على وقع حالة «اللايقين السياسي» الذي تعيشه ليبيا بعد تأخر المفوضية العليا للانتخابات في الإعلان عن القائمة النهائية للمرشحين إلى الانتخابات الرئاسية، تبقى الرهانات للخروج من المشهد السياسي الليبي المأزوم مفتوحةً على طروحات وخيارات معقدة بحساباتها ونتائجها، وذلك في ظل مسألتين جوهريتين يمكن لأي متابع للشأن الليبي أن يقف عندهما.
المسألة الأولى، أنّ الانقسام حول موضوع الانتخابات ما زال حاداً وعميقاً بين معسكرين اثنين، وحتى داخلهما، أحدهما يُمثّل الشرق الليبي وأبرز مرشحيه اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ورئيس البرلمان عقيلة صالح، والثاني يُمثّل الغرب الليبي وأبرز مرشحيه رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، ووزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني فتحي باشاغا، وما بين مرشحي هذين المعسكرين، يظهر سيف الإسلام القذافي كأحد أهم المرشحين الذين يهدد هذه الأسماء، خصوصاً مرشحي الشرق الليبي، على اعتبار أنّ مدينة سبها في الجنوب الليبي، التي تعتبر معقلاً لبعض القبائل المتحالفة مع «قوات شرق ليبيا» التابعة لخليفة حفتر، تعد أيضاً مركز نفوذ تقليدي لقبيلة القذاذفة التي ينحدر منها القذافي.
أما المسألة الثانية فهي إصرار المجتمع الدولي، ودفعه نحو إنجاز هذه الانتخابات في موعدها المحدد 24 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، أي بعد أيام قلائل، في بلد يعيش كل أشكال الانقسام الداخلي، وتغيب عنه أي شخصية وطنية توافقية، وأغلب مرشحيه عاجزون فعلياً عن التنقّل في أغلب أرجاء البلاد. في ظل هاتين المسألتين يمكن الحديث عن ثلاثة طروحات أساسية تتعلّق بالانتخابات الرئاسية الليبية، وانعكاساتها على الوضع الداخلي، في ظل استمرار حالة «اللايقين السياسي» الناتجة عن الاصطفافات السياسية، بين مؤيد ومعارض، وحسابات الانقسام السياسي والأيديولوجي، والأولويات المتزاحمة.
المطلوب إنجاز انتخابات تكون خطوة في طريق استمرار العملية الديمقراطية، وقطع الطريق على كل احتمالات العودة إلى الوراء
*الطرح الأول، إجراء الانتخابات الليبية بموعدها المحدد، على الرغم من كل الجدل والخلافات المستمرة حول شرعيّة مختلف المرشحين، وحتى شرعيّة الانتخابات نفسها. طبعاً هذه الطرح يدفع به المجتمع الدولي والعديد من القوى الفاعلة داخلياً وخارجياُ، في ظل اعتقادهم الراسخ بأنّ إقامة الانتخابات في موعدها المحدد، وفقاً للخريطة الأممية للحل الليبي، ستكون دواءً لكل داء، الأمر الذي يُوحي بأنّ الهدف الأساسي الذي يسعى المجتمع الدولي إلى تحقيقه هو إجراء الانتخابات ثم معالجة النتائج. وبالتالي يُمثّل العامل الأممي هنا عنصراً محدّداً رئيساً في المشهد الانتخابي، على الرغم من أنّ هذا الطرف لا يبدو أنّ لديه رؤية واضحة عن الاستحقاق الانتخابي، أبعد من كونه هدفاً في حد ذاته، لا وسيلة لإنجاز انتقال سلس على المدى البعيد، يتيح بدء العمل على إعادة بناء الدولة، ما يدفع للقول إنّ الدعوة إلى الانتخابات وسط هذا المناخ السائد ستؤدي حتماً إلى فترة مطولة من عدم الاستقرار والفوضى، بعد انقضاء الانتخابات، على اعتبار أنّ الطرف الخاسر لن يعترف للطرف المنتصر بانتصاره، حسب التصريحات التي خرجت من قبل الكثير من المرشحين البارزين.
*الطرح الثاني، تأجيل الانتخابات الليبية لفترة زمنية محددة، يتم الاتفاق عليها بين الفاعلين الداخليين وبرعاية إقليمية ودولية، لحين تسوية الخلافات الداخلية، والاتفاق على الوثيقة الدستورية، وقوانين الانتخابات الناظمة لهذا الاستحقاق. هذا الطرح تدفع به بعض القوى الداخلية، خصوصاً تلك المحسوبة على الغرب الليبي، إلى جانب بعض الفاعلين الإقليميين الذين يعتقدون أنّ هناك ضرورة ملحّة لجلوس الأطراف الليبية الرئيسية إلى طاولة الحوار، وتقديم التنازلات المتبادلة، والتعامل مع الخلافات في إطار مؤسساتي بعيداً عن الشخصنة، وتغليب منطق الحوار ومنطق التعقل السياسي، لتصحيح الأخطاء المتمثلة في عدم التوافق بين الأطراف السياسية، منعاً لعودة الاقتتال والحروب، التي ستخلق مشاكل معقدة على المديين القريب والبعيد. وفي إطار هذا الطرح، تم تقديم مجموعة من المبادرات، كان آخرها مبادرة المجلس الأعلى للدولة، التي تضمنت تأجيل الانتخابات لشهر شباط/ فبراير العام المقبل، مع إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية متزامنة وفقاً للقانون رقم (4) لسنة 2012، وتكون المهمة الأساسية لمجلس النواب المنتخب، هي إنجاز الاستحقاق الدستوري.
مع الإشارة هنا إلى أنّ الحراك الداخلي الليبي، الذي يقود مساعي تأجيل الانتخابات يتزامن مع توجّه بعض القوى الإقليمية الفاعلة في الملف الليبي، إلى الذهاب أيضاً في خيار التأجيل، في محاولة لإعادة ترتيب الأوراق، بما يسمح بالتوافق على شخصية قادرة على قيادة ليبيا في المرحلة الراهنة، إلى حين التوصّل إلى صيغة دولية جديدة بين الأطراف الفاعلة في ليبيا.
*الطرح الثالث، إلغاء الانتخابات الليبية، وهذا الطرح يعتبر من أخطر الطروحات التي يمكن أن تحصل، على اعتبار أنّ إلغاء الانتخابات سيترتب عليه تعليق الانتقال السياسي بالكامل، وبالتالي استمرار حالة الانقسام في البلد وفي المؤسسات، مع ما قد يترتّب على ذلك من زيادة الاستقطاب وعودة الاقتتال.
في المحصلة، يمكن القول هنا، إنّ العبرة من إجراء الانتخابات الليبية – حسب المنطق والعقل – هي نقل البلاد بموجب الانتخابات من حالة الفوضى والانقسام إلى حالة جديدة من الأمن والأمان وتوحّد المؤسسات، وبالتالي ليس المطلوب هنا مجرّد إنجاز الانتخابات كعملية ديمقراطية تُوصل شخصا لتسلّم رئاسة الدولة في دولة مقسمّة سياسياً ومناطقياً وجهوياً، بل المطلوب إنجاز انتخابات تكون خطوة في طريق استمرار العملية الديمقراطية، وقطع الطريق على كل احتمالات العودة إلى الوراء. فالتسريع بإنجاز الانتخابات الليبية في ظل الانقسام الحاد، وعدم اتفاق القوى السياسية والاجتماعية على قواعد اللعبة والتزامهم بقبول النتائج، لن يفتح الطريق إلى الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، بل على العكس سيفتح الطريق على مرحلة جديدة من الصراع، تجعل الليبيين يدفعون الثمن مجدداً ويعودون إلى كابوس الحرب والاقتتال، لذا فالأولى هنا وقبل إجراء الانتخابات، أن يتم عقد جلسات حوار وطني جامع، يكون مقدّمة لإنهاء حالة الانقسام السياسي والجهوي والمناطقي، ويعمل في الوقت نفسه على توحيد المؤسسات المنقسمة، وسحب السلاح وإخراج المرتزقة، إلى جانب صياغة قوانين انتخاب تحظى بقبول الجميع، مع وضع سقف زمني لإنجاز كل تلك المتطلبات، قبل البدء بتدشين مرحلة جديدة لعهد جديد يبدأ بانتخابات حرة ونزيهة وشفافة، تحظى باعتراف دولي وقبول شعبي وتفتح الآفاق لليبيا جديدة بعيدة عن التوترات والتجاذبات.
كاتب سوري