلا نعشاً» يحاول أحمد م. أحمد أن يتلو الشعر كبيانٍ أخير، ويصدّره كقهقهة مرعبة تثير ذعر العالم، حيث يبدو لقارئه وكأنه يُجهزُ على العدم متسلحاً بمنظومته الفكرية التي تدحض ما هو كائنُ وما سيكون. وعلى الرفض ليلدَ رفضه الخاص، وعلى المهانة اليومية ليخلق عبثيته الحرة، وليتغذى مجدداً من ألمه، وعلى الموت مادةً وفكرة ليغيظه بعمائه الذي يراه ويُدلهُ عليه ـ أي الموت – كلب وحدته الخاص.
وهو القائل:
«لا أنتظر،
إذ لا ناصية
أقفُ عليها»
هذا الانصهار في كل شيء (الرغبة، الخوف، الجنون اللاهث نحو خرابه) أو لا شيء (العدم ومتشابهاته الأضداد) الذي هو المادة الأولية والخام لقصيدة أحمد م. أحمد المتحررة من جميع أشكال التجنيس، وبالتالي تخلق شعريته، فهو كالطفل المصاب برعشة الدهشة الأزلية. دهشة التناقضات بين انكسار وفرح، وانتصار وخذلان، بين لغته المتفردة المنفجرة وجزر أناه الغامضة الممتدة امتداد البحر المطل أمام شرفة بيته في طرطوس.
فهو يكتب كما يقول: «لأصيد الوجيف- ليس إلا الوجيف»
وأيضاً في موضع آخر:
«لا أحلم بأكثر من أن يكمل العنكبوت الصغير طريقه التي بدأها من قدمي…».
دلالة العنوان وخصوصية اللغة
تشكل العناوين لدى الشاعر علامات دالة، تلخص مدارات التجربة والأبعاد الرمزية لها، فهي تمثل مفاتيح دلالية تؤدي وظيفة إيحائية ولدى أحمد م. أحمد ميزته الخاصة في اختيار عناوينه ذات الدلالة والخصوصية العالية، إضافةً إلى أن كليهما تقنياً يقومان على جملة خبرية طويلة نسبياً. ففي مجموعته الأولى «أحرق سفنه إلا نعشاً» (الصادر عن دار أرواد للنشر والطباعة) يحاول الشاعر أن يصور لنا نفسه بالمنتحر الأخير الذي ينجو بحكمة العالم نحو موتٍ يليق به وحده.
وفي الثانية: «أصيد طائر الكوليريدج» (الصادرة عن دار المتوسط للنشر والتوزيع) الذي يعتمد فيها على التناص، وتحيلنا على المستوى الجمالي والدلالي مستعيداً «ملاح كوليريدج» فيعيد إحياء قصيدة الشاعر الإنكليزي الرومانسي «صقيع البحار القديم» التي كتبت عام (1798).
أما بالنسبة للغة فهي واضحة – غامضة، عميقة الدلالة، دقيقة الصنعة، متمردة على آبائها الشعريين، لغة ذاتية لا تشبه إلا صاحبها، الذي ينزع أحياناً نحو المفردة الصريحة المباشرة، وأحياناً أخرى نحو المبطن والمركب منها والغريب فيقول مثلاً:
«ندا صوته في مهد لحده بالريح الصرصر
تشلعت له القلوب لما نضا الجذام فوقنا- عبث الطفل اليباس»
أو يلجأ أحياناً إلى الزخرف شديد البلاغة ملّوناً مطرزاً أسلوبه بين الشعر والسرد كما يقول:
«كذِبنا نحن آباءه الغرباء، فلم نرسل إليه لون الحق، إنما طيَّرنا في سماواته الكالحة الحبر والمصاحف، ليرد الحبر في مطالع النهارات لوناً لدجلة، والصحائف وقوداً لحمامات الإسكندرية».
إضافة إلى أن لغة أحمد لا تخضع إلى مجانية انتهاك المحرمات، أو الاتكاء على الأسطوري، إلا بقدر ما توظفها لخدمة غرضها الخاص، أي التعبير عن ذاته هو فقط. كذلك يعتمد في معظم نصوص الكتابين على الكتابة الشذرية أو مطولات متقطعة تحمل عنواناً واحداً وكأننا أمام عدسة كاميرا سينمائية ترصد الواقع يبدع شاعرنا من خلالها في خلق صوره الشعرية المكثفة التي تخدم غرض الشعر (المتعة والدهشة والحداثة فكرةً ومعنىً) وغرضه الفكري الخاص في إزاحة الستارة عن عُري فاضح متزين لعالمٍ متهالك. فهو الساعي أبداً لنبش قبور ذواته وطبقاتها، ليصل إلى ما يسميه هو نفسه (DNA) الخاص به، كذلك يسعى إلى اختبار ألمه وتجاربه ومعارفه، متحداً بقلقه الوجودي ومتمرداً على طين وجوده الأصلي. فالشعر لدى أحمد م. أحمد خطأ مطبعي في متحف الجثث البشرية المتفسخة والحية منها، التي تتمشى على أرصفة الشقاء اليومي فهو «الذي يرى، والذي عُمي» محاولاً القبض على غبار الأرواح التالفة في مصنع التاريخ البشري الذي لم يعد ينتج كما يرى سوى الآلات الإنسانية المروّضة والعبيد السعداء. فهو يكتب بحساسية فريدة، وقصيدته رؤيوية ومثقفة، تحضر موسيقاها لتخلق المفارقة، والقفلة المخاتلة، كذلك هي مفتوحة على الذات والتشظيات والتجارب، التي تزاوج بين الرؤيوي واليومي الشفوي، وتنفتح لاستيعاب السرد بتقنية النص المفتوح فنراه يقول:
«سيسعل صاحبك كي يذكر نفسه
بأنه لا يزال في حيزهم فلا يتعرى من نفسه
وأنه هنا، يجر وراءه اسم «أ.م.أ»
ويشبك بقية أصابعه، بقوة،
بأصابع الانتحار».
الوطن المنفى والمنفى الوطن:
ينتمي أحمد م. أحمد زمنياً لجيل الثمانين من أمثال الشعراء، منذر المصري وبندر عبد الحميد ورياض صالح الحسين، ولذلك يشبههم بكونه ينتمي لجيلهم المهزوم، ولأن السوري لم تخلُ قصيدته يوماً من مفردة الحرب، ربما استبطاناً، أو استشرافاً لمستقبل بات راهناً، فأحمد يقدم لغة حقيقية وليست محايثة محاولاً تمثيل الشتات والنجاة ما أمكن، ومهزوماً أمام اللغة البديلة والتفاوت الحضاري. ونلحظ وقع هذه الهزيمة يتردد طولاً وعرضاً في قصائد ديوانيه، فتكرر مفردة السوري وسوريا مرادفه للفاجعة والنكوص والخيبة فيقول:
«وها أنا أتساقط
سورياً.. إثر سوري»
وفي موضع آخر:
« هنا سوريا
لا تني تنوس منذ سبعين قرناً
بين كذبة الراعي
وقرن الثور»
ولأن «الشعراء ليسوا طيوراً مهاجرة» كما يقول رسول حمزاتوف فانتماء أحمد م. أحمد ليس لأيديولوجيا سكونية مغلقة، فجرح فرديته النازف كونه إنساناً جعلته يجد حياته في الولايات المتحدة لقرابة (13) عاماً جعلته ينتمي لجرح أوسع هو الإنساني المستنزف شرقاً وغرباً فيقول:
«كلما فتحت علبة طعام
في هذه الـ US أشم فيها
رائحة دم أهلي».
وتحضر مفردة الحرب بكثرة في ديوانه الأخير «أصيد طائر الكوليريدج» تارة مختلقة بعبق دمشق وتارة بزفيرها الحامض من واقع الخراب الممتد فنراه «يضحك دامعاً كطفل بال في الحرب» «وتمتلئ رئتاه برائحة الجثث» أو يستدعي «برد الله ليسفع زهره» عله يفر منها أي الحرب.
ثم يصف وطنه – المنفى فيقول:
«أيها الوطن،
كان كل ما فيك يتهتك
كبدلة عسكري تحت شمسٍ وماءٍ غريبين
كل ما في شريانك يتقطر
في مصفاة شرهة، محايدة.
لمَ لِم تبق لنا في هذا الحياد راحاتٍ
نمسح بها جباه قتلانا
ونحن نطيل التحديق في الأعالي
في روث الغابرين»
هذا الوطن ـ المنفى – الواقع الذي تجاوز في بشاعته الخيال، عن جرو يترنَّم بأغنية، وموتٍ أنيق بنيران صديقة، عن شاعر يتغطَّى بساعات سلفادور دالي، عن سرَّتها والماء، وعمَّن يتدرَّبُ على الغرق الأكيد، عن الطفل السوري الذي قال:
«سأُخبر الله عن كل شيء»
أن غياب أحمد م. أحمد في ذواته المتضاربة وحضوره المتتابع، وهو الممسك بقياد قصيدته البكر وموجها المتكسر على شواطئ الوجود الحتمي الفاني، ومتعلقاً بطائرٍ أبدي يسمى الروح، حاملاً نعشه لا غير هو خلاصة ممتعة لمغامرة شعرية «تتفصد الظلال بالدم» لتصحيح أخطاء الكون شعرياً، وطرافة الفكرة وعبثتيها يحيل المأساة إلى بعد أخير، أو هكذا يبدو لنا كقراء لنصدق صراخه الكبير والمفعم باليأس:
«الكنز في يديك، يا قابض الريح والغبار»
فتجربة أحمد م أحمد تسمى اصطلاحاً بلغة كانط «لعب بالمظهر» دون أن يتحول إلى خداع للناس، ولذلك فإنه ينبغي أن لا يزعم بأنه ينتج معرفة منبثقة عن الحدس أو التجربة لأنه لا يعتمد على المفاهيم العقلية، أي مجرد انبثاق عن مملكة النفس التي تحرض العبقرية على التجلي. ذلك أن الشاعر يمتلك جرأة خارقة على جعل اللامرئي محسوسا ومشارا إليه.

شاعر وكاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية